يتوقف الأمن الغذائى لكل دولة على مواردها الزراعية المتاحة من مياه وطاقة وترب قابلة للزراعة. محدودية هذه الموارد تعنى أيضا محدودية الأمن الغذائى وحتمية اللجوء إلى وسائل تعظيم الاستفادة من المياه المتاحة بإستخدام طرق الرى المقنن الذى يخفض استهلاك وإهدار المياه إلى حدها الأدنى دون الإخلال بحماية الترب الزراعية وعدم تدهورها بسبب تراكمات الأملاح الموجودة فى مياه الرى والتربة والأسمدة الكيميائية وارتفاع البخر فى دول المناخ الحار مثل مصر ونشع مياه البحر المتوسط على أراضى الدلتا. وعالميا قارب العالم على استنفاد المياه المتاحة حيث يتم استهلاك نحو 3600 مليار م3 سنويا من إجمالى موارد العالم المائية التى تقل عن 4500 مليار م3. لذلك ومع الزيادة السكانية المتوقعة حتى عام 2050 بتجاوز عدد سكان العالم 9.5 مليار بدلا من 7.5 مليار نسمة حاليا ما يعنى حتمية زيادة إنتاج الغذاء عالميا بنسبة 60% ولكن من موارد مائية لا تزيد عن 30%، ما يعنى أن سياسات الزراعة القادمة ستكون إنتاج غذاء أكثر من مياه أقل، وبالتالى لابد من الإنفاق الجيد على البحث العلمى لإنتاج النباتات الجديدة الأقل فى فترة مكوثها فى الأرض والأقل استهلاكا للمياه وفى نفس الوقت تعطى محصولا أعلى، وهى عملية شديدة الصعوبة علميا وتتطلب قامات علمية متفرغة لهذا العمل.
لا نكتفى ذاتيا من الغذاء فى مصر إلا من الخضروات والفاكهة بل بإنتاج أعلى كثيرا من متطلبات السوق بما يؤدى إلى انهيار الأسعار وخسارة المزارعين، وبالتالى ينبغى ضمان حد أدنى لأسعار مختلف صنوف الخضروات والفاكهة لتحديد حد أدنى لربح المزارعين ليحافظوا معه على الأراضى الزراعية كرأس مالهم ولا يفكرون فى التخلص منها بسبب انخفاض ربحية العمل فى القطاع الزراعى وتحوله إلى قطاع غير مربح يؤدى بصغار العاملين فيه إلى السجن بسبب تراكم المديونيات وخسارات الزراعة السنوية، بسبب انخفاض الأسعار أو السياسات الخاطئة من بعض الوزراء، أو لحاجة القطاع إلى إعادة الهيكلة وتنشيط الصادرات والالتزام بالقواعد العالمية فى مواصفات سلامة الغذاء ونسب متبقيات المبيدات والأسمدة. فعلى سبيل المثال أدت سياسة وزارة التموين بعدم الإعلان عن أسعار استلام القمح من المزارعين هذا العام قبل موسم الزراعة بمدة كافية ليطمئن المزارع على سعر المحصول ودخله المتوقع، كما يحدث من عشرات السنين، وبالتالى تسبب تأجيل إعلان السعر إلى إبريل القادم قبيل حصاد المحصول إلى تخوف المزارعين من تربص الوزارة بهم وفرضها لسعر إذعان منخفض للقمح لا فرار للفلاح من قبوله، أدى إلى هروب مزارعى القمح إلى زراعات الخضروات خاصة البطاطس والطماطم والبسلة والخيار والفلفل فانهارت أسعارها محليا لأنهم دخلوا إلى سوق مشبعة دون إرشاد زراعى يوجههم وتحملوا خسارات فادحة، وأعلنت وزارة الزراعة أن مساحة القمح المزروعة حتى الأسبوع الأخير من ديسمبر انخفضت إلى 2.1 مليون فدان بدلا من 3.3 مليون فدان فى العام الماضى وبالتالى ستخسر الدولة نحو 3 ملايين طن من القمح بما سيحمل الخزانة العامة للدولة أعباء استيراد كميات مماثلة، بالإضافة إلى الخسائر الكبيرة التى تكبدها الجميع من جراء انخفاض أسعار الطماطم والبطاطس محليا وعدم تنشيط صادراتها، رغم أن مصر هى خامس أكبر منتج عالمى للطماطم ومن الدول الكبرى المنتجة للبطاطس، ومسكين الفلاح المصرى الذى لا يجد من يوجهه أو يأخذ بيده بل يجد فقط من يحبطه ويتسبب فى خسارته.
نسب الأمن الغذائى المنخفضة فى مصر تقتضى إعادة هيكلة القطاع الزراعى لإنتاج المزيد من الغذاء وحسن استغلال التربة والماء، فليس من المقبول أن تنخفض نسبة الاكتفاء الذاتى من القمح إلى 30% (نستورد 12 مليون طن) بسبب زيادة ربح المزارع من زراعة البرسيم عن القمح، ولا أن تنخفض فى الفول إلى 30%، وفى العدس تنعدم زراعته حتى بعد ارتفاع أسعاره، ولا أن تكون الأرض الزراعية خاوية صيفا، ومع ذلك نستورد 100% من احتياجاتنا من زيوت الطعام و70% من الذرة الصفراء (نستورد 8.6 مليون طن) وكلتاهما زراعات صيفية، بينما المساحات المحصولية تقتصر على زراعة الأرز فى حدود 1.5 مليون فدان، والقطن فى مساحة ربع مليون فدان وهو عالى استهلاك المياه ويفوق الأرز فى استهلاكه لها، ثم للأسف نزرع الباقى بالذرة البيضاء التى لا سوق ولا حاجة لها سوى البيع فى البلاجات والكورنيش كذرة مشوى واستبدالها بالذرة الصفراء وعباد الشمس وفول الصويا حتمى ويحقق الاكتفاء الذاتى منهما بزراعة 2.5 مليون فدان ذرة صفراء و1.5 مليون فدان صويا وعباد شمس خاصة أن كسبة الصويا تباع لمصانع مصنعات اللحوم والتى تستوردها بالكامل من الخارج وبسعر لا يقل عن ثمانية آلاف جنيه للطن، بالإضافة إلى أهمية كسبة الصويا والعباد ومعهما كسبة القطن فى تصنيع الأعلاف الحيوانية والداجنة والسمكية، بينما وزارة الزراعة تعلن عن بوار 3 ملايين فدان من الأرض الزراعية فى العروة الصيفية الماضية و4 ملايين فدان فى العام السابق له بما يمثل علامة استفهام كبيرة.
أما عن العدس فالأمر لا يحتاج سوى لزراعة 100 ألف فدان منه شتاء لتحقيق الاكتفاء الذاتى الكامل منه وكنا واحدة من أكبر الدول المصدرة له منذ ثلاثين عاما فقط، وهى مساحة يسهل تدبيرها، وتدبير نصف مليون فدان للاكتفاء الذاتى من الفول البلدى وسط منافسة شرسة شتاء مع البرسيم بشكل أساسى ثم البنجر والقمح لأن الفلاح- وهذا من حقه- يزرع لبهائمه قبل أن يزرع لنفسه لما تدره عليه من دخل يومى من بيع اللبن وتصنيع الجبن والزبدة، وبالتالى فالأمل فى الأراضى الجديدة الأقل استهلاكا للمياه فى التوسع الشتوى فى هذه الزراعات.
أصبحت سياسات ترشيد استخدامات المياه حتمية تحسبا للاحترار العالمى وتأثير مياه البحار المالحة على أراضى الدلتات ومنها الدلتا المصرية، ولإنتاج غذاء أكبر من مياه أقل وتتطلب إجراءات عاجلة سواء فى نظم نقل المياه عبر الترع الطينية والرملية المكشوفة أو بتنظيم الرى داخل الحقول.
نقلا عن المصرى اليوم