الأقباط متحدون - هيكل وبطرس.. بين آلهة الحظ وآلهة الغضب
  • ١٣:٠٨
  • الاثنين , ٢٦ فبراير ٢٠١٨
English version

هيكل وبطرس.. بين آلهة الحظ وآلهة الغضب

مقالات مختارة | أحمد الدريني

٤٥: ١١ ص +02:00 EET

الاثنين ٢٦ فبراير ٢٠١٨

أحمد الدريني
أحمد الدريني

ساعات محدودة فصلت وفاة الكاتب الصحفى العملاق محمد حسنين هيكل، عن بطرس غالى، الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة قبل عامين (فبراير 2016) لينسدل الستار عن رجلين لعبا عددًا من أخطر الأدوار وأهمها فى تاريخ مصر على مدار القرن الماضى. فقد تقلد غالى فى منتصف الثلاثينيات من العمر رئاسة تحرير الأهرام الاقتصادى باختيار من الأستاذ هيكل، ثم عُهد إلى غالى فيما بعد برئاسة مركز الأهرام للدراسات إلى أن غادر الصحافة والأكاديمية إلى عالم السياسة وزيرا للدولة للشؤون الخارجية ثم أمينًا عامًا للأمم المتحدة.

ورغم الصداقة التى جمعتهما، وبالرغم من مفرق الطرق الذى أخذ بطرس إلى ذُرى المجد، وأبعد هيكل عن الأهرام، إلا أن المشاكسات المكتومة بينهما تكشف ماهو أعمق من افتراق المصائر، وما هو أخطر من اختلاف وجهات النظر.

فالجورنالجى الذى احترف فهم السياسة وتدويرها وكان مسكونًا بالمجد والكبرياء والرغبة فى الظهور بمظهر الإتقان والإحكام والدقة والشمول، تصادم فى انتقادات حادة مع الأكاديمى التكنوقراط الذى يحكى عن فشله وجهله ببعض الأمور أحيانًا بكل أريحية وبساطة!

تصادمت الطباع ثم تكيفت على إثر هذا التصادم مآخذ أبداها هيكل فى غير موضع بحق بطرس، حتى إنه اعتبر مسيرة غالى بالكامل مساندة -متكررة ومعتادة إلى درجة الملل- من آلهة الحظ!

ولم يهتم بطرس بامتداد ما كتب فى توضيح وجهة نظره تجاه نقد هيكل له، ولم يدافع عن نفسه، على كثرة ما أورد من انتقادات ومكائد طالته فى أصقاع الأرض جميعًا..

الأكيد أن كليهما كان عملاقًا فى مساحة تحركه، وأن لكل منهما مذاقًا خاصًا وسمتًا فريدًا، ولدى كل منهما رؤية من زاوية مهمة لما جرى فى تاريخنا القريب..

هيكل.. كيف تصنع الدراما الصحافة والعكس؟
على مدار نحو 30 مرة تقريبا أتيح لى فيها أن أستمع للأستاذ محمد حسنين هيكل مباشرة، فى أحاديث خاصة ضمتنى وآخرين، بدا لى الرجلُ محتجزًا بصورة أو بأخرى فى فبراير من العام 1974 حين أجبره الرئيس السادات على ترك الأهرام.

وفى فبراير رحل هيكل!
يبدأ الراحل الأسطورى حديثه من أى نقطة وينتهى لأى نقطة، لكنه يطوع العالم بحروبه وتقلباته السياسية ومحطاته المفصلية، ليمر على هذا الشهر من هذا العام متوقفًا أمام هذه الواقعة، كأن العالم يتفسطط إلى فسطاطين فى وجدانه.. ما قبل ترك الأهرام وما بعده.

ذات مرة يتمهل أمام هذه الواقعة ثم يسرد نحو بضعة أسماء يرى أنها تصلح لخلافته على عرش الأهرام، وباستدراك مملوء بغبطة لا تخفى على ذى لب: «وطبعا أحمد بهاء الدين».

كل الأسماء يقولها بحياد، إلا اسم «بهاء» ينطقه بالتقدير والإقرار بالموهبة، ولربما ببقايا «غيرة»، بقدر ما تثير الدهشة فى النفس بقدر ما تمعن فى تذكيرك بـ«بشرية» الرجل.

فهو مربكٌ من الناحية الإنسانية فى دقة مواعيده، وفى إدراكه أن الساعتين اللتين حددهما لهذه المجموعة لمجالسته قد أوشكتا على النفاد حين ينظر فى ساعته لأول مرة منذ بدء الجلسة قبل نهاية الوقت بعشر دقائق، يمهلك فيها ـ بتهذيب وأناقة- فى أن تلملم نفسك بصورة لائقة وتستأذن منه.

ثم هو مربك فى حسن استماعه لما تقول أيًا كان وفى سرعة بديهته ولذوعة مزحته، ثم مدهش فى جوابه الذى يطبق عليك كأنه القدر.. لا كأنه معلومة أو واقعة أو رواية منقولة من أطرافها المباشرة أو كأنها- مثلا مثلا- وجهة نظر!

وقبل كل هذا وهو يستقبلك ويسلم عليك ثم يبدأ بتعريف نفسه ـ كأنه يحتاج إلى تعريف- قائلا: محمد حسنين هيكل.. صحفى!

كل هذه التفاصيل فى صيغتها الإنسانية تجعل هيكل أمامك دراما هائلة تتحرك على قدمين.. وهو يستقبلك وهو يحدثك وهو يتذكر وهو يخفى مشاعره باحتراف كأنه جمود الصخر ثم فى انفلاتها من عقالها- فى مرات محدودة- هادرةً لتفصح عن مكنون صدر رجل محمل بما تنوء به الجبال.

وربما كان فى بدايته المهنية التى تقلبت بين تغطية أخبار الجريمة، ثم المسرح، ثم الحرب تجهيزًا مثاليًا لكاتب استثنائى، سيتعامل مع الروايات والأحداث بمنطق المحقق الجنائى، الذى يبحث عن الجناة والضحايا وجسم الجريمة.. ثم يحكيها بأدوات الأديب الذى يدرك كيف يخطف القلوب وبأداء الممثل المسرحى الذى يدرك جلال اللحظة المسرحية وأهمية توقيت العلو بالصوت أو خفضه.. ثم بحنكة رجل يعرف كيف هى الحرب بين بنى البر وما يترتب عليها.

ففى كل مرة يستأذن هيكل فيها فى الانصراف وإنهاء حديثه لابد أن يكون ـ الاستئذان والانصراف- على نحو مسرحى مثير.

أذكر أولى المرات التى شاهدت فيها انصرافه المسرحى بإحدى قاعات مبنى الجامعة الأمريكية بالتحرير فى العام 2007، حين اجتمع بالصحفيين الذين تقرر اختيارهم عبر المؤسسة التى أنشأها للتدريب والتطوير الصحفى وتحمل اسمه، ليتكلم معنا قليلا قبل بدء المحاضرات التى سيلقيها علينا الصحفى الأمريكى العالمى سيمور هيرش.

تكلم هيكل.. آسرًا كما يليق بأسطورة.. ساحرًا كما يليق برجل يحفظ من متون الشعر ومقتبسات الأدب العالمى ما يجعل كل حديثه ملهمًا ومربكًا للحسابات والمشاعر، حين يربط واقعًا أو واقعة ما ببيت شعر أو بمناسبة من التاريخ القديم.. فيبدو المجاز والتقارب والتضاد والكناية والتورية من قبيل تلاعب الرجل بالعقول وهو يستعرض «الحياة» بقوانينها وتكراراتها.

خلابًا كما يمكن لكاتب أن يحكى عن العالم المعاصر بعدما شاهده وهو يتشكل على عينيه والتقى أقطابه الأشهر فى كل المجالات (آينشتين، جيفارا، روكفلر، مونتجمرى، عبدالناصر، الخمينى، كسينجر... والقائمة تطول).

وبينما الأبصار شاخصة إليه والأنفاس متقطعة من انبهار حديثه المتدفق، مغزولًا بالمعلومة والطرفة والملاحظة الشخصية والتحليل النافذ، قرر فجأة أن ينهى كلامه ليستأذن فى مغادرة القاعة مستشهدًا ببيت أمير الشعراء أحمد شوقى حين قال للمبعوث السامى البريطانى:

فَاِرحَل بِحِفظِ اللَهِ جَلَّ صَنيعُهُ.. مُستَعفِياً إِن شِئتَ أَو مَعزولا

فى استعراض لواحدة من أخطر مزاياه مطلقًا.. فن اختيار التوقيت.

فالرجل الذى كتب مئات الألوف من الكلمات، يدرك بدقة كيف يرتب حكايته، وكيف يتقن روايته ومتى يوظف أبطالها ومتى يكشف عن الدراما الكامنة فيها، وكيف يسوق كل هذا بلغة بديعة تعكس مزاجًا أدبيا موغلًا فى البراعة، ثم تكشف عن دور هائل قاده هيكل فى تطوير استخدام العربية فى الصحافة الحديثة.

فلم تعد هى لغة المحسنات البديعية والسجع والطباق وكلاسيكيات التعبيرات والمأثورات، ولم تتحول معه إلى الإنجليزية الخبرية المباشرة الجافة، بل هى لغة تعرف كيف تنتقى الكلمة وكيف تفاضل بين المفردة والمفردة وكيف تستدعى التراث وكيف توظف الأدب وكيف يتناغم كل هذا مع بعضه البعض.

ألا يكفيك فى افتتاحه لفصل سبتمبر 1981، من كتابه الأشهر «خريف الغضب»، بإيراده قول الحق عز وجل (أيحسب ألن يقدر عليه أحد).. ليترك لك الخيال ولينسج العلاقة بين عناصر التاريخ فى ثوب من القدرية، وليجعل من السماء ـ بحركة مباغتة- طرفا فى صراع الجميع مع الرئيس السادات.. هكذا بآية واحدة!

وهى تجل لسمة أخرى غلفت كتابات الراحل ـ على امتدادها وتنوع منطلقاتها ومراميها وأساليبها ومناسباتها- وهى القدرة الاستثنائية على استخدام كل معلومة بدقة وكل ترجمة ببراعة وكل رأى ورواية بوضوح، ودون أن يخل بشىء من أمانة النقل ولا أمانة العرض ولا أمانة التحييث أو التكييف.. لكن رغم كل هذا بشىء كأنه السحر.. يتزحزح كل شىء معه من موضعه ملليمترات حتى ينتهى إلى حيث يحب أن ينهيه هو لا إلى حيث يفترض بالسَوق أن ينتهى رغم اتساق المسار واستقامته منذ البدايات.

العكوف على تراث الأستاذ هيكل ـ عليه رحمة الله- قراءة ودراسة واستخلاصا لمائة ألف درس.. ليس ترفًا، وليس ليترك لمبادرات فردية هنا وهناك، فإن هذا ليس مما يليق بقدر الرجل (ومن قبله قدر مصر الذى كان شاهدا عليه أكثر من نصف قرن من الزمان) وليس لائقًا بأمة يفترض فيها النشاط العلمى والرغبة المتحرقة لتقليب الأفكار والمنجزات من أوجهها جميعا.

أحكى عنه فى ذكرى رحيله بعض الملاحظات العابرة، متشوقًا ليحكى عنه من عاينوه عن قرب لسنين طوال، فإن فى بعض الحكى.. معرفة متجددة.

بطرس غالى.. الحكى دون فلترة
يجوب بطرس غالى أربعة أركان الأرض، ويفاوض كل الأطراف (تارة كوزير دولة للشؤون الخارجية وتارة كأمين عام للأمم المتحدة) وتستنزفه الحروب، وتستهلكه المعارك، وتواتيه فرص النجاح وتتواشج معها نُذر الفشل.. وفى نهاية كل محطة وفى أعقاب كل حدث مفصلى، يذهب للكنيسة البطرسية التى شيدتها عائلته، ويعتبرها بيته الخاص.

بعد كل نجاح يقتنصه بطرس من الدنيا، يتوجه لزيارة كنيسة الآباء والأجداد، ويتمادى فى وصف بهائها وجمال بنيانها ونصاعة رخامها.

وفى محطات الإخفاق ووسط الصراعات العاتية التى خاضها (وكانت ذروتها فى مسلسل إخراجه من الأمم المتحدة) يذهب لكنيسة الآباء كمعتاده.. لكنه هذه المرة يصف الشقوق التى طالت الرخام والشيخوخة التى زحفت على الجدران وأعمال الترميم الواجبة لتدارك كل صدع ناشىء.

بامتداد كتابات بطرس.. كانت الكنيسة هى البطل.. ولم تكن الكنيسة تشيخ أو يتشقق رخامها.. بمقدار ما بدا لى أن بطرس يرى ما يجول فى نفسه منعكسا على جدرانها.. فهى بهية وهو متألق ناجح.. ومكسورةٌ مشقوقٌ رخامها وهو مهزوم.

لم تكن الكنيسة البطرسية سوى انعكاس صفحة نفس بطرس.. لم تكن جميلة فى مطلق الأحوال ولا شائخة أيضا.. لقد كان هو الكنيسة والكنيسة هو!.

لا يجتهد «غالى» فى إخفاء مشاعره ولا فى «فلترة» الأمر الواقع حين يسرد تفاصيله، فهو لا يتورع فى كتابه (خمس سنوات فى بيت من زجاج) من إيراد السخرية التى كان يتندر بها بعض الدبلوماسيين عليه فى الأمم المتحدة قائلين إنه «بو بو» وليس بطرس (فى إشارة لحدة طباعه وغطرسته)، أو فى القول من أن الجمل اللاذعة كانت تلاحقه بأنه (عجوز جدًا) حين تم انتخابه أمينًا عامًا للأمم المتحدة، ولم يتهيب من أن يحكى فى كتابه (بدر البدور) أنه التقى عرافًا هنديًا أخبره أنه سيعيش حتى يرى بدر البدور أى القمر الألف.. وأن قمة تألقه ستكون بحلول القمر الألف فى حياته.. لنكتشف أن صاحب أكبر منصب دبلوماسى فى العالم يعيش معتقدًا فى نبوءة عراف هندى حول عمره ومساره الوظيفى!.

ثم هو لا يخجل من ذكر الرقصة التى رقصها مع هذه الوزيرة أو تلك الدبلوماسية فتلطفت بموجبها الأجواء واتخذ الحديث على إثرها منحى جديدًا مثمرًا، وهو لا يراوغ حين يقول ـ كأنه يلقى بقنبلة- بأن السلطات المصرية أثناء مفاوضاتها مع الإسرائليين فى اتفاقية السلام كانت تحضر نجوى فؤاد للرقص لشارون لأن الأخير كان يحب رقصها ويفقد صوابه لدى رؤيتها.

وفى كتابه (طريق مصر للقدس) يقول إن الفريق حسن التهامى كان يحكى لهم عن الرؤى والمنامات التى يزعم أنه رآها وعن الإرشادات التى تلقاها من سيدنا الخضر والأولياء الصالحين، وأخبر بها الرئيس السادات وعلى ضوئها ينبغى أن يكون موقفنا فى مفاوضات كامب ديفيد.

أو كيف حاول مناحم بيجن التلاعب به حين علم أن الرئيس السادات يدلل وزير دولته للشؤون الخارجية مناديًا إياه «بيتر» حين يكون راضيا عن أدائه وآرائه، فى حين كان يناديه «بطرس» حين يكون غاضبًا منه، وهو ما استغله بيجن الذى كان يناديه بـ«بطرس» حين يكون راضيا عن مسار المفاوضات، وبـ«بيتر» حين يكون غاضبًا منها، كى يربك الرئيس السادات ويصعب عليه استنتاج ما يدور بخلده.

على امتداد كتب الراحل العملاق بطرس غالى ستجد كل شىء على علته الأولى، مهما كان قاسيًا أو لاذعًا أو صادمًا أو حتى منتقصًا لقدره الشخصى، وكأن الرجل غير آبه لأحد ولا يبالى فى سرد ما عاين دون خوف.

ورغم المسيرة الدبلوماسية الحافلة إلا أن بطرس يرى أنه لم يحصل على منصب وزير الخارجية لأنه مسيحى، ثم كثيرًا ما يسترجع قصة اغتيال جده الأكبر بطرس غالى متألمًا من الهتاف الذى كان يتردد حينها «تسلم إيدين الوردانى قتل بطرس النصرانى»..

فهو من وجهة نظره كان وزير دولة للشؤون الخارجية لأن لا أحد سيرضى بأن يكون وزير الخارجية مسيحيًا!.

ومن المفارقات التى تكتنف هذه النقطة تحديدًا، أن سفير مصر الأسبق فى الولايات المتحدة عبد الرؤوف الريدى، حكى أنه عندما تم تكليف السفارة المصرية فى واشنطن بالدعاية لغالى لتعزيز موقفه فى الحصول على منصب أمين عام الأمم المتحدة، ابتكر الريدى جملة يمكنها أن تدعم موقف بطرس لأبعد مدى.

فقد أمر أعضاء السفارة بالترديد فى كل المحافل أن «بطرس غالى مسيحى.. متزوج من يهودية.. ويمثل دولة مسلمة»! فى واحدة من أذكى المقاربات التى تعيد ترتيب الحقائق وتعيد استنطاقها.. فيبدو بطرس عالميًا بحق، وممثلا عن مكونات تكشف حسًا أمميًا رفيعًا.
نقلا عن المصري اليوم

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع