عن إيران و«ثورتها الإسلامية» والحرب الأمريكية ــ (العربية) عليها
مقالات مختارة | طلال سلمان
الاربعاء ١٠ يناير ٢٠١٨
فى منتصف مارس 1979، قصدت طهران للقاء قائد الثورة الإسلامية آية الله روح الله الخمينى وأركان العهد الجديد فى إيران، لأكمل حوارا كنت بدأته معه، فى «نوفل لو شاتو»، إحدى ضواحى باريس، فى فرنسا، قبيل عودته مظفرا إلى بلاده التى كانت تنتظره فى الشارع.
بعد الخمينى الذى التقيته فى قم، عدت إلى طهران لأعقد سلسلة من اللقاءات مع أول رئيس للجمهورية الإسلامية فى إيران أبو الحسن بنى صدر وعدد من قيادات الحزب الجمهورى الإسلامى الذى أعلن قيامه مباشرة بعد نجاح الثورة.
كان الدكتور بنى صدر متوترا نوعا ما.. ولقد سألته بداية عن «الجمهورية الإسلامية»، ومن أين تستمد أصولها، وهل ستكون كسائر الجمهوريات أم مختلفة عنها وبماذا تختلف؟ ثم أين موقعها فى الدين الإسلامى الذى تعتمد الجمهورية الجديدة شريعته؟! وهل عندكم نموذج معين لهذه الجمهورية؟
ولقد ابتسم بنى صدر ابتسامة ساخرة قبل أن يقول: ولكنكم، أنتم العرب من دمر ذلك النموذج المفتقد الآن، والذى نحاول مع الإمام آية الله الخمينى بناءه على ما كان يقصده أو يريده الرسول الكريم محمد بن عبدالله..
قلت بلهفة تغطى الفضول: وماذا كان ذلك النموذج؟
قال بنى صدر بلهجة أستاذ يعطى درسا لتلامذته: لا بد، أولا، من الافتراض أنك مطلع بالقدر الكافى على سيرة الرسول..
***
وحين رآنى أهز رأسى موافقا أضاف يقول: عندما هاجر الرسول من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة (يثرب، آنذاك) تبعه «المهاجرون» واستقبله فى المدينة «الأنصار».. وكان أول ما فعله الرسول أن عقد معاهدة بين المهاجرين والأنصار، ثم معاهدة أخرى مع المسيحيين فى المدينة، وثالثة مع اليهود، ورابعة مع من كانوا قد بقوا على وثنيتهم.. وهكذا فإن الرسول قد أراد، فى ما أعتقد، أن يقدم النموذج، فابتدعتم «الخلافة»، ثم قتلتم ثلاثة من الخلفاء الراشدين، من أصل أربعة، إلى أن انتهى الأمر إلى معاوية فتجاوز الدولة الإسلامية لينشئ إمبراطورية جديدة على غرار الفرس والروم.
لم يكن منطق بنى صدر قابلا للمناقشة، برغم أننى حاولت مجادلته عبثا.
أردت أن اتخذ من هذا اللقاء مدخلا للحديث عن إيران الثورة الإسلامية وما يجرى فيها، سواء بدوافع ذاتية أم بتحريض خارجى، كما تقول طهران، وهذا قابل للتصديق فى ضوء التصريحات الغبية والمستفزة للرئيس الأمريكى دونالد ترامب، مشفوعة بطلب انعقاد جلسة طارئة لمجلس الأمن لتناقش مسألة داخلية فى دولة إقليمية كبرى ليس لما يجرى فيها أى تأثير مباشر على جوارها، بشهادة مواقف كل من روسيا وتركيا والعراق.
ومعروف أن إيران دولة متعددة الأعراق، وفيها إلى جانب الأكثرية الفارسية خليط من أقليات توجود دول أكثرياتها فى جوارها، أبرزها ما كان يسمى بالجمهوريات الإسلامية فى الاتحاد السابق (آذرايين وأفغانا وأتراكا وتركمانا وبعض الأرمن.. إلخ).
ومعروف أيضا أن الإيرانيين قد ذهبوا إلى التشيع خلال حربهم مع العثمانيين، قبل أربعة قرون أو يزيد، وبعد حرب طويلة مع «السلطان» وجيوشه.
لكن قائد الثورة الإسلامية فى إيران، الإمام الخمينى، لم ينصب نفسه سلطانا، ولا خليفة، ولا ملكا ولا رئيسا، بل اختار أن يكون بصفة «المرشد» أى «نائب الإمام المغيب»، كما يقول الشيعة، مضفيا على منصبه السامى تبعات المرجعية الدينية فضلا عن القيادة السياسية، فى ظل نظام له رئيس للجمهورية وحكومة ومجلس شورى (برلمان) منتخب، وإن كان قد أضاف إلى الجيش «الحرس الثورى» التابع مباشرة للإمام ــ القائد.
ولقد خاضت إيران الخمينى حربا ضروسا مع صدام حسين الذى هاجمها فى السنوات الأولى «للعهد الجديد»، واستمر يحاربها سبع سنوات عجاف حتى تم التوصل إلى هدنة عقدت بين الدولتين فى الجزائر، وشبهها الخمينى بتجرع كأس من السم..
***
بعد الحرب ستنهض إيران لتغدو قوة إقليمية كبرى، وتمد نفوذهاــ كما الحال اليومــ إلى العراق وسوريا (حيث شاركت مع جيشها فى صد الحرب فيها وعليها) وإلى لبنان (حيث بات «حزب الله» الذى يحظى برعايته أقوى تنظيم شعبى وعسكرى فى المشرق العربى، بدليل مقاومته الباسلة التى أجبرت الاحتلال الإسرائيلى على الجلاء مدحورا عن جنوب لبنان فى العام ألفين، ثم دحر جيوش هذا الاحتلال فى حربه على لبنان فى صيف العام 2006..)
ولقد توالت الاتهامات ضد إيران، وأبرزها الاتهام السعودى بتدخلها فى اليمن ــ بينما لم توفر السعودية سلاحا فى حربها ــ ومعها دولة الإمارات ــ ضد ذلك البلد الفقير.
أطرف التطورات أن يتولى الرئيس الأمريكى دونالد ترامب «إعلان الحرب» على إيران، التى كانت قد توصلت إلى اتفاق تاريخى مع سلفه باراك أوباما والدول الست حول الاتفاق النووى.. وهكذا فقد تولت واشنطن دعوة مجلس الأمن الدولى إلى الانعقاد، فى سابقة فريدة فى بابها لمناقشة الأوضاع الداخلية فى إيران و«القمع» الذى استخدم لفض التظاهرات بالقوة، بينما سيل التظاهرات المؤيدة للنظام فى طهران تملأ الشوارع فى العاصمة وسائر المدن الإيرانية.
ومعروف أن فى إيران حركة سياسية ناشطة، وأن فيها تيارات معارضة للحكومة برئاسة رئيس الجمهورية حسن روحانى ولكن ليس «للمرشد» أى الإمام خامنئى، وإن لهذا الموقع نوعا من الحصانة المعنوية للشميم الدينى فيه.
إنها جولة جديدة فى الحروب العبثية التى يخوضها الرئيس الأمريكى (على تويتر) فى تصريحاته الصباحية المبكرة، كما فى مواقفه المعلنة عشوائيا التى كثيرا ما أثارت حفيظة وزارة الخارجية، لتجاوزها الأصول والأعراف.
أما إذا أردنا الحديث فى السياسة والدور الإيرانى المتعاظم فى المشرق العربى (فضلا عن إفريقيا وآسيا على وجه التحديد) فلا بد من التذكير بالوقائع الآتية:
أولا: أن الدول العربية التى طالما لعبت الدور القيادى فى هذه المنطقة غائبة أو مغيبة نتيجة أوضاعها الداخلية، السياسية منها والاقتصادية وكذلك العسكرية..
فالعراق يحاول استعادة دولته ودورها فى محيطها، منذ الخيبات التى منيت بها مغامرات صدام حسين (الحرب على إيران، غزو الكويت الذى جاء بالجيش الأميركى إلى بعض العراق، وصولا إلى الاحتلال الأميركيــ للعراق جميعا بعد تدمير دولته.. ثم غزوة «داعش» واحتلال عصاباته الموصل وأكثر من نصف مساحة العراق، مما استهلك نحو خمس سنوات من عمر هذا البلد الذى أنهكته الحروب العبثية، فضلا عن المحاولة الانفصالية التى قادها مسعود بارزانى فى الشمال (كردستان) واندفاعه إلى حد التلويح بالاستقلال فى دولة كردية خالصة، ثم استقالته بعد هزيمة مشروعه وتمسك الأكراد بدولة عراقية واحدة ولو فيدرالية).
أما سوريا فقد شغلتها الحرب فيها وعليها عن دورها وهددت دولتها بالتفكك، وشردت نحو ثلث شعبها وأنهكت اقتصادها والجأتها إلى طلب المعونة (عسكريا واقتصاديا وأمنيا) من روسيا بوتين، كما من إيران الثورة الإسلامية، ومعها «حزب الله» فى لبنان.
فأما مصر فتحاول استعادة دورها العربى والإقليمى، الذى عطلته التطورات الداخلية فيها وانشغالها بالداخل الذى يتعاظم عدد سكانه بأرقام تتخطى التوقعات.
وأما باقى الدول العربية فإنها مشغولة بذاتها كما الجزائر، وأما إنها قد طلقت المشرق العربى، كما المغرب (فضلا عن ليبيا التى سقطت سهوا).. فى حين أن دول السعودية والخليج العربى قد اتخذت منذ فترة طويلة موقع «الخصم» بل «العدو» لإيران، وهى اليوم تعيش فرحا مثيرا للشفقة «شماتة» بإيران، وتحاول التأكيد بالوسائل جميع أنها تدعم «الانتفاضة الشعبية ضد حكم الملالى فى طهران».
«تعجبين من سقمى.. صحتى هى العجب..»
نقلا عن الشرق