بين العلم والوهم: هل العلاج بالموسيقى فعّال؟
منوعات | رصيف 22
الاربعاء ٢١ مارس ٢٠١٨
يشتد الجدال العلمي بين فترة وأخرى حول النظريات العلمية الحديثة وأساليب تطبيقها، وهو اليوم يحتدم حول إخضاع العلاج بالموسيقى للمنهج العلمي، ما بين مؤيد ومعارض بشأن ما إذا كان المعالجون به يستخدمون منهجاً علمياً أصيلاً أم مجرد اجتهادات بلا ضابط أو منهج.
وقد اعترفت جامعات غربية كبرى بالعلاج بالموسيقى، وأنشئٓت الجمعية الأمريكية للعلاج بالموسيقى“AMTA” منذ عام 1971 لدعم الأبحاث الجديدة والمعالجين، لكن يبدو أن هذه المناهج تأخرت كثيراً في الوصول للعالم العربي.
التوحُّد والعلاج بالموسيقى
أوضحت دراسة نُشرت في مجلة "نيتشر-nature "، للباحثتين "نينا كراوس" و"باراث تشاندراسكارين"، أن عزف الموسيقى يؤدي إلى تغييرات في النظام السمعي، وأن لدى الموسيقيين ميزات تتعلق بالمهام اللغوية، لأن الموسيقى تمدهم بالقدرة على الربط بين القراءة والمهارات السمعية، كما تعمل على تعزيز الإشارات السمعية من المخ، فيما أوضحت دراسة أخرى نُشرت بمجلة "العلاج بالموسيقى" دور الموسيقى الإيجابي في تحسين حالات مرضى التوحد والتفاعل الإيجابي مع الأقران.
مُعالج مصري: محاولاتنا "اجتهادات فردية"
يقول الدكتور سيد الرفاعي، استشاري الطب النفسي وعازف العود، لرصيف22، إن العلاج بالموسيقى موضوع دقيق جداً يحتاج لخبرة كبيرة تمكّن المعالج من استخدام منهج علاجي.
تجربة "الرفاعي" الأولى بدأت مع مجموعة من المرضى باضطرابات الشخصيّة، إذ استخدم حينذاك الموسيقى والشعر لعلاجهم، يقول: "ما أفعله هو أنني استنهض الوعي والوجدان".
ويحكي عن تمضيته 14 شهراً في علاج طفل مصاب بالتوحد واستخدام أنواع عديدة من العلاج، منها عزف عود لفترات طويلة، ولم يكن هناك أية استجابة في البداية، إلى أن بدأ الطفل بنطق بعض الحروف وتحريك جسمه تحريكاً غير منتظم أثناء سماع الموسيقى، إلى أن استطاع في نهاية العلاج تكوين جُمل مفيدة.
ويصف "الرفاعي" ما وصل إليه، بالنجاح، قائلاً: "تحسين حالة المريض هو علاج في حد ذاته، فالطفل في نهاية البرنامج استطاع حفظ جدول جميع وجبات الغذاء بالمستشفى".
أقوال جاهزة
العلاج بالموسيقى موضوع دقيق جداً يحتاج لخبرة كبيرة تمكّن المعالج من استخدام منهج علاجي
للعلاج بالموسيقى آثاراً إيجابية فى تحسُّن حالات أطفال مصابين بالتوحد وآخرين مصابين بتأخر النمو
على مدى تسع سنوات عمل في العلاج بالموسيقى، اكتسب الطبيب الموسيقي خبرة كبيرة جعلته يقول إن المُعالج النفسي هو الأساس في نجاح العلاج، الذي يتطلب تدريباً متخصصاً، ليغدو على دراية بجميع الأمراض النفسيّة وأنماطها وأعراضها، وهذا يختلف كلياً عن الموسيقي الذي يُسمع المريض إيقاعات لها استجابات آنية، لأن الموسيقى بطبيعتها تعمل على الاسترخاء Relaxation لكن هذا كله لا يعتبر علاجاً.
ويضيف الرفاعي: "يجب أن ينتبه المُعالج لتغيّرات ملامح وجه المريض، وأن يرصد جميع التفاصيل ويدوّنها ويكتب تقاريره، وهذا يتطلب تأهيلاً ليس موجوداً في مصر.
ويشير إلى أن التجارب المصرية في العلاج بالموسيقى فردية وضعيفة المستوى لا يحكمها منهج علمي، وهذا يختلف عن التجارب في دول أوروبا وأمريكا، إذ هناك جهات معتمدة مثل الجمعية الأمريكية للعلاج بالموسيقى “AMTA” .
الاتحاد العالمي للعلاج بالموسيقى
"أنجيلا هاريسون" المتخصصة في العلاج بالموسيقى ومديرة العلاقات العامة في الاتحاد العالمي للعلاج بالموسيقى "WFMT" The World Federation of Music Therapy، تقول إن خبرتها تكشف عن أن العلاج الموسيقي هو الجزء الأهم والأكثر فاعلية ضمن خطة علاجية متكاملة.
وتضيف في حوار لرصيف22 عبر البريد الإلكتروني، أن العلاج بالموسيقى يساهم في علاج العديد من الأمراض، لكن يجب أن لا يدعي أحد بأن ذلك علاج وحيد للمرض. وعلى سبيل المثال، أظهرت نتائج عدد من الأبحاث الحديثة أن للعلاج بالموسيقى آثاراً إيجابية فى تحسُّن حالات أطفال مصابين بالتوحد وآخرين مصابين بتأخر النمو، عن طريق تنشيط مهارات التواصل وتطوير المهارات اللغوية.
وتجزم بأن العلاج بالموسيقى قد يساعد الناس على استعادة الحركة والكلام بعد إصابات الدماغ أو السكتة الدماغية، كما يعمل على تحسين وظائف التواصل الاجتماع لمرضى انفصام الشخصية، فضلاً عن تحسين أحوال المصابين بالشيخوخة والحد من أعراض الخرف "Dementia".
وتؤكد المعالجة البريطانية المعتمدة أن مدة العلاج تختلف من شخص لآخر بحسب استجابته وحالته، كما تتأثر مدة العلاج بجودة المركز المتخصص في العلاج والتسهيلات المتوافرة.
وعن الممارسين لهذا النوع من العلاج من غير المتخصصين، ترى أن المعالج لا بد أن يُعتمد من جمعيات مهنية متخصصة أو جهات حكومية، فالعديد من البلدان لا يسمح فيها القانون بحمل لقب "مُعالج موسيقي" إلا بعد اعتماد المتخصص رسمياً. ففي المملكة المتحدة على سبيل المثال، يتم تدريب الممارسين على أعلى مستوى، ولا بد أن يحصلوا على درجة الماجستير أوّلاً، ثم يتم اعتمادهم من قبل مجلس المهن الصحيّة، وهو الجهة المسؤولة عن إصدار التراخيص التي تسمح بمزاولة المهن الطبيّة والصحيّة، وهذا يضمن تطبيق المعايير المهنيّة والتطوير الطبي المستمر للمُعالج.
وقد صودف في أول الشهر الجاري اليوم العالمي للعلاج بالموسيقى، الذي نظمه الاتحاد العالمي للعلاج بالموسيقى.
من علاج مساعد إلى علاج أساسي
بيّنت دراسة لـ"مايكل توت" نشرت على الموقع الإلكتروني لأكاديمية نيويورك للعلوم، بعنوان "مستقبل الموسيقى في العلاج والطب"، أن دور الموسيقى ووظيفتها في العلاج والطب يشهدان تحولات سريعة تعتمد على أبحاث حديثة في العلوم العصبية، تظهر فيها تأثيرات الموسيقى على الأعصاب في الدماغ، وكيف تغيّر الموسيقى من وظائف الدماغ بالتعلم والخبرة.
ومن خلال التجارب السريرية المتكاثرة، تزداد النتائج، التي لا تختص فقط بالأبحاث النفسية، لكن أيضاً بالعلوم العصبية، على أساس معرفة العلاقة بين وظائف الدماغ والموسيقى، وهذه التحولات وصفها الباحث بالقادرة على نقل العلاج بالموسيقى من طريقة مساعدة لطريقة علاج أساسية.
علاج تدعيمي وليس أساسياً
تختلف إيمان عماد، الباحثة المتخصصة في علم النفس، مع ما يقوله "توت"، وتشير إلى أن العلاج بالموسيقى نوع من العلاج المساعد وليس علاجاً رئيساً، تُطلق عليه تسمية "علاج تدعيمي" مثل العلاج بالرسم، أو القراءة أو الرقص، ويستخدم للمرضى والأصحاء على السواء.
وفي الوقت نفسه، تؤكد لرصيف22، أن دراسة "توت" تتطرق إلى المستقبل، وإلى إمكان أن يصبح العلاج بالموسيقى علاجاً رئيساً وليس مصاحباً فقط، موضحةً أن أسلوب العلاج بالموسيقى"music therapy" معترف به من الجمعية الأمريكية النفسية، وبالتالي فهو ليس دجلاً كما قد يعتقد البعض.
وبرأي "عماد"، لا يمكن القول إن هناك علاجاً لأمراض نفسية أو عقلية أو عصبية عن طريق الموسيقى فقط، وإن من يقول بهذا يصبح فى عداد "الدجالين والمحتالين" ولا يمت للعلم بصلة.
من يدعي العلاج بالموسيقى فقط يبيع الوهم للناس، كمن يدعي العلاج بالطاقة ويستغل المنهج ويجمع أموالاً طائلة
وعن مدى نجاح العلاج بالموسيقى، ترى أنه يعتمد على عدة عوامل، أهمها استعداد الفرد نفسه للتأثر بهذا النوع من العلاج، إذ لا يمكن استخدامه مع شخص لا يحب الاستماع إلى الموسيقى من الأساس، أو يعتقد أنها "حرام" على سبيل المثال، ففي هذه الحالات لن يجدي العلاج نفعاً.
وتلفت إلى وجود بعض الأفراد في مصر يمارسونه في نطاق ضيق، ربما مع الأسوياء لتحسين مزاجهم أو لمساعدتهم على الاسترخاء، أو لأغراض بحثية مثل باحث يريد أن ينشئ برنامجاً لخفض الاكتئاب عند مرضى السرطان أو الإدمان، فيستخدم العلاج بالموسيقى كجزء من برنامجه العلاجي.
لكنها تشير إلى وجود أبحاث مصرية تختص بكيفية إدراك الموسيقى وتذكرها أو تأثيرها على الانفعالات البشرية، وهي أبحاث في معظمها تُعنى بتأثير الموسيقى على الدماغ من دون التطرق للعلاج بمفهومه المنهجي.
أبرز هذه الدراسات وأقدمها، والحديث للباحثة، أعدتها آمال صادق، الحائزة شهادة الدكتوراه بالفلسفة في علم النفس من جامعة لندن وأستاذ ورئيس قسم علم النفس التربوي بجامعة حلوان، وأهم ما نشرته فى هذا المجال كتابان عن الموسيقى وعلم النفس، هما: "لغة الموسيقى: دراسة في علم النفس اللغوي و تطبيقاته في مجال الموسيقى" و "بحوث ودراسات في سيكولوجية الموسيقى".
إشكالية تعميم نتائج الدراسات
تتفق الباحثة المتخصصة في علوم الأعصاب الحيوية، رضوى لطفي، مع الباحثة إيمان عماد، في أن العلاج بالموسيقى علاج مصاحب وليس علاجاً رئيساً.
وطبقاً للأبحاث المنشورة في هذا المجال، توضح "لطفي" وجود تجارب أُجريت بتشغيل الموسيقى لمعرفة أثرها على مرضى "الباركنسون- الشلل الرعاش" ووجدت أنها تعمل على تحسين آدائهم الحركي ورفع معدلات السعادة لديهم.
لكنها ترى في حديثها لرصيف22 أن هنالك دراسة معنية بـ"العلوم الزائفة"، كشفت أن التوحُّد لا يمكن علاجه بشكل كامل بالموسيقى، وأنه لا توجد أبحاث علمية نستطيع من خلالها التأكيد أن العلاج الموسيقى كافٍ وحده.
وتستشهد ببحث الدكتورة "مائدة الطعان" في جامعة البصرة بالعراق، الذي طبق العلاج بالموسيقى على المترددين إلى عيادات الطب النفسي من المرضى بالتشاؤم، واختبرت التجارب تعزيز الخيال وتأثيره على معدلات التشاؤم بالزيادة أو النقصان، وكانت النتائج إيجابية، وتستطرد: "هناك دراسات عدة أثبتت فعالية العلاج، لكننا لا نستطيع تعميم نتائجها، وهذا هو محل الخلاف بين الباحثين في هذا المجال".
علماً أن ثمة دراسات عدة توضح أن الموسيقى تساعد في العلاج من مرض فقدان القدرة على الكلام، عن طريق أسلوب يستخدمه المعالجون لمساعدة الناس الذين يعانون من اضطرابات التواصل اللغوي. فطبقاً لدراسة منشورة في أكاديمية نيويورك للعلوم، فإن للعلاج الموسيقي لمرضى فقدان الكلام فوائد جمة، منها تعزيز القدرة على التنفس والقدرة الصوتية والتعبير عن الكلام وزيادة عمليات التواصل اللفظي وغير اللفظي.
لكن الدكتور سيد الرفاعي لا يؤيد فكرة تعميم نتائج هذه الدراسات، يقول: "يمكن أن تقرأ دراسات أُجريت على مرضى السرطان مثلاً، وبيّنت النتائج أن مقاومتهم للمرض زادت بعد الاستماع إلى الموسيقى، وهناك بحوث عديدة ذهبت هذا المذهب، لكن ينبغى ألا تُعمّم نتائجها، والأفضل حصرها في البحث نفسه ومجتمع الدراسة".
ويضيف: "إذا نُفّذت بعض التجارب في مجتمع مختلف وفي سياق آخر يمكن أن تختلف نتائجها باختلاف المنهج والعينة والثقافة، وهذا ما يجب أخذه في الاعتبار.
ويلفت إلى وجود بعض الدراسات في كلية التربية الموسيقية بمصر، لكنها تُعبّر عن عينات لا تُعبّر عن مجتمع الدراسة، معللاً ذلك بأن أغلبها تم لأغراض الحصول على الدرجة العلمية فقط، ويقول: "إذا أردنا الابتعاد عن الدرجات العلمية والحديث عن الممارسة الفعليّة، فسنجد بعض حاملي الشهادات في العلاج النفسي، الذين لديهم عيادات، لكنهم لا يعالجون أحداً بالموسيقى. من يدعي العلاج بالموسيقى فقط يبيع الوهم للناس، مثل من يدعون العلاج بالطاقة أو خبراء التنمية البشرية الذين يستغلون المنهج استغلالاً سيئاً، ويجمعون أموالاً طائلة.
هذا المقال كان نتاجاً لورشة الصحافة العلمية "العلم حكاية" برعاية معهد جوته وهيئة التبادل الأكاديمي الألمانية DAAD و أونا أكاديمي. المشروع مدعم من مكتب الخارجية الألمانية الفيدرالي.