شجن عصفور حزين
مقالات مختارة | أيمن الجندي
الجمعة ١٢ يناير ٢٠١٨
ما زلنا مع عصفور الشرق. مع «محسن» الذى وقع فى غرام حسناء باريسية. كؤوس الغرام ذاقها ورشفها كاملة، لكنها أيضا نعيم وجحيم.
أما النعيم، فهو الحب المتبادل بينهما، وطعام العشاء والأمسيّات الحالمة.
وأما الجحيم، فهو غيرته الجنونية حين يراها تبتسم لأحد معارفها أو يتذكر علاقتها القديمة بعشيقها السابق.
ألم أقل لكم إنه شرقى جدا؟!
أسبوعان فى الجنة مع هذه الحسناء، ثم جاءت النهاية مفاجئة وغادرة. كانا يتناولان طعام العشاء فى المطعم حينما مر عشيقها القديم فعراها الارتباك. طلبت من النادل مجلة مصورة لتوحى لعشيقها أنها تتناول العشاء مع هذا الشرقى غير حافلة به. وكلما حاول أن يستفسر منها لزمت الصمت، ورفضت الإجابة.
قال متوسلا: «إنك تحمليننى من الإذلال ما لا أطيق، وأرجوك أن تنقذى المظاهر. لا تجعلينى ذليلا أمام عشيقك القديم».
لكنها فى قسوة بالغة أصرت على الصمت المهين، فانصرف فى يأس بعد دفع الحساب. قبع فى غرفته مهيض النفس، جريح القلب، وإذا بالصوت العذب يغنى فى الصباح، وكأن شيئا لم يكن:
- «الحب طفل بوهيمى لا يعرف أبدا قانونا».
هذا صحيح، وها هو ذا الآن يلقى جزاء اللعب مع ذلك الطفل البوهيمى. ألم أقل لكم إنها باريسية جدا.
ساعاتٍ وأيامًا يعيش فى ألمه الجهنمى. وكلما طرق بابها ليحدثها أغلقت الباب فى وجهه. توسل لها أن تصغى إليه بلا جدوى. لم يفقد حبه فحسب، وإنما أهدرت كرامته أيضا.
آهٍ للمحبين المقهورين! لا يريدون أن يفهموا أن الشرح والإيضاح وكل وسائل العقل لا جدوى لها، إذا نفذ الحب.
فى النهاية ترك الفندق. قال لنفسه: لا ينبغى أن نبنى شيئا جميلا فوق هذه الأرض. راح يتذكر عهد الصفاء القديم فى رحاب السيدة زينب، حينما كان يقتات بطبق الفول النابت، ويجلس بكتابه كل يوم إلى جوار الضريح.
فى الأيام التالية شرع صاحبنا يحاكم فى ذهنه- بلا توقف- حضارة الغرب. لقد أفسد الغرب الهدية الغالية التى منحها إياه الشرق، وحولوا المسيحية إلى تيجان مرصعة وأردية موشاة بالذهب.
رجال الدين هم المسؤولون عن انهيار مملكة السماء. كان عليهم أن يتجردوا من متاع الأرض، كما فعل الأنبياء الحقيقيون، وأن يظهروا فى زهدهم بمنظر المنتظر لنعيم آخر فى السماء. كل ما بناه الأنبياء بزهدهم الحقيقى هدموه، وكانوا هم خير دعاية لمملكة الأرض.
آهٍ يا أوروبا القاسية. منحت الناس صفيحًا وزجاجًا ومعدنًا وبعض الراحة فى أمور معاشهم، ولكنها سلبتهم الشاعرية وصفاء الروح.
أعطتهم سرعة الانتقال، وحرمتهم ثروة النفس التى تنمو عند اتصالها بالطبيعة. والعلم- ذلك الماسة المتألقة- لم تضعها أوروبا فى قمة عمامتها لتشع نورا وجمالا، لكنها وضعتها فى سن مخرطة، تقطع بها شرايين الروح.
عصفور الشرق أدرك الحضارة القاسية. الشرق لم يعد شرقا، ولا استطاع أن يصير غربا.. صار مسخا مشوها للغرب القاسى.. مثل قرد يحاول تقليد الإنسان، فلا يظفر إلا بالسخرية.. لا هو نال جوهرة العقل، ولا احتفظ بروعة الفطرة.
وهكذا تنتهى رواية الشاب المفتون بدروس قاسية. دروس نحن بحاجة إلى استرجاعها.. الغرب القاسى المتقدم، الملح والسكر، النور والنار. قرص الدواء وقنبلة النابالم، مأساة الشرق التليدة التى ورثناها من أجدادنا، وسنورثها لأحفادنا. على أمل أن يأتى من أحفادنا من يستطيع أن يستعيد الشرق، يستعيد طمأنينته وسمت أشواقه إلى مملكة السماء.
نقلا عن المصري اليوم