خطوات غير قليلة خطتها عملية صياغة شرق أوسط مختلف عن الشرق الأوسط الذى عهدناه. أكثرها خطوات يصعب حصرها وتعيينها بالدقة الواجبة، ولكن الصعوبة الأكبر ستكون من نصيب من يحاول تقييم كل منها على حدة. أتصور أنه سوف يتعين على من يقرر التفرغ للقيام بهذا العمل أن يجد أولا «الفكرة الجامعة» التى التف حولها أو ابتكرها القائمون، أو أغلب القائمين، على أداء مهمة وضع صياغة مختلفة للشرق الأوسط، ووافقت عليها وتبنتها النخب الحاكمة فى مختلف دول الإقليم. هذه الفكرة الجامعة هى التجسيد الأمثل للحد الأدنى المشترك فى رؤى الدول الكبرى ودول الإقليم لمستقبل الشرق الأوسط ودور كل منها فيه. وهى فى الوقت نفسه البوصلة التى سوف ترشد الحكام إلى أنواع من التفاعلات أقل اضطرابا.
نعيش محاولات الصياغة منذ سنوات سالت خلالها دماء غزيرة وتهدمت مدن شهدت بزوغ وأفول حضارات وهاجر الملايين من أهل بلاد شهدت ميلاد أديان عديدة، دين وراء دين. الجديد فى الأمر واللافت للانتباه أن الكل من ذوى الحيثية فى عجلة من أمرهم. روسيا، وبتشجيع من الولايات المتحدة، تحفز أطراف الصراع على سوريا لتتجاوز الأمم المتحدة وصيرورة جنيف وتنتقل إلى مسيرة أخرى متخففة من قيود الدبلوماسية الأممية التقليدية، مسيرة تحركها موسكو وتشرف عليها وتستحث أطرافا دون غيرهم على الدخول فيها. لم تبخل روسيا على أعضاء مسيرة الأستانة ــ سوتشى بنصيب من القسوة الروسية الشهيرة ولم يفتها تحصيل مكاسب لنفسها أولا بأول. لم تنتظر إلى نهاية المفاوضات. على يدها سوف يتحدد مصير سوريا، ومصير سوريا يعنى الكثير بالنسبة لمستقبل منطقة الهلال الخصيب، هذا المصير مع مصير الفلسطينيين يعنيان الكثير جدا بالنسبة لمستقبل الشرق الأوسط ككل.
الإسرائيليون أيضا فى عجلة من أمرهم ولم يكونوا يوما على امتداد الصراع العربى الصهيونى فى عجلة. استعجلوا إصدار دونالد ترامب إعلانه عن القدس عاصمة أبدية لإسرائيل. وفور صدور الإعلان راحوا يهرولون وراء مكاسب أكبر وبسرعة أوفر. أمس الأول طلبت لجنة الليكود إخضاع المستوطنات الإسرائيلية للقانون الإسرائيلى. بمعنى آخر طلبت اخضاع هذا الجزء الشاسع من الضفة الغربية للسيادة الإسرائيلية. حدث هذا دون أن يعقبه اهتمام يذكر من جانب الصحافة الأمريكية وأجهزة الإعلام العربية الخاضع معظمها لتوجيه السلطات الرسمية ورقابتها. فى الوقت نفسه انشغلت هذه الأجهزة، مع أجهزة أخرى فى عدد من الدول العربية، بتوظيف كل تطور سياسى أو إعلامى، حقيقى أو مزيف، لصالح تهدئة غضب الفلسطينيين وأنصارهم فى العالم العربى وفى الخارج. حدث فى أكثر من دولة عربية أن أثير بشكل لافت النقاش حول أيهما أصلح كعاصمة لدولة فلسطينية لو أتاحت إسرائيل لهذه الدولة الفرصة لتنشأ، أبو رديس أم رام الله. كان واضحا ولم يخف عن الجماهير المسيسة باليأس أو بالغضب أو بقلة الحيلة أن المطلوب منها ومن العالم أن ينسى أنه كان للعرب إرث أو تاريخ أو حتى موقع قدم فى مدينة القدس. لا أعرف عاصمة عربية اعتذرت عن سوء فهم جعل الناس يظنون بها الظنون أو تبرأت من الاتهام بأنها تجهز شعوب العرب وشعوب الدول المجاورة ليوم يتنازل فيه الفلسطينيون عن القدس برضاء صورى والإيحاء بأن أنهارا من الأموال سوف تتدفق على سكان ما تبقى من أرض تحمل اسم فلسطين أو لا تحمله فمن نسى القدس ورضى بما شبه له بها قادر أن ينسى كل فلسطين ويرضى بما شبه له بها.
الإيرانيون كذلك يتعجلون أمورا. أرادوا الكثير وأهم ما فى الكثير الذى أرادوه كانت المكانة اللائقة بدولة لها مثل دول أخرى من داخل الشرق الأوسط ومن خارجه أهدافها التوسعية. لم يكن ممكنا أن تحقق وحدها وبقوتها الذاتية الشىءالكثير من أهدافها الإقليمية فى الشرق الأوسط وفى آسيا، فقررت اللحاق بركاب روسيا فى الإقليم تجنبا لصدام كان يمكن أن يكون محتوما لو أشتم الروس رائحة رغبة إيرانية فى التنافس أو التسابق معها على موقع أو ميناء أو حتى على نفوذ غير مستحق. أدركت إيران أن روسيا فى عجلة لتضع بصمتها على خريطة جارٍ رسمها بالدم والعرق والمال وبمساومات شاقة سواء مع دول أوروبية كبرى أو مع تركيا، تركيا العائدة دوما إلى الشرق الأوسط بأحلام إمبراطورية. هى أيضا فى عجلة مثلها مثل إيران. كلا الدولتين متأهبتين شكا أو يقينا ليتحصنا ضد أخطار محتملة من جانب الولايات المتحدة. تدركان كل بطريقتها الخاصة أهمية أن تتحصلا على مواقع راسخة فى قلب الشرق الأوسط والاستفادة من كل نقاط الضعف والفراغ فى الجسد العربى، وبخاصة تلك التى خلفتها الحملات التى شنت لقمع ثورات الربيع العربى.
كثير من اجتهادات لخبراء استراتيجية ودراسات مستقبلية توقعت هيمنة على الإقليم من جانب قوى دينية متطرفة فتكاتفت بعض دول الإقليم بدرجات متفاوتة لمنع وقوع هذه الهيمنة. اجتهادات أخرى انتظرت باللهفة أو توقعت بالخشية والفزع انفراط كيانات كبرى فى الشرق الأوسط. لم تنفرط دولة خليجية واحدة ولا انفرطت سوريا بل وصار مقبولا الظن بأن الدول الكبرى نفسها هى التى حالت دون انفراط كيانات سياسية. ما كان يمكن لحكومة العراق وحدها أن تبطل مفعول استفتاء الإقليم الكردى لو أن روسيا وأمريكا والاتحاد الأوروبى لم تتخذ موقفا موحدا ضد الانفراط ونشأة دول جديدة فى الشرق الأوسط. تثبت التطورات أن هؤلاء الذين راهنوا أو شجعوا على قيام كيانات طائفية أو عرقية على حساب وحدة الدولةــ القطر فى الشرق الأوسط اكتشفوا أنهم كانوا يلعبون بالنار. لا يعنى هذا زوال خطر الانفراط. إنما يعنى أن الدول الكبرى ومعظم دول الإقليم لم تكن، كما ساد الظن، قد استعدت بخريطة للشرق الأوسط تقسم كيانات وتفصل بين شعوب الأمة الواحدة.
المتوقع الآن هو أن تنهض على عجل قوى من خارج الإقليم وبخاصة روسيا مع دول من داخله لتسرع بتنفيذ مهمة إعادة توزيع مواقع جديدة للقوة تتناسب وواقع جديد، وإقامة دوائر نفوذ وتحالفات سياسية وعسكرية، بمعنى آخر نتوقع الإسراع بإقامة نظام جديد لتوازن القوى فى الإقليم، ونتوقعه هشا وركيكا.
نقلا عن الشروق