أنا من جيل يفرح بالكتاب ويحتفى به لأنه يقوى «مفاصلى» المعرفية فلا أنهزم، وهذا ليس كتاباً بالمعنى المفهوم والتقليدى، ولكنه للدقة كسر للنمط الذى اعتاد الناس عليه، إنه يضم بين غلافيه «رؤى نثرية» لشاعرة كبيرة وكاتبة لقلمها مكان ومكانة، شاعرة ترقد قصائدها على أرفف مكتبات الناس فى العالم العربى، شاعرة كويتية كبيرة من أسرة حكام، قابلتها فى مهرجان المربد العراقى وكنت أحمل لأشعارها حباً، لعله كان عربون صداقتنا، وتحاورنا مرات، وفى البيت الأبيض تقابلنا بالكويت وأجريت أطول حوار مع سعاد الصباح تحول إلى كتاب أعتز به. ومنذ أيام وصلنى «طرد» بريدى فى طياته كتاب جديد لسعاد الصباح الصديقة عنوانه «قراءة فى كف الوطن»، وشدنى بيت من الشعر يزين غلاف كتابها، تقول: «لم يبق لى وطن أعود إليه، فاجعل من ذراعيك الوطن» لسعاد الصباح الأديبة مقدرة هائلة على شخصنة العام وتحويل قضايا الأوطان إلى قضايا حياتية، هى التى قالت لى وأنا أحاورها: لا تستأذن فى السؤال، فجعلتنى جائعاً للمعرفة وأجابت عن أسئلة لم أطرحها. تلك إحدى تجليات الشاعرة سعاد الصباح التى تسكن مصر قلبها وتفكر بعقلها فى أحوال اقتصادها وهى الحاصلة على دكتوراه فى الاقتصاد من جامعة القاهرة فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية.
تقول سعاد الصباح: كيف تتغير رؤيتنا من دون أن نتغير نحن؟!
تقدم نفسها هكذا: أنا غزالة من الخليج بين الغزالات التى تولد فى الصحراء وتعشق الصحراء وتموت فى الصحراء.
وعن مهمتها فى الحياة تقول: «أجهل تجارة العقائد والأيديولوجيات وتجارة المبادئ والشعارات، بحثت عن مهمة نظيفة فلم أجد أطهر من إشعال شموع فى ظلام الجاهلية العربية».
وحين تكتب سعاد الصباح عن فضيلة «التواضع» تصفها بقلمها أنها «شرط إنسانى للتفاهم مع الحياة والتصالح معها، أما العجرفة والاستعلاء، فتقطع مع الأحباء وتطمرنا تحت صقيع العزلة!».
تقول الشاعرة الكويتية عن عبدالناصر: «كان كبيراً كالمسافات، مضيئاً كالمنارات كالنبوءات، عميق الصوت كالكهان.. وكان فى عينيه بريق دائم يشبه ما تقوله النيران للنيران!»، وتقول عن مصر «إنى أحمل أحزانى إلى مصر لأنها أكثر البلاد فهما لطبيعة الحزن، وأحمل إليها مدامعى لأنها تعرف جيداً من أين تأتى الدموع»، ولا تنسى د. سعاد الصباح بلدها فتصفه «الكويت بناية ارتفعت بحجارة الحب وبسواعد الكويتيين وعرقهم ودموعهم وضوء عيونهم».
الشاعرة سعاد الصباح الكويتية الأصل تعترف «إن كونى من (عائلة حاكمة) لا يعطينى امتيازا ثقاقياً أو شعرياً، فالعائلة تعطيك جواز سفر تسافر به حول العالم ولكنها لا تعطيك الموهبة التى تسافر بها فى وجدان الآخرين»، ما أروعك بهذا الاعتراف الذى يشهد للموهبة حين تشع ضوءا.
ولهذا يجىء اعتراف آخر «أنا امرأة تحاول أن تعمر بالكلمات كوناً يتسع لسكنى ملايين البشر بصرف النظر عن ألوانهم وأعمارهم وجنسياتهم، أنا امرأة عربية تريد أن تعيد لعقل الأنثى اعتباره بعد عصور من التعتيم كان فيها هذا العقل ملفوفا بالقطن ومحجوراً عليه ومرمياً على رفوف النسيان».
وحين سئلت سعاد الصباح يوماً: «شاعرة ودارسة للاقتصاد، كيف؟!»، قالت فى كتابها «قراءة فى كف الوطن»: أجمع فى راحة يدى قصيدة الشعر ونظرية الاقتصاد ومن نعمة الله علىَّ أننى أستطيع خلال دقائق أن أهرب من صحراء المعادلات الاقتصادية إلى بساتين الشعر ومن جفاف الأرقام والخطوط البيانية إلى أنهار الجنان، ومن منطق الحساب وموضوعيته إلى جنون المشاعر والانفعالات. ولهذا، تعترف سعاد الصباح: «القصيدة هى وسيلتى للاحتجاج والصراخ»، وتصل لآخر المدى: القصيدة هى صمام الأمان الذى يحمينى من انفجاراتى الداخلية!. تقول الشاعرة الكبيرة: «الشهرة هى مكافأة الشعب لمبدعيه». ما أرق طعم العواطف الراقية عند سعاد الصباح، ما أروعها حين تقول «خفف ظهورك على شاشة ذاكرتى»!!، وتقول: أعتذر لك عن سنوات اليتم العاطفى التى عشتها قبل أن تكون سيدى ومليكى»، وتكتب بقلم محبرته حب «يهاجمنى صوتك فى وحدتى كذئب مشتعل العينين يترك جرحاً فى الرقبة وجرحاً فى الذاكرة وطعنة فى خاصرتى»، تقول له «تعال أوقع معك اتفاقا أستعيد به أيامى الواقعة تحت سلطتك وتستعيد أنت بموجبه رائحتك المسافرة تحت جلدى!». هى التى تخاطبه «مرآتى أنت وجهى»، الحروف مطيعة لقلم سعاد الصباح وتطوعها كما تشاء فى خدمة المعانى، وفى رؤى سعاد الصباح السياسية تقف مع الحرية دون تحفظ «ولكننى مع الحرية المسؤولة لا حرية التخريب». وتعتبر الشاعرة الحرية المسؤولة تحاول إيصال السفينة إلى شاطئ السلامة وترى «حرية التخريب تحاول إغراق السفينة بمن فيها»، وتعتبر سعاد الصوت العالى «يزعج الآخر ولا يسمع»، بالمناسبة سعاد الصباح توظف الصمت فى الكتابة رغم الصخب الذى تحدثه شجاعة هذه الشاعرة حين تسطر فوق الورق مشاعر امرأة غلبها الهوى فتقول «هم صادروا زمنى، فأصبحت أنت الزمن». وتقول سعاد الصباح «ذاكرتى لا تتذكر رجلاً غيرك ولا تعرف من التاريخ غير تاريخك ولا تعرف من الجغرافيا عمر مساحة يديك!!». ما أعظم حباً عاشته الشاعرة مع زوجها الراحل العظيم الذى خصته برسائل هى قطعة من الأدب لا نظير لها، أدب الحب، وأدب الافتقاد لعبدالله مبارك صباح.
نقلا عن المصر اليوم