الأقباط متحدون - “حيثما ذهبت أذهب، وحيثما بتِّ أبيت… قصة غير نمطية عن الحماة والكنة يقدمها العهد القديم
  • ١٦:٢٤
  • الثلاثاء , ٦ فبراير ٢٠١٨
English version

“حيثما ذهبت أذهب، وحيثما بتِّ أبيت"… قصة غير نمطية عن الحماة والكنة يقدمها العهد القديم

منوعات | رصيف 22

٤٨: ١٠ ص +02:00 EET

الثلاثاء ٦ فبراير ٢٠١٨

راعوث
راعوث

 تحظى راعوث بمكانة هامة في العهد القديم، فهي أول امرأة أعطي اسمها لسفر في العهد القديم "سفر راعوث" (ثامن أسفار التناخ في الديانة اليهودية)،وتذكر في سفر متى في العهد الجديد، حيث تعتبر عند المسيحيين من جدات يسوع المسيح عليه السلام.

سيرة قصة
قبل عرض القصة هنا، لابد من التنبيه إلى أنها كتبت بعد زمن من الأحداث التي تتبنى سردها، وهي من سمات قصص الأسفار. بمعنى آخر، راوي القصة يبدؤها بصيغة الماضي، ويمكننا أن نفهم بأن الاهتمام بحياة راعوث نابع من كونها جدة والد الملك داوود، أي أنّ الراوي بدأ بقدسية الملك داوود وعاد بالزمن ليبني عليها قصة والدة جده.

وهذا المنظور قد يكون وراء تأطير عدد من التفاصيل بالشكل الإيجابي الذي وصلنا، حيث أسقطت عليها سبغة خاصة من عصر لاحق اكتسبت فيه راعوث أهمية بعد ثلاثة أجيال من حياتها.

تبدأ القصة بقحط أصاب بيت لحم فدفع بأسرة نعمة (أو نعمي) وزوجها ألماليك وابنيهما محلون وكيلون إلى آرض مؤآب جنوب البحر الميت. طال مكوثهم، وتزوج الولدان من امرأتين مؤآبيتين هما: راعوث وعرفة. بعد زواج دام عشر سنين، مات محلون وكيلون، وكذلك والدهما ألماليك، وبقيت نعمة وحدها مع كنتيها، فقررت العودة معهما إلى أرض أهلها بعد أن سمعت أن القحط قد زال، وأن الحياة قد عادت إلى مجراها الطبيعي.

في الطريق، التفتت نعمة إلى كنتيها وقالت لهما: اذهبا وارجعا كل واحدة إلى بيت أمها، وليصنع لكما الرب معكما إحساناً كما صنعتما بالموتى وبي، وليعطكما الربّ أن تجدا الراحة كل واحدة في بيت أهلها." فرفضت الكنتان تركها.

ولكن نعمة أصرت وكررت رجاءها، قائلة لهما: "ارجعا يا ابنتيَّ! لماذا تذهبان معي؟ هل في أحشائي بنون ليكونوا لكما رجالاً؟" استجابت عرفة لطلبها، وعادت إلى أهلها، وأما راعوث فأبت أن تعود إلى عند أهلها، وتتركها وحدها.

وبعد أن ألحّت نعمة في طلبها، أجابتها راعوث: "لا تلحي علي أن أتركك وأرجع عنك، لأنه حيثما ذهبت أذهب، وحيثما بتّ أبيت" وأضافت: "شعبك شعبي، وإلهك إلهي،" فقد كانت غريبة من المؤابيين، هذه النقطة لها أهمية بالغة، إذ أن نسب الملك داوود كان من زواج راعوث المؤآبية وبوعز العبراني، وتدعو للتساؤل لمّ لمْ تنجح هذه القصة بخلق نسق يحتفي بالاختلاط ويقبل التنوع؟

لوحة لوليام بليك (1827م)، عرفة تترك نعمة لتعود لأهلها، أما راعوث فتضم حماتها، وتصر على البقاء معها..

عندما دخلت نعمة بيت لحم استغربت المدينة، فهي التي رحلت ومعها خيرات كثيرة، وزوج وولدان، هاهي ذي قد عادت فارغة اليدين، وحيدة إلا من صحبة كنتها. فراحت نعمة تندب حظها وقالت لأهل مدينتها: "لا تدعوني نعمة بل إدعوني مُرَّة لأن القدر قد أمرّني جداً. إني ذهبت ممتلئة وأرجعني الربّ فارغة! لماذا تدعونني نعمة والرب قد أذلّني والقدير قد كسرني؟"

غريبة بين غرباء
طلبت راعوث من نعمة أن تذهب لتعمل في حصاد الشعير،وهي غريبة في المدينة، فاهتدت إلى حقل قريب لنعمة تعود ملكيته لرجل اسمه بوعز، وعندما عرف من هي، طلب منها أن تبقى وتعمل دائماً عنده، وأوصى كل عماله بالاهتمام بها.

عندما سمعت راعوث ذلك، شكرته ممتنة وسألته: كيف أعطيتني ذلك وأنا غريبة، فأجابها بأنه سمع عن وفائها لحماتها ومساعدتها لها، وقال: "إنني قد أخبرت بكل ما فعلت بحماتك بعد موت رجلك، حتى تركت أباك وأمك وأرض مولدك، وسرت إلى شعب لم تعرفيه من قبل."

فكان أن احترمها وكرمها. تنتهي القصة بزواج بوعز وراعوث مع نهاية موسم الحصاد، وكان ولدهما جد الملك داوود عليه السلام.

القصة رمزية بكل تفاصيلها، ومرد ذلك ما أشرنا إليه من أن سردها جاء بعد أجيال من أحداثها، فكانت طيعة في يدي راويها الذي منح مكوناتها دلالات رمزية غنية:القحط والحصاد، الترحال والهجرة (التي وسمتها الخسارة والموت) ثم العودة والاستقرار (الذي تكلل بالزواج والطفل الوليد).

أقوال جاهزة
رباط إنسانيّ يتخطى الأعراف والقواعد الاجتماعية، ويجمع امرأتين هما، في حكم مجتمعيهما، غريبتان عن بعضهما: الكنة والحماة

هنا حكاية جدة الملك داوود مع حماتها التي رعتها وبادلتها الوفاء

"لأنّ كنَّتكِ قد أحبَّتكِ، وهي خير لك من سبعة بنين!" عندما تكون الكنة ابنة لحماتها

ولكن اتكاءها على الشكل، وهيكلة الثنائيات يمهد رمزياً وسردياً لاحتضان رباط إنسانيّ يتخطى الأعراف والقواعد الاجتماعية، ويجمع امرأتين هما، في حكم مجتمعيهما، غريبتان عن بعضهما، جمعتهما علاقة لا يعرفها المجتمع وقتها ولا حتى اليوم، فلاهما أهل ولا هما صديقتان، ولا هما من نفس العشب، أو الدين، أو الأصل، وربما هنا تكمن جاذبية قصة راعوث واهتمام الفنانين بتصويرها، وفي نفس الوقت انفرادها بين قصص لا تعد ولا تحصى عن العلاقات الخائبة بين النساء في موقعي الكنة والحماة ـ ربما كانت طريقة مجتمع يؤثر النسب الأبوي للتعامل مع هذه العلاقة بدلاً من إعطائها مكانة فريدة لوحدها.

ففي قصة راعوث، تحل المحبة والوفاء بين الكنة والحماة محل النسب، كما نستشف من فرح أهل المدينة بخبر زواج راعوث وحبلها، حيث جاؤوا إلى نعمة مهنئين: "لأنّ كنَّتكِ قد أحبَّتكِ، وهي خير لك من سبعة بنين!"

لعل أجمل ما تقدمه قصص الكتب المقدسة، خارج دورها الروحي والديني، الإلهام الذي يلهب مخيلة الفنانين والشعراء، ونورد هنا مثالا من فيكتور هوغو، أشهر أدباء فرنسا من الحقبة الرومانسية، الذي تخيل شخصية راعوث جاثية أمام بوعز،في سماء ليلة صيفية بديعة، وهي بين اليقظة والنوم، راحت ترعى نجوم السماء، وتتأمل الهلال الذي تشبهه القصيدة بالمنجل الذهبي المرمي في السماء بعد نهاية موسم الحصاد، وربما صبغه بلون الذهب بدل الفضة التي يشبه بها القمر عادة، لاستعارة صفرة الحصاد، وترميز زواج راعوث وبوعز، ودوام علاقتهما في ذريتهما (فكان ابنهما جد الملك داوود).

عنوان قصيدة هوغو "بوعز النائم"، وقد كتب في مقطعها الأخير، (كما ترجمه الدكتور عبد الكريم اليافي من الفرنسية) واصفا راعوث وهي تنظر إلى الهلال في السماء، وتتساءل:

"كان الصمت مخيما على كل أنحاء يزرعيل وأور،

وكانت النجوم ترصع السماء العميق المعتم

والهلال الشفاف الوضيء بين أزهار العتمة تلك

يتألق على الأفق الغربي،

وكانت راعوث تسأل في نفسها،

وهي تحت نقابها، بعينين نصف مغمضتين،

أيّ إله، أيّ حصّاد في الصيف الأزلي،

رمى دون اكتراث حين غادر

هذا المنجل الذهبي في حقل النجوم؟"

صورة المقال: راعوث في لوحة الفنان الألماني جوليوس شنور فون كارولسفيلد (1794 ــ 1872).