في مثل هذا اليوم..وفاة جمال الدين الافغانى
سامح جميل
٢٣:
٠٨
ص +02:00 EET
الجمعة ٩ مارس ٢٠١٨
فى مثل هذا اليوم 9 مارس 1897م..
سامح جميل
ولد السيد جمال الدين الأفغاني في7مارس 1838م، لأسرة أفغانية عريقة ونشأ في كابول عاصمة الأفغان. وتعلم في بداية تلقيه العلم اللغتين العربية والفارسية، ودرس القرآن وشيئًا من العلوم الإسلامية، وعندما بلغ الثامنة عشرة أتم دراسته للعلوم، ثم سافر إلى الهند لدراسة بعض العلوم العصرية، وقصد الحجاز وهو في التاسعة عشرة لأداء فريضة الحج سنة ( 1857م)، ثم رجع إلى أفغانستان حيث تقلد إحدى الوظائف الحكومية، وظل طوال حياته حريصًا على العلم والتعلم، فقد شرع في تعلم الفرنسية وهو كبير، وبذل كثيرًا من الجهد والتصميم حتى خطا خطوات جيدة في تعلمها.
وحينما وقع خلاف بين الأمراء الأفغان انحاز جمال الدين إلى محمد أعظم خان الذي كان بمثابة وزير دولة، وحدث صدام بينه وبين الإنجليز، فرحل جمال الدين عن أفغانستان سنة (1285هـ= 1868م)، ومر بالهند في طريقه إلى مصر حيث أقام بها مدة قصيرة تردد في أثنائها على الأزهر، وكان بيته مزارًا لكثير من الطلاب والدارسين خاصة السوريين. ثم سافر إلى “الأستانة” في عهد الصدر عال باشا، فعظم أمره بها، وذاعت شهرته وارتفعت منزلته، ولقيت دعوته بضرورة التعجيل بالإصلاح صدى طيبًا لدى العثمانيين، حتى قال المستر بلنت الإنجليزي: “إن سعي العثمانيين في تحويل دولتهم إلى دستورية في بادئ الأمر قد ينسب إلى شيء من تأثير جمال الدين، فقد أقام في عاصمتهم يحاورهم ويخطب فيهم”.
في مصر
وعُيِّن جمال الدين وهو في الأستانة عضوًا في مجلس المعارف الأعلى، وهناك لقي معارضة وهجومًا من بعض علماء الأستانة وخطباء المساجد الذين لم يرقهم كثير من آرائه وأقواله؛ فخرج من الأستانة إلى مصر، فلقي في مصر من الحفاوة والتكريم من أهلها ما حمله على البقاء بها، وكان لجرأته وصراحته أكبر الأثر في التفاف الناس حوله، فأصبح له مريدون كثيرون، فحسده الشيوخ لحظوته عند الناس.
وخاض الأفغاني غمار السياسة المصرية، ودعا المصريين إلى ضرورة تنظيم أمور الحكم، وقد أدى ذلك إلى تنكر ولاة الأمور له، ونفورهم منه، وتوجسهم به، خاصة أنه كان يعلن عن بغضه للإنجليز، ولا يخفي عداءه لهم في أية مناسبة.
مع محمد عبده في باريس
وكانت مقالاته مثار غضب شديد من الإنجليز ومن الحكام في مصر على حد سواء. فلما تولى الخديوي توفيق باشا حكم البلاد أخرجه من مصر، فانتقل الأفغاني إلى الهند سنة (1296هـ= 1879م)، بعد أن أقام في مصر نحو ثماني سنوات.
ثم غادر الهند إلى لندن، ومنها انتقل إلى باريس حيث اتصل بالشيخ محمد عبده، وأصدرا معًا جريدة “العروة الوثقى”، ولكنها ما لبثت أن توقفت عن الصدور بعد أن أوصدت أمامها أبواب كل من مصر والسودان والهند. ولكن الأفغاني لم يتوقف عن الكتابة في السياسة، فكانت صحف باريس منبرًا لمقالاته السياسية النقدية الساخنة.
في إيران
ودعاه شاه إيران “ناصر الدين” للحضور إلى طهران واحتفى به وقربه، وهناك نال الأفغاني تقدير الإيرانيين وحظي بحبهم، ومالوا إلى تعاليمه وأفكاره، ولكن الشاه أحس بخطر أفكار الأفغاني على العرش الإيراني، وتغيرت معاملته له، وشعر الأفغاني بذلك، فاستأذنه في السفر، وذهب إلى موسكو ثم بطرسبرج، وكان يلقى التقدير والاحترام في كل مكان ينزله، ويجذب الكثيرين من المؤيدين والمريدين.
وحينما زار الأفغاني معرض باريس سنة ( 1889م) التقى هناك بالشاه ناصر الدين، وأظهر له الشاه من الود والتقدير ما دعاه إلى العودة مرة أخرى إلى طهران، ولكن ما لبث الشاه أن تغير عليه ثانية، خاصة بعدما راح يصرح برأيه في إصلاح الحكومة، ويجاهر بنقده للأوضاع السياسية في الدولة. ولم يطق الشاه صبرًا، ورأى في بقاء الأفغاني خطرًا محققًا على أركان عرشه، فأرسل إليه قوة عسكرية، فساقوه من فراش مرضه إلى حدود تركيا.
اتجه الأفغاني إلى البصرة، ومنها إلى لندن حيث اتخذ من جريدة “ضياء الخافقين” منبرًا للهجوم على الشاه، وكشف ما آلت إليه أحوال إيران في عهده، وكان تأثير الأفغاني قويًا على الإيرانيين، حتى بلغ من تأثيره أنه استطاع أن يحمل بعض علماء إيران على إصدار فتوى بتحريم “شرب” الدخان، فأصدر الميرزا “محمد حسن الشيرازي” فتوى حرّم فيها على الإيرانيين شرب الدخان، فامتنعوا عن شربه امتناعًا شديدًا، حتى إن العامة ثاروا على الشاه، وأحاطوا بقصره، وطلبوا منه إلغاء الاتفاق مع إحدى الشركات العربية لتأسيس شركة “ريجي” في إيران؛ فاضطر الشاه إلى فسخ الاتفاق، وتعويض الشركة بمبلغ نصف مليون ليرة إنجليزية.
وكان ذلك أحد الأسباب التي جعلت الشاه يلجأ إلى السلطان عبد الحميد ليوقف الأفغاني عن الهجوم عليه، واستطاع السلطان أن يجذب الأفغاني إلى نزول الأستانة سنة (1892م)، وأراد السلطان أن يُنعم على الأفغاني برتبة قاضي عسكر، ولكن الأفغاني أبى، وقال لرسول السلطان: “قل لمولاي السلطان إن جمال الدين يرى أن رتبة العلم أعلى المراتب”.
وفي أثناء وجود الأفغاني بالأستانة زارها الخديوي عباس حلمي، والتقى بالأفغاني لقاءً عابرًا، ولكن الوشاة والحاسدين من أعداء الأفغاني المقربين إلى السلطان وجدوا في ذلك اللقاء العابر فرصة سانحة للوقيعة بينه وبين السلطان، فبالغوا في وصف ذلك اللقاء، وأضفوا عليه ظلالاً من الريبة والغموض، وأوعزوا إلى السلطان أنهما تحادثا طويلاً في شئون الخلافة، وحذّروه من الخطر الذي يكمن وراء تلك المقابلة؛ فاستدعى السلطان العثماني جمال الدين الأفغاني وأطلعه على تلك الأقوال، فأوضح له الأفغاني حقيقة الموقف بجرأة، وانتقد هؤلاء الوشاة بشجاعة لم تعهد لغيره.
كانت الدعوة إلى القرآن الكريم والتبشير به من أكبر ما يطمح إليه “الأفغاني” في حياته، وكان يرى أن القاعدة الأساسية للإصلاح وتيسير الدين للدعوة هي الاعتماد على القرآن الكريم، ويقول: “القرآن من أكبر الوسائل في لفت نظر الإفرنج إلى حسن الإسلام، فهو يدعوهم بلسان حاله إليه. لكنهم يرون حالة المسلمين السوأى من خلال القرآن فيقعدون عن اتباعه والإيمان به”. فالقرآن وحده سبب الهداية وأساس الإصلاح، والسبيل إلى نهضة الأمة: “ومن مزايا القرآن أن العرب قبل إنزال القرآن عليهم كانوا في حالة همجية لا توصف؛ فلم يمض عليهم قرن ونصف قرن حتى ملكوا عالم زمانهم، وفاقوا أمم الأرض سياسة وعلمًا وفلسفة وصناعة وتجارة”.. فالإصلاح الديني لا يقوم إلا على القرآن وحده أولاً، ثم فهمه فهمًا صحيحًا حرًا، وذلك يكون بتهذيب علومنا الموصلة إليه، وتمهيد الطريق إليها، وتقريبها إلى أذهان متناوليها.
يرى بعض الباحثين أن جمال الدين كان إيرانيًا من “أسد آباد” بالقرب من همدان، وأنه كان شيعيًا جعفري المذهب، وذلك بالرغم من اشتهار أمر جمال الدين بانتسابه إلى بلاد الأفغان وأنه سني المذهب، وبالرغم من حرصه على تلقيب نفسه بالأفغاني، وانخراطه في علماء أهل السنة في جميع البلدان الإسلامية التي زارها أو أقام فيها.
ويحاول هؤلاء إيجاد الأدلة، وتدبيج البراهين التي تعضد موقفهم، وتؤيد ما ذهبوا إليه، ومن ذلك:
– وجود عائلة جمال الدين في إيران، وعدم وجود أي أثر لها في أفغانستان.
– إن اسم والد جمال الدين “صفدر”، وهو اسم إيراني شيعي يعني: البطل ممزق الصفوف.
– اهتمام جمال الدين بإيران ومشكلاتها أكثر من اهتمامه بأي قطر إسلامي آخر.
– إجادة جمال الدين اللغة الفارسية باللهجة الإيرانية.
– تمجيد جمال الدين للإيرانيين وإشادته بذكائهم.
وهي في مجملها قرائن لا ترقى إلى الأدلة الجازمة، أو البراهين القاطعة تنقضها كتابات جمال الدين وسيرة حياته، التي توضح أنه كان أفغانيًا سنيًا لا إيرانيًا شيعيًا.
فهو في كتابه “تتمة البيان في تاريخ الأفغان” ينتقد الشيعة في انصرافهم عن بعض أركان الدين إلى ظواهر غريبة عنه وعادات محدثة، فيقول: “وجميع الأفغانيين متمذهبون بمذهب أبي حنيفة، لا يتساهلون رجالاً ونساءً وحضريين وبدويين في الصلاة والصوم، سوى طائفة (نوري)، فإنهم متوغلون في التشيع، يهتمون بأمر مأتم الحسين (رضي الله عنه) في العشر الأول من محرم، ويضربون ظهورهم وأكتافهم بالسلاسل مكشوفة”.
وقد تصدى لهذا الزعم عدد من الباحثين والمفكرين، في مقدمتهم د. “محمد عمارة” الذي رأى أن الرجل لن يعيبه أن يكون إيرانيًا أو أفغانيًا، ولن ينقص من قدره أن يكون شيعيًا أو سنيًا؛ لأنه مسلم تشرف به كل أقاليم الإسلام وجميع مذاهبه.
وأن الذي جعل قضية الخلاف حول موطن جمال الدين وحول المذهب الديني الذي تمذهب به تأخذ بعدًا آخر، أخرجها من هذا الإطار المألوف، هو أن الذين ادعوا إيرانيته وشيعته قد أرادوا –من وراء هذه الدعوى- إثبات كذب الرجل، فقد قال عن نفسه بأنه أفغاني، ونطقت أفكاره وكتاباته بأنه سني، فالمقصد من وراء تلك الدعوة هو هدم الرجل (الرمز) الذي يعتز به الجميع.
الأفغاني والماسونية
انتظم جمال الدين في سلك الماسونية؛ لينفسح له المجال أمام الأعمال السياسية، وقد انتخب رئيسًا لمحفل “كوكب الشرق” سنة (1878م)، ولكنه حينما اكتشف جبن هذا المحفل عن التصدي للاستعمار والاستبداد، ومسايرته لمخطط الإنجليز في مصر استقال منه، وقد سجل الأفغاني تجربته تلك في كلمته التي أدان فيها ماسونية ذلك المحفل الذي يتستر تحت شعارات براقة وأهداف عريضة، لكنه في الحقيقة لا يخرج في ذلك كله عن حيز القول إلى الفعل، بل ربما كان أدنى إلى تحقيق أهداف المستعمر وترسيخ أطماعه بعيدا عن تأكيد مبادئ الحق والحرية والمساواة التي يرفعها مجرد شعار.
تواترت الروايات بأن جمال الدين مات شبه مقتول، وتدل الملابسات والقرائن على ترجيح هذه الرواية، فإن اتهامه بالتحريض على قتل الشاه، وتغيير السلطان عليه، وحبسه في قصره، ووشايات أبي الهدى الصيادي، مما يقرب إلى الذهن فكرة التخلص منه بأية وسيلة، هذا إلى أن الغدر والاغتيال كانا من الأمور المألوفة في الأستانة.
وما ذكره الأمير شكيب أرسلان في كتاب (حاضر العالم الإسلامي)، قال ما خلاصته: (أنه لما اشتد التضييق على السيد جمال الدين أرسل إلى مستشار السفارة الإنجليزية يطلب منه إيصاله إلى باخرة يخرج بها من الأستانة، فجاءه المستشار وتعهد له بذلك، فلما بلغ السلطان الخبر أرسل إليه أحد حجابه يستعطفه أن لا يمس كرامته إلى هذا الحد ولا يتلمس حماية أجنبية فثارت في نفسه الحمية والأنفة، وأخبر مستشار السفارة بأنه عدل عن السفر، ومهما كان فليكن، ولكن الرقابة عليه بقيت كما كانت، وبعد أشهر من هذه الحادثة ظهر في فمه مرض السرطان، فصدرت الإرادة السلطانية باجراء عملية جراحية يتولاها الدكتور قمبور زادة إسكندر باشا كبير جراحي القصر السلطاني، فأجرى له العملية الجراحية فلم تنجح، وما لبث إلا أياماً قلائل حتى فاضت روحه، ومن هنا تقول الناس في قصة هذا السرطان، وهذه العملية الجراحية، لقرب عهد المرض بتغير السلطان عليه، وما كان معروفاً من وساوس عبد الحميد، فقيل أن العملية الجراحية لم تعمل على الوجه اللازم لها عمداً، وقيل لم تلحق بالتطهيرات الواجبة فنياً، بحيث انتهت بموت المريض.)
وذكر الأمير شكيب أن المستشرق المعروف الكونت لاون استروروج حدثه أن السيد الأفغاني كان صديقه، فدعاه إليه بعد إجراء العملية الجراحية وقال له إن السلطان أبى أن يتولى العملية إلا جراحه الخاص، وإنه هو رأي حال المريض ازدادت شدة بعد العملية، ورجا منه أن يرسل إليه جراحاً فرنساوياً مستقل الفكر طاهر الذمة، لينظر في عقبى العملية، فأرسل إليه الدكتور (لاردي) فوجد أن العملية لم تجر على وجهها الصحيح، ولم تعقبها التطهيرات اللزمة، وأن المريض قد أشفى بسبب ذلك، وعاد إلي استروروج، وأنبأه بهذا الأمر المحزن، ولم تمض أيام حتى فارق جمال الدين الحياة.
وذكر واحد ممن كانوا في خدمة عبد الحميد، بعد أن روى له الأمير هذه القصة أن قمبور زاده إسكندر باشا كان أطهر وأشرف من أن يرتكب مثل تلك الجريمة، وحقيقة الواقعة أنه كان بالأستانة طبيب اسنان عراقي اسمه (جارح) يتردد كثيراً على جمال الدين، ويعالج اسنانه، وكانت نظارة الضابطة (إدارة الأمن العام) قد استمالت (جارح) هذا بالمال، وجعلته جاسوس على السيد، وصار له عدوا في ثياب صديق، وقال صاحب هذه الرواية أنه أراد مرة أن يمنع الطبيب المذكور من الاختلاط بجمال الدين، فأشار إليه ناظر الضابطة إشارة خفية بأن يتركه، وفهم من الإشارة أن يذهب إلي السيد ويعالج اسنانه، بعلم من النظارة، والسيد لا يعلم بشيء من ذلك، ويطمئن إلي (جارح) ويثق به، ولم تمض عدة أشهر على حادثة الشاه حتى ظهر السرطان في فك السيد من الداخل، وأجريت له عملية جراحية فلم تنجح، وجارح هذا ملازم للمريض، وبعد موته كانوا يرونه دائماً حزيناً، يبدو على وجهه الوجوم والخزى، مما جعلهم يشتبهون أن يكون له يد في إفساد الجرح بعد العملية، أو في توليد المرض نفسه من قبل بوسيلة من الوسائل، ولما مات السيد بدا الندم على الطبيب الأثيم، وشعر بوغز الضمير يؤنبه على خيانته هذا الرجل العظيم.
وكانت وفاته صبيحة الثلاثاء 9 مارس سنة 1897م، وما أن بلغ الحكومة العثمانية نعيه حتى أمرت بضبط أوراقه وكل ما كان باقياً عنده، وأمرت بدفنه من غير رعاية أو احتفال في مقبرة المشايخ بالقرب من نشان طاش فدفن كما يدفن أقل الناس شأنا في تركيا وتحت مراقبة الدولة..!!
الكلمات المتعلقة