الأقباط متحدون - التنمية الزراعية والدروس المستفادة من دول الجوار
  • ٠٨:٥٥
  • الثلاثاء , ٢٦ ديسمبر ٢٠١٧
English version

التنمية الزراعية والدروس المستفادة من دول الجوار

د. نادر نور الدين

مساحة رأي

١٥: ٠٨ ص +02:00 EET

الثلاثاء ٢٦ ديسمبر ٢٠١٧

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية

نادر نور الدين محمد
مع مشروعات الاستصلاح القومية الكبرى، السؤال الذى يطرح نفسه هو: هل يمكن أن تقود الزراعة التنمية وتحسين الاقتصاد فى بلدنا؟! والإجابة عن هذا السؤال بأن الزراعة يمكن أن تقود التنمية وتأخذ بيد الاقتصاد والناتج المحلى فى بلاد الوفرة المائية فقط، كما حدث فى البرازيل، حيث يوجد نهر الأمازون الذى يستحوذ على خُمس مياه العالم (20%)، كما تتمتع بأعلى معدلات أمطار وبأعلى نصيب للفرد فى المياه، ويتعدد فيها المناخ والأقاليم الزراعية من الزراعات الاستوائية إلى الزراعات الدافئة، وتسود فيها الزراعات القائمة على الأمطار جنبا إلى جنب مع الزراعات المروية. وفرة المياه قادت البرازيل مع لولا دا سيلفا، زعيمها الأسبق، إلى أن تكون أكبر دولة فى العالم منتجة ومصدرة للحوم والدواجن والسكر وزيت الصويا والوقود الحيوى وغيرها الكثير.

أما فى البلدان متوسطة الوفرة المائية، فيسود فيها الاقتصاد المختلط والمتنوع بين الزراعة والصناعة، كما يحدث فى دول الاتحاد الأوروبى والأرجنتين والولايات المتحدة، حيث يجتمع الإنتاج الزراعى الوفير مع الصناعة، بهدف الاكتفاء الذاتى الممكن من الإنتاج الزراعى المتناسب مع المناخ. فالولايات المتحدة- على الرغم من كونها الدولة الأكثر تقدما فى الصناعة- تسيطر على 28% من أسواق السلع الزراعية، وكانت تستخدم بعض السلع كغذاء وسلاح قبل تطبيق قوانين تحرير التجارة، فى عام 1993، وتعدد أسواق السلع الزراعية، حتى إن مصر خرجت حاليا من أسواق استيراد القمح الأمريكى، دون خوف، ولا وعيد، وتحولت إلى الاستيراد من روسيا ودول البحر الأسود، وبالمثل تبعتها أيضا العراق واليمن وبعض دول الخليج والمغرب العربى، بما يمثل الثقل المصرى فى التوجهات وربما تكون رسالة إلى روسيا التى نستورد منها قمحا وحبوبا بنحو 4 مليارات دولار، ولو تحولنا عنها لتحولت معنا دول عربية وأفريقية، والمطلوب فقط الاعتدال الروسى فى التعامل مع مصر وسلعها، بدلا من التشدد الحالى.

الوضع يختلف فى دول الفقر المائى، التى يقل فيها نصيب الفرد من المياه عن ألف متر مكعب فى السنة، كما هو الحال فى مصر التى وصل فيها نصيب الفرد إلى أقل قليلا من 600 متر مكعب فقط فى السنة (ناتج قسمة مواردنا المائية البالغة 62 مليارا على عدد السكان البالغ 104 ملايين) حيث ينبغى أن تكون التوجهات نحو التنمية الصناعية أولا، ثم تطوير الزراعات القائمة فى الأراضى القديمة التى تتسم بضعف الإنتاجية والوصول بها إلى المعدلات العالمية باستخدام التقاوى والبذور عالية الإنتاجية وإضافة الأسمدة الكيميائية بالمعدلات الموصى بها عالميا قبل التفكير فى التوسع الزراعى وتخضير الصحارى، خاصة أن المياه الجوفية مورد ثمين ونادر، وينبغى حسن استغلاله.

ويرى الراحل العظيم رشدى سعيد أن الأراضى الصحراوية مهدرة للمياه، وأنها ليست للزراعة، بل للصناعة والتعدين، وربما التوسع العمرانى. ولنا فى الدرس المستفاد من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات ما يوضح الأمر، حيث توسعت المملكة فى زراعة القمح وغيره من المحاصيل، وأيضا دولة الإمارات، حتى استنزفت تماما كامل مخزونها من المياه الجوفية قبل أن تعلن من نحو عشر سنوات عن التوقف عن استنزاف المياه الجوفية الثمينة فى زراعة الصحارى القاحلة الجافة الحارة فى الزراعة والتوجه إلى الزراعة فى الخارج خاصة فى أفريقيا وآسيا الأقرب جغرافيا، وربما تبحث هذه الدول حاليا عن وسيلة لإعادة شحن ما استنزفته من مياهها الجوفية بشراء المياه من دول الوفرة المائية القريبة وهو ما قد يضر بمصر بشكل كبير، إذا لم تتنبه هذه الدول بألا يكون ذلك على حساب مقدرات الشعب المصرى.

الزراعة هى المستنزف الأكبر للمياه العذبة فى العالم، وتستهلك عالميا نحو 70% من موارد المياه العالمية، ويتراوح الرقم فى أفريقيا والدول النامية من 85- 93% والتى من بينها مصر، بينما لا يزيد فى الدول الصناعية عن 30% فقط. ففى مصر يستهلك قطاع الزراعة نحو 57 مليار متر مكعب سنويا، من إجمال الموارد المائية المصرية، وليس مياه النهر فقط، بينما لا يسهم بأكثر من 13% من إجمالى الناتج المحلى.

وفى المقابل، استهلاك القطاع الصناعى فى مصر من 3- 5 مليارات متر مكعب سنويا، ولكنه يسهم بنحو 36% من الناتج المحلى، وهذه الأرقام حتى عام 2010، قبل الركود الصناعى الحالى وغلق بضعة آلاف من المصانع لأسباب مختلفة. هذه الأرقام توضح أن مستقبل الدول الفقيرة فى المياه فى الصناعة، وليس فى التوسع الزراعى، وأيضا توضح أن التنمية الزراعية تكون بزيادة إنتاجية الأراضى الحالية باتباع التقنيات الحديثة فى الزراعة، وفى أصناف التقاوى والزراعات القائمة، بحيث يكون الهدف الأسمى للتنمية الزراعية هو إنتاج غذاء أكثر من مياه أقل، وأن ننفق على البحث العلمى الزراعى بسخاء، من أجل إنتاج حاصلات أكثر تحملا لارتفاع درجات الحرارة وللجفاف والعطش، وأن نقلل من فترة مكثها فى الأرض، كما حدث مع الأرز المصرى الذى أصبح الآن يمكث أربعة أشهر فقط، بدلا من ستة أشهر فى الماضى، فوفرنا معه مياه رى لمدة شهرين. فتغيرات المناخ تعنى الاحترار العالمى وارتفاع درجات الحرارة، ومعها التبخير، وبالتالى فإنتاج الغذاء فى المناخ الأعلى حرارة سوف يستهلك مياها أكثر لإنتاج نفس القدر الحالى من المحصول، بالإضافة إلى زيادة البخر من الترع والقنايات المائية فيتضاعف معه استنزاف واستهلاك المياه وربما تلوثها، وأيضا تملّح الأراضى. لهذا كان لا بد من إعمال الفكر والعلم معا قبل أى قرار فى التوسع الزراعى باختيار المواقع الأكثر اعتدالا فى المناخ والأقل احترارا لوقف نزيف استهلاك المياه، ولذلك كانت كل مشروعات التوسع الزراعى الناجحة فى الشمال فقط وحول الدلتا، مثل مديرية التحرير والصالحية والنوبارية ووادى الملاك والإسماعيلية ووادى النطرون، بينما لا توجد مشروعات زراعية ناجحة فى الجنوب وتوشكى مثالا، بينما شرق العوينات استثناء لاعتدال المناخ بها، لوقوعها فى حضن جبل العوينات، ولوجود مياه جوفية متدفقة ومتجددة، بخلاف باقى مناطق مصر، حيث المياه الجوفية غير متجددة وناضبة ومالحة أيضا. حتى فى الأراضى القديمة فالمحصول فى محافظات الجنوب فى أسوان وقنا وسوهاج يستهلك ضعف المياه لنفس الزراعات فى الدلتا، ويعطى إنتاجا أقل. هذا ليس معناه أهمال الصعيد فى التنمية، ولكن ينبغى استثمار المواد الخام الموجودة فى الصعيد من طَفلة وحديد وكربونات كالسيوم (جبال البر الشرقى) وغيرها فى التنمية الصناعية وإقامة مصانع الأسمنت والسيراميك والحديد والأمونيوم والأثاث والأسمدة وغيرها، مطبقين سياسات «الاقتصاد الأزرق»، أى الاقتصاد المعتمد على الموارد الطبيعية المتاحة، بالإضافة إلى أن الصناعة أكثر استيعابا للعمالة، حيث يستوعب المصنع المقام على فدان أرض صحراوية مائة ضعف العمالة المقررة لنفس الفدان، عند زراعته، كما أن دخل العامل فى القطاع الصناعى يزيد بمقدار من 6- 15 ضعفا عن العامل فى القطاع الزراعى، وهو ما يحتاجه الصعيد الطارد لأبنائه، بزيادة فرصة العمل ومحاربة الفقر به، بالدخول الأعلى للصناعة.

وعند الاختيار للزراعة ينبغى التوجه إلى الزراعات عالية الدخل، مثل الزراعات الأورجانيك أو إنقاذ السلع التصديرية التى توطنت أمراضها فى الأراضى القديمة، مثل البطاطس والبصل والطماطم، فأوروبا وأمريكا تستورد كل الإنتاج الأورجانيك من إثيوبيا وتنزانيا وأوغندا وبأسعار تقترب من ستة أمثال أسعار الأغذية المنتجة تقليديا، فالزراعة فى الصحراء مكلفة للغاية، وهى ليست للزراعات التقليدية المنخفضة الأسعار.

المياه مورد ثمين للغاية، وإهدارها أو عدم الاستفادة من تجارب الدول المجاورة يعد تغييبا للعقل وتغليبا للحماس والاندفاع غير المحسوب.

* كلية الزراعة جامعة القاهرة

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع