جدو ملاك

بقلم -د.مينا عازر ملاك

يكتب هذه السطور بالنيابة عني ولدي ميجال مينا ملاك عازر لأني اليوم أحتفل بقدومه للعالم صحيح احتفالي غير كامل، إذ أتى في بلد اقتصاده غير
مستقر، ومحيط ببلدان أحوالها السياسية غير آمنة، لكن فرحتي به تجعلني أترك له الكيبورد ليخط أولى كلماته بالحياة، وتجعلني أنسى مرارة واقعنا المؤسف من كل النواحي.

جدو أكتب لك هذه الكلمات رغم أنني بحثت عنك في وجوه كل المحيطين بأبي ولم أجدك، لكنني سمعت أبي يحدث أمي عنك كثيراً وأنا في رحمها، ولما خرجت للدنيا ترقبت رؤياك لأني فهمت من كلمات الكثيرين أنك فارقت هذا العالم منذ زمن بعيد، من كلام أبي عنك الذي سمعته، أشعر أني خسرت الكثير بعدم وجودك لكني كلي أمل في أن ينقل أبي لي ما تعلمه منك، فكثيراً ما سمعت أبي يحكي عن إيباءك وشممك هدوءك وابتسامتك، هزارك الدائم ودعاباتك، وحسن لقائك بالناس، وحسن تعاملك معهم، احترامك للجميع استيعابك لكل الثقافات باختلافها، تنوع فئات الناس أبداً لم يقف أمام استيعابك وتفهمك لقدراتهم ولأفكارهم، وكنت تجيد التعامل معهم برغم كل الفوارق الثقافية والإنسانية التي قد تكون عائق بينك وبينهم، لكنك سرعان ما تستطيع أن تذيبها وتصل لقلوب الجميع بأدبك وكلماتك اللطيفة ولقدراتك على أن تجد المناطق التي وإن كانت غير مشتركة بينكم لكنها تتماس مع الآخرين من خلالها، فيتحدثون إليك في ارتياحية هائلة، حدث أبي أمي عن قدراتك الفذة على أن تحكم على الآخرين، سمعت أمي وهي تقول لأبي أنه ورث هذا منك، حسناً فأنا محتاج لهذا الأمر جداً حتى لا أصبح فريسة لأحكام خاطئة على الآخرين، تجعلني نادم على مفارقة شخص أو مقاربة الآخر، أما أكثر ما كان يحكي عنه أبي مبادئك وتمسكك بمواقفك، فكان دائماً ما يقول أنك كنت صاحب مبادئ تحترمها وتقدرها، راسخ كالجبل لا يهزك شيء.

جدو أعرف أنها أول مرة تُنادى بهذا النداء، ربما لا تكون الأخيرة، أعرف أنك سعيد جداً بهذا الحدث، وهو قفزي من بطن أمي للدنيا، ربما أنت أول من علم قدومي وقت أن صُوِرت في رحم أمي قبل حتى أبي وأمي والأطباء ونتائج التحاليل، أعرف أنك كنت تتمنى وجودك اليوم لتعانق أبي لكن أترك لي هذه المسألة فأنا جدير يوماً ما بالقيام بها، سأحتضنه وسيحتضني كما كنت تحتضنه، سأتعلم منه ما علمته إياه وسأصادقه كما كنتما أصدقاء، سأفعل الكثير - بإذن الله- لكن ما لا أستطيع عمله الآن مسح تلك الدمعة المستخبية بين العيون، وإن ذرفت أخريات أفهم أنها دموع فرح، لكن أقصد تلك الدمعة الحزينة التي بين ضلوع أبي والتي لسان حالها ما قاله تشارلز بكوفيسكي "كان الحزن موجودًا في كل شيء، حتي عندما كانت الأشياء علي ما يرام" على كل حال رغم عدم قدرتي على مسح تلك الدمعة التي ربما لا يراها أحد سواي وسواك، لكني سأعمل على محوها، فأنا أفهم أن سرها هو غيابك، وأن سر مداراتها أنه مثلك لا يريد أن يزعج أحد، ولا يظهر ضعيفا ولا يحب أن يفسد فرحة المحيطين به، ولا يقلل من وجودهم، لذا سأتركك إلى حين لأحتفل باحتفال جدتي، نعم زوجتك وجدتي الأخرى نعم أختك اللتان كنت أود أن أكتب لهما كما أكتب لك بيد أني على ثقة في أن شيء من الرقابة المفروضة على أبي من قبلهما ستمنع نشر هذه الكلمات، وهو نفس الحال مع أمي التي طالما أثقلت عليها في فترة وجودي بداخلها، وها هي تستعد لمرحلة جديدة من المعاناة المريحة على يدي، على كل حال سأتكفل بتوصيل كلماتي لهم فماً لأذن، نعم سأنهي كلماتي لك مؤقتاً لأبقى مع هؤلاء، ولأنعم ببعض من الراحة في أحضان أحبائي وعلى وعد برسائل كثيرة سأرسلها لك، لأفضي لك بما ألاقيه في هذه الحياة ولأنتظر منك النصائح، فأنت تعلم الكثير وتعلم من حولي، واختبرتهم جيداً سلام يا جدو ملاك.

مؤقتاً ميجال مينا ملاك عازر
المختصر المفيد ليس الوجع في أيام الفقد الأولى، بل حين تأتي الأيام السعيدة، فتجد أن من يستطيع مشاركتك بشكل أعمق قد رحل. "وليم شكسبير"