كتب: سهيل أحمد بهجت ـ كاليفورنيا
يواصل "المسيري" استنتاجاته ويشرحها مطولًا، ويسرف في وصف سلبيات "الصهيونية" و"النازية"، ليوهمنا أنها التجسيد الوحيد للعلمانية الغربية، ثم ينتقل "المسيري" إلى الباحث "جلال أمين" (باحث مصري معاصر)، و الواضح أن لا علاقة تجمع بين "ماكس فيبر" الذي توفي في 1920 و باحث معاصر إلا أن يتم هناك وهم تكرار النموذج. يقول "عبد الوهاب المسيري":
"يذهب جلال أمين إلى أنه لا مفر من اتخاذ موقف ميتافيزيقي ما، و البدايات الميتافيزيقية هي التي تفضي إلى النتائج والمقولات المختلفة التي تكون أيديولوجية ما، والتي توجه السلوك الإنساني (العلل و المعلولات عند مراد وهبة)، أي أن جلال أمين يتحرك في الإطار الشامل و النهائي، فالعلمانية ـ حسب تصوره ـ هي منظومة شاملة ورؤية للكون (الطبيعة و الإنسان)، تستند إلى ميتافيزيقا مسبقة تطرح إجابات عن الأسئلة النهائية الكبرى (فحالة الشك المطلقة [الشك في كلّ المسلّمات] تجعل الحياة مستحيلة). و العلمانية رؤية للكون تضمّ أيديولوجيات مختلفة، و مع هذا تزعم العلمانية، متمثلة في أهم نزعاتها، الليبرالية و الماركسية، أن آراءها هي ثمرة تقدم العقل البشري، وأنها النتاج العلمي و الطبيعي أو الاجتماعي للعالم، و هو نتاج عالمي محايد، مجرّد من الأحكام القيمية و الميتافيزيقية، لا يحمل بصمات ثقافة أو حضارة بعينها، فثمة علم طبيعي واحد و تكنولوجيا واحدة، الأحدث منها يجبّ الأقدام ـ ربما يقصد المسيري الأقدم ولكن هذا ما أنقله نصا ـ و يلغيه، في عملية تراكمية مستمرة، ولذا فالتطور الإنساني يسير في خط أساسي واحد. ولكن هذا المسار ـ والكلام لجلال أمين ـ يتجه، في واقع الأمر، نحو الغرب، فالنموذج الغربي في التنمية هو المثل الأعلى المطلوب احتذاؤه. فالتكنولوجيا الغربية ـ من منظور المؤمنين بالنموذج العلماني ـ هي قمة ما وصل إليه الإنسان من السيطرة على الطبيعة، كل هذا يعني، في واقع الأمر، أن العلمنة هي شكل من أشكال التحديث والتغريب (التحديث في الإطار الغربي المادي)، وكل هذا يتم تحت شعار ((العالمية)) و ((الحياد)) و((الموضوعية))." ـ العلمانية تحت المجهر ص 108 ـ 109
نجد هنا أن جلال أمين يفترض مسبقا، وهو ما يروق للمسيري نقله، أن على الإنسان اتخاذ موقف ميتافيزيقي شاء أم أبى، وهذا صحيح من جهة أن لا بد للإنسان من أن يقطع رأيا في مسائل معينة، و لكن هذا الطرح خاطيء إذ يربط العلمانية و الأيديولوجيا، وكما سبق لنا القول فإن من الخطأ الخلط بين العلمانية الليبرالية والماركسية ـ التي نسميها دينا بدون إله ـ لكون العلمانية اللبرالية تنأى بنفسها عن الدوغمائية العقائدية، قد يكون النموذج التركي في بداية إنشاءه من هذا النمط كنوع من انتزاع الإنسان عن هيمنة التقليد والجمود و الخرافة، و لكن المسيري و جلال أمين ها هنا يؤكدون على أن هناك جملة صفات ومواقف تتلازم مع كون الغرب متطورًا والشرق متخلفًا، فمعلوم أن مصطلحات الشرق والغرب هي على الأرجح مصطلحات تقسيمية وهمية، فما نعتبره نحن "انتماءنا الشرقي" قد يكون بنظر الصيني والياباني والهندي جزءً من "ذلك الغرب البعيد"، بالتالي فالتأكيد على أن الحضارة الحديثة مصطبغة بصبغة الغرب أمر لا ينسجم مع العقل الواقعي، فالمسيحية ـ كأبسط دافع أو قابل للعلمانية ـ و قبلها اليهودية، هي منتجات شرقية أو بالأحرى برزت من المنطقة التي تُسمى شرقية، من هنا نجد أن الموقف الميتافيزيقي ليس شرطا من شروط الوجود الإنساني، فالإنسان بحاجة إلى الإيمان بالمطلق و لكن هذا الإيمان ليس له علة واقعية على وجود الإنسان، كما أن الإجابة على الأسئلة الكبيرة (من أين جاء الإنسان و من الذي خلقه و أين يذهب و لماذا خلق) ليست أجوبة قطعية حدية غير قابلة للتأويل، لأن الواقع نفسه يظهر لنا بوضوح أن هناك تعددا في الأجوبة، و هناك من يعتبر مناقشة هذا الموضوع "عبثا"، لأن الله إذا لم يكن موجودا فمن العبث مناقشة كونه موجودا أم لا و إذا كان موجودا فنحن نثق بأنه لن يظلمنا في الحياة الآخرة، و هكذا نجد أن المسألة الميتافيزيقية تبقى محصورة بالميتافيزيقي الذي يتخطى الطبيعي و يتجاوزه، و محاولة الوصول إلى الميتافيزيقي عبر الطبيعي الفيزيقي هو نوع من المغالطة العقلية و محاولة وضعنا أمام خيارين لا ثالث لهما (إما الإيمان بقوانين المادة البحتة أو الإيمان بالقانون الإلهي) هو استشكال مسبق على العقل و سجن لإمكاناته و طاقاته التي تبدو لا نهائية، فخلال أقل من قرنين انتهى عصر الإقطاع و بدأ عصر الدولة القومية و نظريات تسخير المادة للإنسان ـ و لهذه النظرية شبه في القرآن عبر نظرية التسخير ـ و من ثم إلى عصر النسبية المادية التي تتيح لكل نظرية الإمكانية للوصول إلى العقل الإنساني و قلبه، غير أن المسيري و جلال أمين يريدان هنا إيهامنا أن الغرب يهدف من خلال المادية فرض (الواحدية المادية) مع ملاحظة أن المادية لم تفرض نفسها إلا على الجانب المختص بالمادة.
الدولة مثلا لا يمكنها أن تتبنى عقيدة محددة، لأن وظيفة الدولة تختلف كليا عن وظيفة المسجد و الكنيسة و المعبد، رغم أنها تتداخل أحيانا لأن كلاهما يتعامل مع الفرد والمجتمع ذاته، غير أن المطلقات و الميتافيزيقيا ليست شأنا عاما لكي تصدر الدولة قرارا بشأنه، بل هو أمرُ متعلق بصميم الإنسان و ضميره وذاته، يمكن للدولة أن تتبنى عقيدة كخروج من الحالة الطبيعية و بالتالي تخلق لدى مواطنيها فصاما في الشخصية ينتهي بالصراع بين الشعب و جهة تريد فرض رؤية شاملة للحياة، و إذا كانت الظروف الواقعية التاريخية ساعدت المسيحية ـ خصوصا و أنها دين بلا شريعة ـ على الانسجام مع العلمانية، فإن تنوع الخطاب الإسلامي ـ و نحن نضيف إليه كل الخطاب الذي أعتبر في القرون الوسطى الإسلامية هرطقة و زندقة مستوحين التعبير من المفكر العظيم محمد أركون ـ دليل على نسبية الخطاب الديني فضلا عن الدنيوي، و بدلا من أن تتبنى الدولة شعارا دينيا و عقيدة محددة تنتهي بالمواطنين إلى التنازع، كما هو حاصل في النماذج الإيراني و السعودي و المصري، يمكنها أن تكون محايدة و ذلك من أجل السلم الأهلي و منح الفرصة للحياة لكي تسير، فالنماذج السابقة من الدول تعيش باستمرار حكما قسريا ـ لأكثرية مزعومة ـ مقابل أقلية ترى نفسها مضطهدة و مستعبدة و هويتها في خطر، و العلمانية هنا هي نقيض الماركسية و نقيض الدولة الثيوقراطية الدينية، لأنها تتيح الجميع المشاركة في تبادل الأفكار و القناعات و بشرط أن لا يتحول الأمر إلى شيء قسري، فهي ليست نظرية شاملة تجيب على كل الأسئلة، و لكنها تتيح كل الأسئلة و تتيح كل الأجوبة.
أما اعتبار جلال أمين حالة الشك المطلقة لا تتلائم مع الحياة، فهذا منظور خاطيء و لا يلائم الحاجة الإنسانية إلى الحقيقة، فالقلق ضروري لاستمرار الإنسان على عكس الاطمئنان الذي يبدو مناسبا لأول وهلة، فالشعوب القديمة أو التي تطورت إلى درجة معينة من الوعي ثم بقيت عالقة في ذلك المستوى هي معرضة للخطر على الدوام، ففي العصور القديمة في أمريكا الجنوبية كانت هناك مجموعات هندية مستقرة لمئات السنين معتمدة على الموارد الطبيعية و واثقة من الآلهة التي تمدها بالدعم، و لكن ما إن طرأ تغيّر على البيئة و جاءت موجة من الجفاف و قابلها هذا العقل الخرافي برد فعل خائف من "غضب الآلهة" و قيامه بحروب للقبض على أسرى و من ثمّ ذبحهم كقرابين لدفع الغضب الإلهي، هذه العوامل أدت في النهاية إلى انهيار هذه المجتمعات، و بالتالي لا بد للعقل الإنساني من الشك للوصول إلى الحقيقة الواقعية، و لو لا الاستدلال الديكارتي "أنا أفكر، إذا أنا موجود" لما كنا الآن لنطرح كل هذا البحر المتلاطم من الأسئلة، إن هذه الفلسفات التي وصلت إلى عمق النفس البشرية أصبحت حقائق مسلما بها، و بالتالي فإن العلمانية جاءت كحل لمشاكل عاشتها البشرية و هي لا تدعي العصمة و الكمال كما تدعي النظريات الشمولية الأخرى، لذلك فهي قابلة للمعالجة حسب ارتقاء الوعي الاجتماعي، و جلال أمين لا يخبرنا الحقيقة هنا بقدر ما يحاول إضفاء صفة تتلازم و الماركسية ـ في النمطين السوفيتي و الصيني ـ على العلمانية الليبرالية، إن الرؤى العلمانية للكون ـ حسب جلال أمين ـ تضم أيديولوجيات مختلفة، لكنه هنا يغض بصره عن رؤية العلمانية الليبرالية للكون، هذه الرؤية التي لا تلزم أحدا بإجابات محددة، اللهم إلا الإقرار بحق التعددية الفكرية و إفساح المجال أمام الفكْر و العقل للبحث بالحرية الكاملة، من هنا نجد في الدول الليبرالية المتدين ـ بكل أنواع الانتماءات الدينية ـ متعايشا مع الملحد ـ بكل انتماءاته الفكرية و الأيديولوجية ـ مما يعني وجود تعددية فعلية يراد التعمية عليها من قبل المسيري عبر مصطلح "النمطية" و "الواحدية المادية" كما سبق و ناقشناه.
يحاول كلا الباحثين هنا نزع صفة العالمية عن "الاستنارة ـ العلمنة ـ التحديث" بوصفها ذات نمط غربي لا علاقة لها بالحضارات الأخرى، أي بمعنى أن العلمانية هي منتج غربي بحت و بالتالي على العالم الإسلامي التعامل معها كجسم غريب و طاريء، و ما أكثر الشتائم التي يوجهها الإسلاميون إلى مصطفى كمال الذي ألغى الخلافة ـ السلطنة لتحل الجمهورية العلمانية محلها، لكن نقطة الخلل في هذا النقد يعود إلى افتقاره للتطبيق، بمعنى أن لا تجربة عقلية أخرى في العالم تعاكس العلمانية و تناقضها في الاتجاه و تساويها من حيث التأثير على البشرية، اليابان على سبيل المثال ليست دولة مسيحية و كانت امبراطورية قائمة على نظام أخلاقي صارم، رغم أن هذه الأخلاق لم يكن لها علاقة بالدين، و لكن هذه الامبراطورية لم تجد لنفسها طريقا سوى المنهج الغربي في التصنيع و التطور، لكنها افتقرت إلى الروح العلمانية المتمثلة في الدّيمقراطية إلى حين نهاية الحرب العالمية الثانية و بناء اليابان الديمقراطية الحديثة التي نقلت الحاكم "الامبراطور" من مصاف الآلهة إلى مواطن عادي يمثل مجرد "رمز" للبلد.