بقلم: محمود كرم
أن يتمتع الإنسان بحرية التفكير، فتلك متعةٌ لا تضاهى، حيث يجد نفسه قد تخلّقَ في مخاض التفكير الحر ضوءً باعثاً على التجديد والإبداع والدهشة والاكتشاف والمجازفة، يملكُ في كل ذلك ذاتية القرار والاختيار والسؤال والتحديق والمواجهة، ومن خلاله يخوض غمار الأسئلة وتزاحماتها وتعاقباتها وإلحاحاتها المتكرِّرة، متسلحًا بموهبة التمرد والرفض والتأمل التفكيري، إنها حريته التفكيرية التي تضرم في ركام الأسئلة جذوة القلق والشك والمواجهة والنقد، إنها الحرية المتوثبة بالتساؤل والقلق والشك والرفض والذكاء والتحديق، التي تجعل الإنسان يفيق من خدَر الاطمئنان اليقيني، ويحلّقُ بعيدًا عن تناسل الموروثات اليقينية التسلطية، ويقفُ واعيًا في مواجهة الترميمات التخديرية للثقافات الدينية والعشوائية، إنها حالة وافرة بوعي التمرد المعرفي المتوّج بسلطة العقل النقدي القادرة على هزيمة السائد من اصطفافات الإجابات الجاهزة والأفكار التلقينية، والتحرر من تعاقبات التثاقلات التاريخية الثقافية التوجيهية، والمُضي في التأسيس التفكيري المعرفي الحر المفعم بالإبداع والخلق والتجديد..
فليسَ هناك أيّ أهمية في أن تملك ميزة التفكير من دون أن تكون حراً فيه، حرًا في خلق مناخاته المعرفية البِكر المنعتقة من هيمنة المرجعيات الثقافية اليقينية الإطلاقية، وحرًا في اجتراح طرائقهِ التواصلية مع عالم الأفكار والتصورات والمفاهيم، مستقلاً عن سلطة الثقافات الشفاهية والتلقينية المتوارثة، وحرًا في ابتكار بداياته المعرفية المتحرِّرة من الأسبقيات الذهنية الاعتقادية والغيبية ومن التحيزات الثقافية الأيديولوجية والعقائدية والمذهبية والهوياتية، وحرًا في امتلاك ذاتية السيطرة الذهنية على التحاور مع الأفكار والمفاهيم، وحرًا في صناعة تخلقاته التفكيرية القادرة على استدعاء توافقاتها الفكرية الإنسانية الحرة، فالتفكير الحر يستدعي بالضرورة الاشتراطية توافقاته الفكرية الحرة، يتحاوران انطلاقًا من أرضيةٍ خالية من تشوهات الثقافات الاستلابية والاستبدادية والتحيزيّة، ويتجاذبان بجمالية الاستنطاق الفكري الرحب لصناعة المفاهيم والثيمات الإنسانية الكونية..
وتكمن متعة التفكير الحر في أنها الدافع الحقيقي للإنسان لتحقيق ذاته التفكيرية الحرة، الذات التي تتخلق إبداعًا وإلهامًا وتدفقًا كلما خطت خطوة أبعد في تحقيق وجودها التفكيري الحر، وتتحسس جوهر وجودها هذا من خلال متعتها الحقيقية العليا في تحقيقها الذاتي لحريتها التفكيرية الدافعة لاقتراف فعل التمرد المعرفي، وتلمس دروبه المضيئة الحرة التي تسير بالإنسان، حرًا، متفتحًا، ناقدًا، متمردًا، مبدعًا، محدقًا، وواعيًا، ليقف في مواجهة يقينياته التقليدية وفي مواجهة قناعاته المسبقة التلقينية، وفي مواجهة أوهامه وثقافاته الغيبية المهيمنة، وفي مواجهة ترسبات ثقافته العقلية الجمعية، إنه التمرد المعرفي الذي يبعث الإنسان من جديد، متجددًا في تخلقاته التفكيرية، متعافيًا من ترسابته الاعتقادية الاعتلالية، متحررًا من استبداد موروثاته التاريخية ومنقولاته التراثية، منعتقًا من تناقضاته وازدواجيته الثقافية، ماضيًا في آفاقه الحرة التجديدية، ومبدعًا بتفرداته الذاتية الخلاقة..
إنها حرية الإنسان التفكيرية المفعمة بالتحريض التلقائي على النقد والمواجهة والتشخيص والحركة، وفقًا لحسه التفكيري الوجودي الحر، ووفقًا لإرادته النقدية الذاتية في فهم الأفكار والتغيرات والتحولات، تأكيدًا واقعيًا منه على الوجود التفكيري لذاته الانبعاثية التي تشكّلت طويلاً وعميقًا في مخاض تموجات التمرد المعرفي، فالذات الإنسانية المفعمة بحرية التفكير تكشف عن تألقها المعرفي، وعن تنوعاتها الفكرية، وعن اندفاعاتها وبراعتها في اقتناص سبل التواصل الجمالي مع الحياة، تأكيدًا منها على وجودها الواقعي في فعل التغيير والحركة والتجدد والتنوع، إنه التأكيد الواعي في السيطرة على تدفقات الأفكار، وضبط الذهن على إيقاع المعرفيات الإنسانية الخالية من نزعة التحيز والقبح والانغلاق والعدائية والشرور والتسلط..
وأن يتمتع الإنسان بحرية التفكير المطلقة، فذلك يعني بالضرورة التلقائية التأكيد الواعي منه على تفعيل وجوده التفكيري الحياتي ووضعهِ دائمًا قيد الاشتغال على تطوير أدواته التفكيرية، واجتراح طرائقه التواصلية والتداولية، وتحفيز إدراكاته الذهنية على الانفتاح والتعالق الإنساني الثقافي، هذا الاشتغال يدفع بالإنسان إلى تبنّي حالة دائمة من الاستعداد الذاتي لخوض معاركه التفكيرية التحررية من هيمنة المرجعيات الاستلابية ومن شرور الأدلجات التحيزية والعدائية والاقصائية والتسلطية، فالتفكير الحر يضع الإنسان دائمًا أمام مسئوليته التفكيرية الوجودية في التمسك الحر بحقه الإنساني الأصيل في خوض معاركه التحررية متجليًا بتمرده المعرفي، ومفعمًا بحرية التفكير الفلسفي، ومتوقدًا بالنقد والسؤال والشك والتحديق، ومنشغلًا ببناء فلسفته الثقافية الحرة، إنه الوعي بحقهِ الإنساني الذي يضعه أمام اختياراته الذاتية الحرة، ويدفعه نحو تبنّي سؤال المعرفة الباعث على الوعي بأحقيتهِ الكاملة في الإدراك والاستنتاج والاكتشاف والتفكيك والتحليل..
ولا يستطيع الإنسان أن يسلك طريق التمرد المعرفي من دون أن يمتلك في ذلك حرية التفكير والتي تعني في أحد أهم مميزاتها الخلاقة امتلاك الإنسان لإرادة الانتقال، إنها الإرادة التي تدفعه وعيًا وفكرًا وانفتاحًا وتساؤلًا ونقدًا وبحثًا نحو الانتقال المفعم بالنضج العقلي التفكيري إلى مستوى يتصاعد بالإدراك المعرفي والوعي الفلسفي، إنها الإرادة التي تمنح الإنسان مهارة الانتقال من ثقافة الغيبية إلى العقلانية، ومن الوهم إلى السعي إلى الحقيقة، ومن الجهل إلى العلم، ومن الخرافة إلى العقل، ومن اللاتفكير إلى التفكير، ومن التلقين والشفاهية إلى البحث والنقد والتجريب، ومن استبداد العقل الجمعي إلى ذاتية التكفير الحر، ومن القيود واشتراطات المرجعيات الثقافية إلى آفاق الحرية الفكرية والتفكيرية، ومن الأدلجة الهوياتية وأدبياتها الخانقة إلى رحاب الفكر الإنساني الكوني، ومن الانغلاق والإنسداد والانكفاء إلى الانفتاح والانطلاق والتحرر، إنها الإرادة التي يمارس فيها الإنسان حقه الإنساني في الفعل التفكيري الإدراكي، ويحقق من خلالها الفتح المعرفي الانتقالي الملهم للتغيير والتجديد والتطور..
ومن واقع وإرادة ذلك الانتقال التفكيري الحر، يتجلَّى الإنسان وعيًا وإبداعًا وإرادةً وتفكيرًا في اجتراح صياغاته الحياتية وابتكار آفاقه الحرة الخالية من التشوهات والقباحات والتعقيدات والاستلابات والأدلجات والتحيزات المذهبية واليقينية، حيث تضمن له تلك الصياغات والآفاق مستويات خلاقة من التمرد المعرفي ومن التعايش والتعالق الجمالي الحر مع الأفكار والمفاهيم والتصورات والحياة والواقع..