يحكى لنا نك روبنز فى كتابه عن الشركة التى غيرت العالم (ترجمة الأستاذ كمال المصرى) عن استخدام القوة الغاشمة كوسيلة لنهب ثروات الشعوب من خلال شركة الهند الشرقية البريطانية والتى تأسست عام 1600 م وساهمت فى بناء الإمبراطورية البريطانية التى كانت لا تغيب عنها الشمس واستمرت فى النمو والتوسع والسيطرة لمدة 274 عاماً (تم إعلان وفاتها رسمياً عام 1874 م) كما أنها لعبت دوراً أساسياً فى احتلال الهند وتخريب الصين، بالإضافة إلى إخضاع كل من اليابان وسنغافورة لسيطرتها، شركة الهند الشرقية كانت ولا تزال النموذج لما يطلق عليه المهندسون والعاملون فى قطاع التنمية المستدامة The Pilot أو النموذج الأولى من الشركات الدولية العابرة للقارات والتى تتحكم حالياً فى الاقتصاد العالمى بحجم أعمال يكاد يصل إلى ضعف الناتج القومي للولايات المتحدة الأمريكية فى عام 2017 والذى وصل إلى حوالى 18 تريليون دولار، وتتوزع الشركات متعددة الجنسيات عالمياً حسب قائمة فورشن فى عام 2017، حيث يوجد حاليا 500 شركة منها 449 شركة تتخذ مقار رئيسية لها في ثلاث مناطق اقتصادية رئيسية هى منطقة الاتحاد الأوروبي وتضم 155 شركة ومنطقة الولايات المتحدة الأميركية وتضم 153 شركة ومنطقة اليابان التى تضم 141 شركة ويتركز في الثلاث مناطق أكثر من 80% من إجمالي الإنتاج القومي العالمي وتستأثر هذه الشركات بحوالي 85% من إجمالي التجارة العالمية.
أجبرت شركة الهند الشرقية البريطانية الشركات الغربية المنافسة لها مثل الشركات البرتغالية والهولندية والفرنسية على الأنسحاب بسبب الامتيازات شبه السيادية التى تم منحها لهذه الشركة ومنها حق الشركة فى تكوين جيش من المرتزقة وسك عملاتها الخاصة فى الدول التى تتواجد بها وإنشاء محاكم خاصة بها تحكم بقوانين تفرضها الشركة إلا أن أهم هذه الأمتيازات هو حق إعلان الحرب على أى دولة تقف ضد الأطماع الأستعمارية للشركة، وكانت القوة الغاشمة هى أداة الشركة فى احتلال الهند عام 1750 حيث كانت الهند فى هذا الوقت تنتج 25% من الإنتاج الصناعى للعالم فى حين كانت بريطانيا تنتج 2% فقط!
وصف وليام ميرديث (من أبرز السياسين البريطانيين فى النصف الثانى من القرن الـ 18) شركة الهند الشرقية بأنها نظام احتكارى يسعى لإشباع نهمه وجشعه التجارى ويستخدم وسيلة واحدة لتحقيق هدفه هى القوة الغاشمة لحكم الهند من خلال حكومة عسكرية فاشية مكنت الشركة من احتكار تجارة الأقمشة والتبغ والقهوة والتوابل ومصادرة الأراضى واستخدام العمال الزراعيين للعمل بنظام السخرة حتى صار الفقر والأوبئة والمجاعات سمة مميزة للهند درة التاج البريطانى، بالرغم من أن الشركة ما بين عامى 1757 – 1780 حققت أكبر ثروة فى العالم فى ذلك الوقت قدرت بحوالى 38.4 مليون جنيه إسترلينى (تم استخدام هذه الثروة فى تمويل قروض للحكومة البريطانية بفوائد مخفضة وهو ما فتح باب ضخم للفساد فى مقابل غض الطرف عن الممارسات الاحتكارية واللا أخلاقية للشركة)، بالإضافة للضرائب التى جمعتها الشركة من ولايات الهند لصالح بريطانيا العظمى والتى استخدمت فى تمويل حروبها الخارجية وفى مقابل هذه الخدمات قامت الحكومة البريطانية بمنح حق تصدير الشاى والفضة والأفيون للصين حصرياً للشركة، التى أجبرت المزارعين الفقراء بالهند فى مرحلة لاحقة على زراعة الأفيون كبديل لمحصول الذرة ثم أعادت تصديره للصين التى تحول إدمان الأفيون بها إلى وباء يحصد أرواح ملايين المواطنين ناهيك عن إشعال حربين وإجبار الحكومة الصينية المهزومة على إصدار تشريع يقنن تجارة الأفيون داخل الصين ويفتح موانئ الصين لهذه التجارة المحرمة وتأجير ميناء هونج كونج الاستراتيجى لمدة 100 عام.
بإعلان وفاة شركة الهند الشرقية البريطانية فى عام 1874 بسبب سوء الإدارة والفساد كان اتجاه تدفق الثروات من الشرق إلى الغرب قد تم تحويله لأول مرة فى التاريخ الاقتصادى، وبعد أن كانت أوروبا تقوم بشحن الذهب والفضة عن طريق مصر إلى الشرق فى مقابل التوابل والمنسوجات وغيرها من المنتجات أصبح الأقتصاد الأوروبى ضعف اقتصاد الهند والصين معاً وهو عكس الوضع الذى كان سائداً قبل عام 1600 م، وهو الوضع الذى ما زال مستمراً فى عصر العولمة حيث تم تطوير فكرة الشركة التى تحكم العالم إلى الشركات والصناديق المالية الدولية العابرة للقارات مع استخدام القوة ناعمة كبديل لاستخدام القوة الغاشمة، ورغم صعود الصين والهند فى الثلاثين عاماً الأخيرة مقابل هبوط الولايات المتّحدة والغرب كقوة اقتصادية وصناعية حيث توقّع «مجلس الاستخبارات الوطنيّ الأمريكى» والذي يشمل جميع الأجهزة الأمنيّة بما فيها «وكالة الاستخبارات المركزيّة CIA» في دراسة له أنّه في عام 2030 ستتجاوز الصين والهند الولايات المتّحدة وأوروبا معاً بناء على الناتج المحلى وعدد السكّان والإنفاق العسكريّ والاستثمار التكنولوجى وبالتالى ففى ظل العديد من المتغيرات الاقتصادية والجيوسياسية تعيد الشركات والصناديق الدولية توجيه بوصلتها الاستثمارية والجغرافية لتتلاءم مع تحديات الأزمات الاقتصادية الدولية والإقليمية والتى تؤدى إلى تغيير مستمر فى خارطة تحالفاتها مثل القبول بالتحالف مع منافسين آخرين أو بيع حصص تحت مسميات أكثر قبولاً (الاندماج أو الاستحواذ) وهو ما يؤدى إلى ظهور شركات وصناديق جديدة (آسيوية المنشأ فى الغالب) تمتلك منتجات قائمة على التكنولوجيا والابتكار ولديها قدرات معلوماتية وقواعد بيانات ضخمة تحقق لها نسب مبيعات وأرباحا أكثر من الناتج القومى للعديد من دول العالم الثالت مجتمعة مما يعنى أن هناك تهديدات جادة لاستمرار التفوق الاقتصادى والتكنولوجى للغرب والأهم أن هناك مساحة للمناورة يمكن لدول العالم الثالث الجادة استغلالها لركوب قطار التنمية المستدامة وتحقيق تقدم اقتصادى لمواطنيها.
تاريخياً كان ولا يزال تلاقى المصالح بين أنظمة العالم الثالث التى تحتكر السلطة فى ظل غياب معايير الشفافية وانتشار الفساد وتزييف الوعى وتعطيل للآليات الشعبية من ممارسة دورها فى المراقبة ومحاسبة المسؤولين وبين أنظمة استعمارية تحتكر الثروة والعلم والتكنولوجيا هو ما يفتح الباب للشركات والصناديق المالية الدولية سواء غربية أو شرقية ويمكنها من نهب ثروات وموارد ومقدرات الشعوب والإضـرار ببيئتهـا بل التدخل فى شئونها الداخلية وإغراقها فى دائرة الديون الجهنمية والأهم هو تحويل الصديق إلى عدو وتحويل الأعداء التاريخيين إلى أصدقاء استراتيجيين، حاصل القول أنه لا بديل أمام العالم الثالث عن السير قدماً نحو الخلاص من التبعية وتبعاتها وتحقيق التنمية المستدامة إلا بإحداث طفرات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية حقيقية وإقامة مؤسسات مدنية مستقلة الإرادة تستمد قوتها من نظام ديمقراطى حقيقى يفتح المجال العام للحقوق والحريات والعدالة الاجتماعية ويدعم البحث العلمى والابتكار ويخلق فرص متساوية لمجتمع للتقدم والازدهار.
نقلا عن المصرى اليوم