دعوة لكتابة الدستور علي أسس الشريعة

بقلم: رأفت تادرس

"الشريعة" هي كلمة علي كل لسان وفي كل فم؛ فلا يخلو يوم دون أن نسمع عنها. تذكرها وتناقشها وسائل الإعلام سواء باقتضاب أو استفاضة، بالترحيب أو بالرفض، باليقين أو الحيرة. وإن كان هذا هو حال الميديا، فما بالك بالحوارات الخاصة في البيوت والأشغال ووسائل المواصلات وغيرها. في كل الأحوال ذكرها مضمون ومضمون معها أيضًا الحماسة الشديدة سواء معها أو ضدها.

ولعلك تتفق معي أيها القارئ العزيز إنه ليست هناك أي حسابات دينية أو سياسية أو اجتماعية لمستقبل "مصر" بدون الرد على هذا السؤال الملح والهام!

أما أنا فلدي سؤال أراه أكثر أهميةً وإلحاحًا واستعجالًا لأن لا غنى عنه لكي تتضح الأمور:
ما هي الشريعة؟ ما هو محتواها ومصادرها؟
أي المدارس أو أي من الأئمة الأربعة سيكون له السيادة في حال الاختلاف؟
منْ هو المنوط شرعًا بتحديد أحكام الشريعة؟ هل هو الحاكم أم البرلمان؟ ألعله الأزهر؟ أم ستهبط علينا الأحكام بفتاوي من "مكة"؟! الحق إني لا أستبعد أيضًا أن يتم تكليف الشيخ- الشبة الرسمي-"محمد حسان" بهذه المهمة!

كيف تبدو المساحة الرمادية؟ بمعني ما هي مساحة ما هو متروك لتأويل الحاكم أو المشرِّع أو حتى لتقلباته المزاجية؟ وما هي الأمور التي لن تُحسم مطلقًا لأنها سنترك لفتاوي المفتي أيًا كان؟

لمنع الخلط والتشويش، أرجو أن يكون المطلب واضحًا للجميع: ما نطالب به ليس هو علم الشريعة كما يدرسها المشايخ في الأزهر وغيره من المعاهد الإسلامية، لكي لا يقول قائل إن العلم متاح في هذه المعاهد وغيرها بل وعلى الإنترنت.

ما نطالب به هو "الشريعة السياسية" التي تترجم الشريعة إلى لغة قانونية صالحة للاستخدام كما تريدون أن تبنوا عليها الدستور والقانون، والتي ترونها صالحة لأن تنظم حياة المجتمع بكامله من جهة السياسة والدستور والقضاء والمحاكم بل والجيش والوزارات والمحافظات (التي أصبحت من مواضيع الساعة)، وصولًا إلى علاقة "مصر" بالعالم الإسلامي. وهل تضمنون وتضمن الشريعة استقلالية "مصر"؟ أم أن النية والخطة تتجهان صوب "أمة إسلامية" تكون "مصر" مجرد ولاية فيها؟!!

كما أرجو بمنتهى الوضوح، أن نتفق على أن ما نذكره في هذا السياق تحت مسمَّى الشريعة هي فقط هذه الشريعة السياسية بحسب هذا التعريف.

لا تقولوا لنا إن هذا أمر يحتاج إلى دراسات وجلسات، وهناك تصريحات يومية نسمع عنها بخصوص رؤية سياسية وخطط من "حكومة الظل الإسلامية"، تشير إلى إعادة كتابة الدستور ليصبح إسلاميًا، وتعديل القوانين لفرض الشريعة على مختلف أوجه الحياة في "مصر"، مما يزيد السؤال إلحاحًا: ما هي "مسودة" هذه الشريعة أو الطرح الأولي لمثل هذا الدستور ومثل هذه القوانين؟

أكتب اليوم كقبطي ينشر له موقع قبطي، وأحسب أن كثيرًا من إخوتنا المسلمين لن يستطيعوا مجاراة جهابذة الفقة ونجومه الذين هم الآن نجوم صالونات وضيوف في معظم الفضائيات في علوم الشريعة، فلا تلوموننا إذا كان كل ما نعرفه عن الشريعة هم فقط ثلاثة قوانين أو بنود، وهم "قطع يد السارق" و"جلد الزاني" و"قتل المرتد عن دين الإسلام"، وهو بالفعل كل ما نسمعه عند الحديث عن الشريعة. ولا أظن إنكم تريدون أن تديروا دولة ذات (85) مليونًا بهذه القوانين الثلاث؟

هدف وضرورة:
من على هذا المنبر، أدعو لحملة قومية للرد على سؤال الساعة: ما هي الشريعة؟

وللرد على كل هذه الأسئلة المطروحة أعلاه وغيرها الكثير مما سيرد لاحقًا، الهدف هنا هو إخراج الشريعة السياسية في صورة واضحة وملزمة تتيح لكل المصريين الفرصة لتكوين آرائهم بخصوص قبول هذه الصياغة أو الاعتراض على بعض تفاصيلها أو عليها جملة. هذا إذا كانت آراء الناخبين من أبناء "مصر" المخلصين لها أية أهمية!
بعض المخاوف المبرَّرة:
من الخطأ الذي قد يصل إلى درجة الاستعباط أن يخرج علينا أحدهم بمقولة أن القرآن والسنة هما الشريعة السياسية. فهذه النصوص هي، كما هو معروف للجميع، ليست نصوصًا تشريعية بل دينية. والفرق هنا واضح، فنحن نحتاج إلى دستور وقوانين مكتوبة بما هو متعارف عليه لدى كل العالم من لغة قانونية ودستورية لها طابعها الخاص جدًا.

من ناحية أخرى، هناك الآلاف من الأئمة ومن مصادر السنة وكتب تفسيرها. ولعل للجملة الشهيرة "اختلف العلماء" التي يبدأ بها كل نص تفسيري دلالة على إتساع احتمالات التفسير. لذلك نطالب كل منْ يدعو لتطبيق الشريعة أو إعلان دولة بمرجعية إسلامية، بأن يحوِّل مفهومه للشريعة السياسية إلى بنود دستورية وقوانين بالصيغة المتعارف عليها.

البنود المتَّفق عليها للشريعة السياسية لا تتعدى أصابع اليد الواحدة، وعلى النقيض من ذلك فإن الاختلافات في بقية البنود تتركنا أمام بحر واسع من الاختلافات التي تصل إلى حد النقيض الصارخ..

بناءً على الملحوظة السابقة، لن يمكننا توقُّع أي نوع من الإتفاق بين التيارات الإسلامية المختلفة حول أبسط بنود الشريعة السياسية. هنا لابد أن نطالب كل الأطراف المعنية؛ مثل الأزهر، المرشَّحون بصبغة إسلامية لكل من مجلسي الشعب أو الشورى أو مرشحي الرئاسة، الإخوان المسلمين، الجماعات السلفية على كثرة أطيافها، بل وكل من يطالب بتطبيق الشريعة من كتاب ومفكرين وأئمة- بالإعلان عن مثل هذا الدستور الإسلامي كما يفهمونه ويريدون فرضه.

في هذا السياق، لابد من معايير وضمانات كافية لأن تكون الصيغة التي يطرحها كل من السادة المعنيين أو الفئات والتيارات المعنية، صياغة وافية وحصرية وملزمة لأطرافها حتى لا تحدث مفاجآت سخيفة من نوع "دي كانت نكتة"، أو "ده مكانش قصدي" كما اعتدنا عليه لشديد الأسف من أُناس المفترض فيهم حد أدنى من الحكمة والحنكة اللائقتين بالموقف والظرف!

الوقت ليس في صالح هذه القضية، خاصةً وإنهم حتى الآن يبيعون لنا "سمك في مية" كما يقول المثل العامي! والأمر متروك لكل شخص ليفهمه كما يريد ويتمني، بل وحتي كما تمليه عليه مصالحه، مما يعني بالضرورة تضاربًا مع الفهم الشخصي أو الفئوي لكل المعنيين وبالتالي إحباطًا عامًا عند الحياد عن تصور كل شخص أو فئة.

أرجو أن لا نتواجه في النهاية بلجنة مختصة بتحديد الشريعة السياسية ونحن لا نعرف من اختارها ولماذا؟ ثم يتلاقون في غرف مغلقة ويخرجون علينا بقرارات للاستفتاء بمبدأ "Eat or die"، أو كما يقول المثل الغربي "إما ان تقبل هذا أو تموت"!
ملاحظتان لابد منهما:
النص الوحيد الذي رأيته بمثل هذه الصياغة لبنود دستور مبني على مبادئ الشريعة الإسلامية هو ما كتبه الأستاد "سيد القمني" منذ حوالي الشهر، إذا لم يعلن المختصون عن صياغتهم الخاصة لدستور يعبِّر عن الشريعة السياسية بفهمهم، فلنا الحق أن نعتبر صياغة الأستاذ القمني ملزمة لهم.

في سياق السؤال الفرعي عن منْ هم المنوطون بكتابة الدستور الجديد والقوانين النابعة منه على أساس الشريعة السياسية، طرحنا عدة أسماء؛ كالأزهر، أو الحاكم، أو البرلمان، أو حتى "مكة"! بالطبع وجود لجنة لهذه المهمة اقتراح وارد، وهنا يأتي السؤال الذي يؤرقني: هل سيُسمَح لأقباط "مصر"- عمدًا لا أذكر البهائيين مثلًا لكي لا أثير مناقشة جانبية لا طائل من ورائها- هل سيُسمح لهم أيضًا بالمشاركة في مثل هذه اللجنة أو حتى بتقديم اقتراحهم بصياغة لمثل هذه الشريعة السياسية؟! أخشى أن حتى التردُّد في الإجابة علي هذا السؤال يثير قضية غير المسلمين بكل جراحاتها وآلامها علي غير المسلمين.

أختم هذه المقالة بإعادة المطالب مرة أخرى، حتى تكون هذه بداية لحملة قومية أو على أقل تقدير مدنية أو حتى قبطية، للمطالبة بدستور إسلامي مكتوب وملزم وغير قابل للتغيير من كل منْ يطالب بدولة ذات مرجعية إسلامية. وحلمي هو أن ينتشر هذا السؤال بين كل طبقات الشعب حتى يكون هناك ضغط شعبي واضح لمثل هذه الصياغة شديدة الأهمية للجميع.

وللحديث بقية..
مع خالص شكري وتقديري