ولا تنسي سيدتي أن تنبطحي
مقالات مختارة | فريق شيزلونج
الخميس ٢٢ مارس ٢٠١٨
تأتي “لا تنسي سيدتي أن تنبطحي” في إحدى قصص سلسلة “ما وراء الطبيعة” التي كتبها د. أحمد خالد توفيق، كردّ على سؤال عن كيفية مواجهة “وحش الكهوف”، بأسلوب الكاتب الساخر المعروف عنه. لكن، في حياتنا اليومية كإناث في مجتمعات شرقية، نجد النصيحة في محلها تمامًا، بمواجهة ضغوط الحياة اليومية، التي يصبح وحش الكهوف صاحب الوجه الخارج من كوابيسنا، خطرًا بسيطًا يمكن بقليل من الحظ وبعض التفكير تفاديه.
لنتحدث مثلًا عن “فريدة”، وهي ليست متفردة تمامًا عن الستات* المحيطات بها. منذ صغرها وشعرها الناعم الطفولي ينمو ليغطي عينيها وكتفيها، ترفض أمها قصه لأنها تراه جميلًا هكذا. ترتدي الفساتين الواسعة وأسفلها الجوارب الطويلة أو البنطلونات، كيلا تظهر ساقيها طبعًا. وصلت فريدة ثماني سنوات، تريد لعب الكرة لكن أمها وجارتها أم صباح ترفضان ضاحكتين “عايزة تلعبي لعب الولاد؟ عندك العرايس جوه اشغلي نفسك بيهم” بينما تستهوي فريدة لعبة الميكانو وفكّ الصواميل والمسامير وتركيبها مع بعضها. تصل للعاشرة، وتقول متذكرة تلك الفترة: “كان نفسي أفضل أركب عجل، كنت بحب جدًا الفسحاية اللي قدام البيت رغم إنها مليانة تراب وبيخلي منظري مطيّن ومش نضيف، بس كنت بحب أجري بالعجلة بسرعة في دواير، وولاد الجيران يتسابقوا معايا على رجليهم. كنت الوحيدة اللي عندها عجلة، وكنا بنعمل سباق: يا يسبقوني يا أسبقهم، والكسبان ياخد كيس شيبسي أو الآيس كريم الملوّن الساقع جدًا وإحنا كنا في الصيف جدًا.
فجأة بقى ما ينفعش، ما ينفعش أركب عجل عشان سبب غامض كده مفهمتوش إنه بيجيب “عُقم”، وعشان ركبي ما تتعورش ويبقى شكلي وحش قدام جوزي لما أكبر وأتجوز، فجأة بقى مينفعش ألعب مع ولاد الجيران عشان كلام ماما إني “خلاص كبرت وبقى ما يصحّش” مع إني مفهمتش بالضبط ايه اللي ما يصحش. وعجلتي راحت لحد تاني.. شوفي أنا كبرت أهو وعدّى على الموضوع 16 سنة، لكن نفسي أرجّع العجلة بتاعتي وأعلّي الكرسي وأركبها تاني وألف في دواير، بس المرة دي ح ألبس كوتشي عشان التراب ما يوصلش لرجليا.”
كانت فريدة تسمع دائمًا من أبويها أن “مصيرها لبيت جوزها” وأن التحصيل الدراسي ليس مهمًا جدًا، لكن أمها كانت تشدد على أن تحصل على الدرجات النهائية والمجموع العالي في الثانوية العامة. أرادت فريدة أن تصبح مهندسة كمبيوتر، الذي كان اختراعًا حديثًا وقتها، وأصبحت قراءة المجلات المتخصصة في البرمجيات عادة لديها، لكن والدها رفض، لأن الهندسة للرجال كما قال، فدخلت كلية تؤهلها لأن تصبح معلّمة.
أصبح عليها أن تغيّر من حلمها وتعدّله ليناسب سقف التوقعات الذي ينخفض كل سنة عن الأخرى على يد أبويها، فأقنعت نفسها أنها يمكن أن تصبح معلّمة لمادة الكمبيوتر ليصبح لديها مبرر للقراءة أكثر ومعرفة المزيد عنه وعن برمجته وطريقة كتابة الأكواد. لكن بمجرد وصولها للسنة الثالثة من الكلية بدأ الخُطّاب في التوافد على الصالون: “علي” ابن الناس الكويسين، “عيبه ايه يا بنتي؟” مهندس ويعمل في دولة عربية، “مهند” ابن صديقة لوالدتها، “ماله يا بنتي؟” محاسب يعمل ورديتي عمل متواصلتين ليشتري شقة تمليك في تجمع سكني جديد، “منصور” ابن رفيقة رحلة العمرة لأمها، “ماله يا بنتي؟” يريد زوجة لا تعمل لأن دور الزوجة الاهتمام بشؤون البيت والأولاد والزوج طبعًا، وسيتكفل هو بكل المصاريف. وتحت الضغط، ولأن “مش ح أعيش لك العمر كله يا بنتي، لازم يبقى لك بيت”، تمت الخطبة لمنصور، لكن فريدة اشترطت أن تتخرج في الكلية أولًا. تخرجت وفوجئت بأن على أسرة العروس تحمّل نفقات هائلة ليتم الزواج، فكان عليها أن تعمل “في الأول بس، بعد كده كل طلباتك عندي”، ووجدت مدرسة ليست قريبة من المنزل، لكن راتبها جيد.
“شغلك لمين؟” تسأل الأم، وتردّ في الوقت نفسه: “عشان تساعدي الطلبة دول، لكن هدف وجودك الأساسي إنك تراعي عيالك” تتساءل فريدة في نفسها، لأنها تعلمت بالتجربة كتمان رأيها، “طب وأنا؟ ح أراعي نفسي إمتى؟”. تواجهها الأم ثانية وهي تعلمها كيفية لفّ السكين الرفيعة حول الرأس المدبب لحبة البامية، بطريقة لا تأخذ من الثمرة نفسها الكثير: “فلوسك لمين؟ تحوشيها طبعًا عشان جهازك.” وهنا تسكت تعليقات فريدة الداخلية تمامًا، لأنه “مافيش فايدة.”
تزوجت فريدة في حفل زفاف “عائلي بهيج حضره أهل العروسين وبعض من الأقارب والأصحاب”، وحملت بسرعة بعد الزواج، لم يحدثها أحد عن حقها في تأجيل الإنجاب إلى أن تتعرف على زوجها جيدًا. لكن المشكلة الكبرى ليست هنا، المشكلة أن شهيتها للأكل طوال الحمل قلّت جدًا، نومها أصبح مضطربًا وتصحو مفزوعة لأنها ترى نفس الكابوس كل يوم: أنها نامت على بطنها وجنينها “فطس” ومات منها. انزعج منها منصور وأصبح ينام في الأنتريه على الكنبة الفخيمة، التي اتخذت شكل منحنيات جسمه مع النوم طوال أشهر الحمل. عزفت فريدة عن الأكل أكثر، وتركت صديقاتها، وكلما اشتكت لأمها قالت إنه الوحام فقط، وإن عليها ألا تقلق، لكن في نفس الوقت تحضر لمنزلها أكلات تتصوّر هي أنها مفيدة للجنين، بينما فريدة لا تطيق مجرد رائحتها.
عندما وضعت فريدة طفلتها تمنت من كل قلبها أن تكون صحيحة الجسم والعقل، فكل مخاوفها طيلة الحمل تمحورت حول أنها ستلد شيئًا غريبًا مصابًا بكل أمراض الدنيا. لكن الطفلة أتت سليمة، ترضعها فريدة مع الكثير من الألم، ولم ينصت لها أحد عندما أرادت التحوّل للرضاعة الصناعية. تطوّرت كوابيس فريدة لتصوّر أن الوسادة خنقت الطفلة، أو أنها وقفت فجأة على ساقيها ومدّت رأسها خارج النافذة وسقطت. تصحو مفزوعة تتصبب عرقًا، ولا تدري ماذا تفعل، لكنها لا تعرف أن ما تعاني منه اسمه “اكتئاب ما بعد الولادة” وله علاج، ويمكنها أن تتخلص منه أو على الأقل تقليل أعراضه.
تنمو الطفلة الآن، التي سمّتها فريدة بإصرار منها “فرح” لأنها مصممة على أن تجعل حياتها مليئة بالبهجة والاختيارات المفتوحة على الحياة باتساعها. ما زالت تخشى عليها من أي أذى، وتنزعج بشدة لو أهمل والد الطفلة مراقبتها بينما هي تطبخ مثلًا أو تخرج الثياب من الغسالة وتتجه بها إلى الشرفة لتوزعها على الحبال بفنّ تستمتع به، بينما جزء من عقلها منشغل بشدة على فرح، وتطلّ عليها من وقت لآخر.
فريدة ليست الوحيدة، هناك “فريدات” كثيرات جدًا، يعانين من ضغوط الحياة وأهاليهن وأزواجهن وأطفالهن، فريدات أصبحن يملن للصمت أكثر والنوم الخفيف والكوابيس المزعجة، فريدات لم يعد فنجان القهوة الذي كان محببًا إليهن يسعدهن في شيء، صرن مهووسات أكثر تجاه نظافة كل شيء يحيط بالأطفال، لم تعد لمّة العيد تمثل لهن إلا المزيد من الأعمال المنزلية والطهي والخبز اللانهائي، لم يعرفن أن بإمكانهن تحسين حياتهن وطلب المساعدة، ويخشين أن لو صدرت منهن الشكوى أن يتهمهن الآخرون بعدم الرضا على النِعم المحيطة بهن، وأن “غيرك مش لاقي”، أو أن تتحول الجلسة للاستماع لشكاوى بقية الأصدقاء والأقارب، دون الوصول لحلول حقيقية.
قلبي مع فريدة في يوم عيد الأم، اليوم الذي يتحوّل لضجة في الشوارع لأغانٍ سطحية تكرهها أكثر كل عام، يوم رغم أنه مخصص لها بصفتها أمًا، لكن عليها ممارسة نفس المهام العادية لكل يوم: توصيل فرح للحضانة، التعجيل بالطبخ والاهتمام بنظافة المنزل، ثم الإسراع لوالدتها لتقدّم لها طقوس التهاني بلا اهتمام حقيقي، وتساؤل ينمو داخل صدرها “هو ده اللي كنتي محضراه ليا كمصير؟ و”أنا” فين؟ أنا محدش بيسمعني ولا بيشيل عني.. أنا مش عايزة، ومش قادرة أكون كده”، ثم تسرع لحماتها، التي لا تعجبها ككل عام الهدية التي تحضرها لها، وتفضّل عنها الذهب “عيار 24″، والذي تعرف يقينًا أن ابنها هو من اشتراه لها، فتزيد محبتها له، وتتطلع بنظرة مستحقرة لزوجة ابنها، بينما تلاعب الصغيرة بعبارات من نوع “بكرة يخاووكي بصبي يملا علينا الدنيا”.
فريدة يمكنها طلب المساعدة، يمكنها القراءة أكثر، وأن تصبح “فاعلًا” وليست مجرد “مفعولًا به”، يمكن أن تصبح حياتها أفضل، وأن تهيئ الجو ليكون مناسبًا أكثر لتنشئة طفلة سوية نفسيًا، في بيت يحب سكانه بعضهم.
نقلا عن شيزلونج