هذا الصرحُ الهائل ليس صرحًا تشييديًّا بنائيًّا من خرسانةٍ وأحجار وزجاج وزخارف وأخشابٍ يتيهُ به المعماريون خُيلاءً، وتفخر بتصميمه الهيئةُ الهندسية بالقوات المسلحة المصرية، كما يفخرُ بوجودها على أرض مصرَ كلُّ مصرى شريف. إنما هو صرحٌ حضارى تحضُّرى، ورسالةٌ أخلاقية إنسانية، من مصر إلى العالم. زهراتُ اللوتس العظيمة التى تحتضنُ قبابَ الكاتدرائية، تتكلم. تحكى. تقول للعالم بلسانٍ مصرى: «إن مصرَ بلدٌ تعددى لا يقبلُ القسمةَ ولا الإقصاء، ولا محلَّ بأرضها لمتطرفٍ ولا إرهابى ولا حاقد». هذا الصرحُ المعمارى الهائل الذى أقفُ أمامه الآن مزهوةً ببلادى، هو صفعةٌ مُدوّيةٌ على وجه الإرهاب والتطرف، وعلى وجه كلّ أعداء مصر من عصابة الشرّ داخلها وخارجها. كلُّ سنتيمتر من العشرة آلاف متر مربع فى كاتدرائية «ميلاد المسيح» بالعاصمة الإدارية الجديدة، يحمل فكرةً، ويحمل عهدًا، ويحملُ قولاً ناصعَ الوضوح عظيمَ البيان. بدايةً بالاسم الذكى الذى اختاره مبدعٌ لذلك الصرح: «ميلاد المسيح»، مرورًا بالتصميم المعمارى الفريد: «على شكل صليب»، وليس انتهاءً بتوقيت القرار والتشييد وتوقيت الافتتاح: «عيد الميلاد المجيد».
اسم «ميلاد المسيح»، قد يشير إلى أن توقيت قرار الرئاسة بإنشاء الكاتدرائية، وتوقيت افتتاحها والصلاة فيها، قد تزامنا مع ذكرى عيد الميلاد المجيد عامى: ٢٠١٧- ٢٠١٨ على التوالى. ففى قداس الميلاد العام الماضى، وعد وتعهّد السيد الرئيس عبدالفتاح السيسى بإنشاء أكبر كاتدرائية فى مصر والشرق الأوسط، ووضع أول قرش فى بنائها من جيبه الخاص، ويوم الجمعة الماضى ٦ يناير تم افتتاحها وإقامة قداس الميلاد المجيد هذا العام ٢٠١٨. لكن الفكرة وراء اختيار ذلك الاسم الذكى، أبعدُ من هذا وأعمق. وهذا ما شرحه لنا قداسة البابا تواضروس فى الحفل قائلا: إن كلمة «كريسماس»، التى يقولها العالم أجمع، كلمةٌ مصرية فرعونية قديمة. فكلمة «ماس» mas تعنى «ميلاد» باللغة المصرية القديمة. وكلمة «كريست» Christ تعنى السيد المسيح، عليه وعلى أمّه البتول السلام. فتكون Christ-mas «ميلاد المسيح»، كلمةً مصرية قديمة، ينطقها العالمُ أجمعُ بلغتنا الأم.
لكن الكاتدرائية لم يكتملُ بناؤها بعد. مازال العملُ فيها قائمًا. وفى هذا رسالةٌ أخرى رائعة. حتى عدمُ اكتمال بنيان الكاتدرائية، وافتتاحها بالأمس وإقامة القداس الإلهى بها قبل الانتهاء من تشطيبها، يحمل دلالة ورسالة وقولا وحكاية. فى نُقصانِها تمامٌ، وفى عدم اكتمالها كمالٌ. تمامًا كما قال السيدُ المسيح: «قوتى بالضعفِ تَكمُل». كأنما نُقصانُها يقولُ: «إن العملَ فيها مستمرٌ لا يتوقف». فالرسالات العميقةُ طويلةُ الأمد مستمرةٌ. وكأنما نقولُ للعالم: «إن أيادى مصريةً كثيرةً مازالت كلَّ نهارٍ تذهبُ لكى تضعَ حجرًا فى الكاتدرائية. أيادٍ مصريةٌ مسلمةٌ ومسيحيةٌ تذهب إلى كاتدرائية «ميلاد المسيح» مع كل فجرٍ لتُكمل حجرًا ناقصًا، أو تُعلى منارةً، أو تُركّب جرسًا، أو تُضىء صليبًا، أو ترسم زخرفةً على لوح زجاج. فشكرًا لكل يدٍ مصرية شيدت هذا الهرم الحضارى الباهر.
هذا الصرحُ العظيم ليس ترضيةً لأقباط مصر الرائعين الذين دفعوا الفاتورةَ الأكبر من أجل استقرار مصر ونجاح ثورة ٣٠ يونيو. هذا الصرحُ الهائل ليس مواساةً لأقباط مصر الوطنيين الذين جادوا بدماء شهدائهم على مذابح الإرهاب الأشِر، برضا وصبر مُدهشٍ مُلغزٍ، فأثبتوا، كما شأنهم دائمًا منذ قرون طوال، عمقَ وطنيتهم وحبَّهم العجيب لمصر. هذا الصرحُ العظيم ليس هديةً لأقباط مصر الحزانى على دماء أبنائهم التى سالت فى أعيادهم وصلواتهم وهم صائمون يُصلّون. إنما هو هديةٌ لكل مصرى مسلم شريف، حتى يُحاججَ به أعداءَ الحياة خصوم الفرح، وكأننى وكلُّ مصرى نقول: «أنا مصرى متحضر، أُشيّد بيدى كنيسةً على أرض مصرَ لأبناءِ مصرَ، ليرفعوا فيها اسم الله العلى. وكلّما فجّرتم كنيسةً، ٍسأُشيّدُ بيدى كنيسةً أكبرَ وأجمل. اذهبوا بعيدًا عن أرضنا، فنحن أبناءُ أرضٍ لا تعرفُ الإقصاءَ ولا التطرف ولا البغضاء. أرضُنا أرض السلام، احتضنت رسولَ السلام فى طفولته عليه السلام، لا ترحبُ بأعداء السلام. «كلُّ عامٍ ومصرُ هى مصرُ أرضُ السلام، وميرى كريسماس لك يا مصر من كنيسة ميلاد المسيح عليه السلام».
نقلا عن المصرى اليوم