الأقباط متحدون - شارع البابا شنودة
  • ٠٥:٢٨
  • الأحد , ١٨ مارس ٢٠١٨
English version

شارع البابا شنودة

مقالات مختارة | بقلم : فاطمة ناعوت

١١: ٠٩ م +02:00 EET

الأحد ١٨ مارس ٢٠١٨

شارع البابا شنودة
شارع البابا شنودة

 «مات اليومَ رجلٌ صالحٌ، فقوموا وصلّوا على أخيكم». هكذا قال الرسول (ص)، حين مات أصحمة النجاشى ملك الحبشة، الكريمُ العادلُ الذى لا يُظلم عنده أحدٌ. كان مسيحيًّا، وأكرمَ وفدَ المسلمين الذين لجأوا إليه هربًا من تعنُّت قريش مع أتباع الدين الجديد. ومنذ ستّ سنوات، فى مثل يوم أمس، فقدت مصرُ الطيبةُ رجلاً صالحًا، قلّما يجودُ الزمان بمثله. قداسة البابا شنودة الثالث، رحمه اللهُ رحمةً واسعةً بقدر ما منح مصرَ وشعبَ مصرَ من حبّ فاق كلَّ تصوّر. لم تَهُن عليه مصرُ أبدًا، حتى فى أشد اللحظات قسوةً عليه وعلى أقباط مصر.

 
كان رجلاً استثنائيًّا فى الوطنية والحكمة. امتلكَ ناصية اللغة؛ فكان شاعرًا وفيلسوفًا وكاتبَ مقال رفيعَ الطراز. وامتلك ناصية الوطنية؛ فتحمّل الكثيرَ من أجل استقرار مصرَ ووحدة صفّها. وامتلك ناصية المحبة؛ فكان الأبَ المُعزّى لأبنائه كلما ضربتهم محنة طائفية على يد إرهابيّ ذميم. وامتلك ناصيةَ الحكمة والسياسة؛ فعرف دائمًا كيف يحوّل أحزان الأقباط لمزيد من المحبة لإخوانهم المسلمين، وحتى للمُسيئين منّا. وامتلك ناصية الزهد والتقشّف، فاعتكف فى الدير سنوات لا يبرحه، ليحيا للصلاة والتأمل والدعاء لمصر وشعبها الطيب. عاش بهدوء ورحل بهدوءِ ناسكٍ، أحبَّ الله، فأحبَّ كلَّ خلق الله، دون تمييز. كان حديثُه مثقفًا حُلوًا لا يخلو من خفّة ظِلٍّ وسرعة خاطر فى امتصاص أحزان المسيحيين؛ مُحوّلاً أنظارهم نحو السماء التى فيها العدلُ والعزاء عمّا يلاقى البشرُ على الأرض.
 
ترفَّع عن الصغائر والدنايا. فلم يغضب يومًا مما يُقال فى حقّه من سخافات كان يُطلقها تافهون فارغو العقل فقيرو الروح. وكان يمنع شعبَه من الغضب لأبيهم الروحى ورمزهم الدينى. حتى حين كان ينفجرُ الأمرُ فى إحراق كنيسة أو قتل مسيحيين، كان يدعو للغفران مُرددًا قولته الشهيرة: «كلّه للخير، مسيرها تنتهى، ربنا موجود» ثم يُصليّ للمجرمين داعيًا الله ألا يُقيم عليهم خطاياهم لأنهم لا يعرفون ماذا يفعلون. وحين احتشد الإرهابيون حول مقرّ إقامته بالبيت البابوى فى الكاتدرائية، قُبيل رحيله، رافعين اللافتات البذيئة فى حقّه وحق المسيحيين، قام وتحدّث إلى الأقباط فى وعظة تاريخية عنوانها: «اغفروا»، ونجح فى تحويل الأحزان والغضب إلى محبة وتسامح وسموّ؟! فى إحدى عِظاته عام ١٩٨٠، قال البابا شنودة لأقباط مصر:
 
«مثلما أنا مستعدٌّ لأن أبذل حياتى من أجل أيّ واحد منكم، فإننى مستعد لبذل حياتى من أجل أى مسلم فى هذا البلد. إن الحب الذى فينا لا يعرفُ تعصبًا ولا تفريقًا. فنحن أخوة فى هذا الوطن. ونحن جميعًا مستعدون لبذل أنفسنا من أجل كل ذرة تراب فى مصر. نحن لا نعرف سوى الحب».
 
‫عمل على بناء كنائسَ قبطيةٍ (مصرية) فى المهجر؛ حتى لا تذوبَ هُوية الأقباط فى الهُويات الغربية. فكأنما بهذا كان يمدُّ خيوطَ المواطَنة بين أبنائه وبين وطنهم مصر، فكأنما لم يبرحوها مهما استطالت خيوطُ الغُربة، وتشتتت فى أرجاء الأرض.
 
فى أكتوبر ٢٠١٢، حينما دسّت أمريكا أنفها فى شأننا الوطنى، ولوّحت بحماية كنائس مصر، ولوّح بعض أقباط المهجر غير الوطنين بتدويل القضية القبطية، قال البابا شنودة بهدوء وحسم: «إن كانت أمريكا ستحمى الكنائس فى مصرَ، فليَمُت الأقباطُ وتحيا مصر».
 
أقولُ له اليومَ فى رحلته للأبدية: يا قداسة البابا شنودة، أيها الوطنى الشريف، إن مصر، بعد الله، هى التى ستحمى كنائسَها كما تحمى مساجدها وهياكلها وأهراماتها ومعابدها. مصرُ قادرةٌ على حماية أبنائها بالقانون والعلم. والمصريون على رباط إلى يوم القيامة. لم يفرِّق بينهم شيطانٌ ولا مُغرِض طوال تاريخها العريق، ولن يحدث. فنَمْ مستريحًا، وانعمْ بفردوس السماء، لأنك أهلٌ لذلك.
 
وأقول للرئيس الوطنى عبدالفتاح السيسى، أتمنى أن نجعل فى مصر شارعًا باسم قداسة البابا شنودة، مثلما جعلتْ أمريكا أحد شوارع ولاية نيوچيرسى على اسم ذلك الرجل المصرى العالمى النبيل: Pope Shenouda street. ذلك الشارعُ الذى زُرتُه بنفسى والتقطتُ فيه صورًا تذكارية؛ وأنا أقفُ بفخر تحت لافتة تحملُ اسمَ رجلٍ نبيل من بلادى.
نقلا عن المصرى اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع