إذا قيل إن الأصولية على نقيض الحداثة، أى على نقيض التنوير، فهل التناقض هنا هو تناقض حاد؟ بمعنى إقصاء أحد الطرفين للآخر؟ أم هو تناقض رخو؛ بمعنى إحداث توليفة وعدم الإقصاء، أى عدم رفض تام لأى من الطرفين، أى عدم تحكم طرف فى طرف آخر حتى يمنعه من ممارسة عملية الإقصاء؟ فى هذا السياق من الإشكاليات الكامنة فى هذا السؤال هل يمكن القول إنها تخص الأصولية اليابانية دون غيرها من الأصوليات؟ وإذا جاء الجواب بالإيجاب فهل يعنى ذلك أن ثمة تداخلاً بين الدين برؤية أصولية وبين السياسة برؤية تنويرية؟ وإذا كان هذا هو المعنى، فهل معنى ذلك أن الأصولية تكون فى هذه الحالة دينية وسياسية إلى الحد الذى يمكن أن يقال عنده إن ثمة أصولية دينية قد تتحول إلى أصولية سياسية إذا تمكنت الأولى من التحكم فى الثانية؟ مرت فى ذهنى هذه الإشكاليات وأنا أقرأ عن الأصولية اليابانية فى المجلد الأول من المجلدات الخمسة الصادرة عن جامعة شيكاغو والخاصة بالمشروع الأصولى الذى صدر بقرار من الأكاديمية الأمريكية للآداب والعلوم. فقد قرأت أن ثمة أصولية سياسية شاعت فى اليابان كرد فعل ضد صعود تناقضات التنمية والتقدم والتحديات الغربية الموجهة ضد التراث اليابانى مع بداية القرن العشرين.
ففى عام 1990 اعتقلت السلطة عدة آلاف من الفوضويين والاشتراكيين بتهمة تهديد حياة الإمبراطور ثم أعدمت اثنى عشر من هؤلاء المعتقلين. ومع ذلك فإن المظاهرات والإضرابات لم تتوقف، إذ انضم إليها أساتذة الجامعة مع طلابهم إلى الحزب الشيوعى، الأمر الذى كان من شأنه اندفاع الجماهير نحو العودة إلى التراث لمنع الانزلاق نحو التفكك الاجتماعى، بل لمنع الفوضى المقوضة لعوامل الاستقرار، ومن ثم انضمت الأديان إلى ما يمكن تسميته الأصولية السياسية والتى أصبحت موضع إيمان الدولة بدعوى أن هذه الأصولية هى صمام الأمان. وفى هذا السياق عاد تحكم الريف فى المدينة لإزاحة التناقضات الرأسمالية الواردة من الغرب. وإثر ذلك التحكم قتل الإرهابيون اليمينيون رئيس الحزب الاشتراكى اليابانى، وأشاعوا الرعب فى دور النشر الخاصة بذلك اليمين ومنعوا اجتماعات نقابة المعلمين اليسارية، بل إن الحزب الليبرالى المحافظ كان موضع هجوم من اليمينيين الإرهابيين على الرغم من إعلان الحزب أن الإمبراطور هو السلطة المطلقة التى لا تُمس، وأن الكتب المدرسية يلزم مراجعتها لحذف الطابع العدوانى والبربرى للجيش اليابانى، بل ذهب إلى حد الدعوة إلى نوع من العنصرية عندما قال إن الذكاء فى أمريكا قد أصبح ضعيفاً لأنه تلوث بالسود والمهاجرين القادمين من المكسيك وبورتوريكو. وحتى الأديان الجديدة التى كانت لها رئاسات جديدة ودخلت اليابان بديلاً عن الشنتو والكونفوشية قد تلوثت هى الأخرى بالأصولية لأنها كانت معادية للحداثة والتنوير ومستندة إلى الحظ والتراث. ومن هنا قيل عنها إنها أصولية سياسية.
وهذه هى الرؤية السائدة عن اليابان من قبل الغرب، بل من قبل جنوب شرق آسيا. ولهذا يقال عن هذه الرؤية إنها مرادفة للدولة اليابانية أو بالأدق للأسرة اليابانية باعتبار أن الدولة مرادفة للأسرة.
نقلا عن المصرى اليوم