بقلم: رأفت تادرس
مشكلة الذاكرة الإنفية

دعني, عزيزي القارئ, أن أبدأ حديثي بحقيقتين ينبغي إرساؤهما:
أولهما حقيقة شخصية, فأنا عشت فترة من طفولتي في قنا الحبيبة, حيث كان ابي يعمل, كما اسعدني حظي بزيارات لاحقة لهذه البلد الطيبة وأهلها الكرام بالفطرة. وانا أحب قنا وأحب أهلها ورائحتها.
ثانيهما حقيقة بيولوجية, اي مختصة بعلوم الأحياء وبالذات علم الحواس, حيث ثبت ان الحاسة الأكثر تأثيرا علي الذاكرة دون بقية الحواس الأربع الأخري هي حاسة الشم. ولذلك يسهل علي المرء, إذا تسربت الي أنفه رائحة ما ان يتذكر الرائحة وما هي المواقف والأماكن والأشخاص المرتبطة بها.

من يوميات مصر السعيدة
أيام من قنا:

أما بعد, فموضوعنا يبدأ في قنا حين قرر المجلس العسكري مع الحكومة ان الوقت قد حان للتعيينات الجديدة للمحافظين. ولأن المجلس العسكري والحكومة يدركان فداحة التحديات المحيطة بمصر الكنانة, ولكي لا يقعا في محظورات الفتنة الوطنية فلم يفتهما ضرورة ان يكون هناك محافظ مسيحي يمثل الطائفة القبطية الوطنية المخلصة. وهنا تأتي سلسلة نادرة من مفارقات سوء الحظ الذي هو بلاء يصيب المؤمنين. فبالصدفة كان محافظ فنا السابق قبطيا وبالصدفة ايضا لم يكن هذا المحافظ السابق محبوبا أو ناجحا في السنوات القليلة التي تولي فيها المنصب. ثم تشاء الظروف البحتة ان هناك جماعة سلفية قوية التأثير في قنا رأت في المحافظ الجديد شيطانا وكافرا. ثم لاحقتهم صدفة اخري وهي تدخل إعلاميين مشهورين من ذوي الجذور القناوية الذين أخذوا موقفا مناوئا للمحافظ القبطي الجديد وصبوا زينا علي النار. زاد علي ذلك حضور الكثير من "حكماء السلفيين" الذين بذلوا جهودا مخلصة باءت للأسف بالفشل. وحدث ما حدث وثارت الجماهير في محافظة قنا رافضة لمبدأ المحافظ القبطي وإلا لصارت قنا مقبرة له بل واضحت المحافظة بين يوم وليلة إمارة مؤمنة ترتفع فيها اعلام هي, بالصدفة البحتة طبعا, تشبه علم السعودية شبها شديدا. وفجأة اصبح من الواضح ان الطرف الوحيد القادر علي الحركة هم متمردوا قنا فتوقفت القطارات (ومعها السياحة) وتعطلت الطرق البرية وصارت إمدادات المياة والكهرباء لمحافظة البحر الأحمر مهددة بالتدمير, وكل هذه الإجراءات تدل علي "حنية" المتمردين وحرصهم علي مصلحة البلاد وهيبة الحكومة.
اما الحكومة فقد شلتها حكمتها وطيبتها وكبلها الحرص علي ألا تصاب جماهير قنا, ولا سمح الله, بقعدة نقص! ولعل موقف المجلس العسكري مع السلفيين يذكرني بموقف رأينه بنفسي عن أم تلقت شكاو من جيرانها بأن طفلها يخرب الأدوات الكهربائية لدي الجيران فقالت جملة لن انساها "أدوات خربة افضل من طفل محبط" اي اتركوه يدمر وإلا ستناله العقد النفسية!!

حدث الكثير من الكر والفر والمحاولات المضنية توجها العسكر بقنبلة من عيار "محمد حسان" لم نعرف بالظبط أي من الطرفين كان مقصودا بها. هذا في مقابل إصرار غريب من شعب قنا وممن تجمعوا للجهاد معهم لرفض كل ما هو كافر. تلازم هذا مع حرص اشد من القيادة العسكرية والحكومة علي عدم الدخول في مواجهات مسلحة مع اي من عناصر الشعب القناوي الكريم.

لهذا لم يبق امام الحكومة والعسكر سوي إختراع الحل الوحيد المناسب وهو فتح الثلاجة ووضع المحافظ القبطي فيها لتجميده و "يادار ما دخلك شر". وإن كان هناك أي عيب, لا سمح الله, في مثل هذا الحل فهو ان المحافط القبطي الوحيد في مصر صار مجمدا وبلا محافطة. ولعله كان المحافظ القبطي الأخير لعقود قادمة. هذا بالإضافة الي رائحة نفاذة تحتك بإنفي وتريد إثارته ولكن هيهات, فالقبطي لايظن السوء بأحد وخاصة إذا كان هذا الأحد هو المجلس العسكري الموقر.

الدروس المستفادة:
1- لو عاوز تولع في محافظة حطلها واحد مسيحي
2- مسموح لأي أحد ان يحتفظ بمصر كلها, مع سياحها وإقتصادها, رهينة, بشرط ان يكون هذا الأحد ذا لحية وجلباب قصير ولا بأس من التهديد بأعلام السعودية الخضراء
3- السلفيين دول شرانيين وقادرين والحكومة ياعيني غلبانة و مش عاوزة تزعل حد
4- الحكومة طيبة ومتفهمة وعاوزة تساعد الأقباط لكن ياحرام مفيش في ايدها اي حاجة لو الشعب هو اللي مش عاوز
روائح قنا في عين شمس:

أما في عين شمس, فقد سطر كبار العسكر ملحمة رائعة عندما إستجابوا لصرخات متظاهري ماسبيرو من الأقباط والمتعاطفين معهم من المسلمين الطيبين وقرروا النظر في قائمة الكنائس المغلقة ظلما من ايام النظام الفاسذ السابق واصدروا امرا بفتح ثلاثة من خمسين كنيسة مغلقة وهم كنيستان من الصعيد وكنيسة من القاهرة في منطقة عين شمس. المبادرة كريمة وسمحة وتشير الي إخلاص في الحل وروح طيبة لتعويض الأقباط علي عقود طويلة من الظلم والعنت الإضطهاد والتعنت ولو بثلاثة من خمسين كنيسة في واحد فقط من عشرة مطالب للأقباط المستعدين للإستشهاد في ماسبيرو.
وهنا يتدخل الحظ العاثر مرة اخري ليفسد النوايا الطيبة. فبالصدفة البحتة إختار المجلس العسكري كنيسة في منطقة عين شمس الشديدة التطرف. واضافت الصدف (الغريبة قوي يا أخي) ان قادة السلفيين في المنطقة إختلط عليهم الأمر حين "أذنوا" للمجلس العسكري الموقر بفتح بيت الكفر وظنوا ان المجلس يقصد جمعية خيرية صغيرة كانت هي ايضا مغلقة. ولكي تحكم الصدف الفخ فقد كان هناك بالصدفة البحتة الكثير من السلفيين الإغراب عن المنطقة والدين اهاجوا السكان بدعوي ان المنطقة فيها عائلات ومايصحش يبقي فيها "حاجة زي دي" او يعني "ولا مؤاخذة كنيسة" والعياذ بالله.
النتيجة هي ان الكنيسة تم إغلاقها بعد ما الأقباط لحقوا يتهنوا بيها حوالي يوم او يومين كاملين تحت جنون الشعب السلفي الجريح اللي فجأة يا حرام لقي كنيسة كده مفتوحة

الدروس المستفادة:
1- خلوا المجلس العسكري ينفعكم يا نصاري
2- المجلس العسكري موافق او غير موافق هذا لا يهم. المسلمون هم الذين يسمحون ام لا يسمحون.
3- علي اي حال كفاية عليهم كنيستين, ولا هم عاوزين ايه يعني
وسواس الأنف:
الي هنا وانفي لا تستطيع الإحتمال وترسل الي الوساوس الخبيثة من هذه النوعية:
هناك 27 محافطة في مصر, وواحدة فقط منها هي التي يحكمها محافظ قبطي وهو بالصدفة من اقل المحافظين شعبية. وكل عيل في مصر كان عارف الوضع ده. التفسير الوحيد لسبب إختيار المحافظ القبطي الوحيد لهذه المحافظة بالذات يتيح للمجلس العسكري إزاحة شبهات التعصب عن نفسه وفي نفس الوقت يكرس مبدأ عدم تعيين اي محافظ قبطي علي الإطلاق. هذا بالإضافة الي التأكيد علي الرفض الشعبي لكل ما هو قيطي. ولا مانع في الطريق تلميع صورة السلفيين في شخص محمد حسان
نفس هذه الرائحة هبت بشدة والحاح و"غلاسة" الي عمق نخاشيش انفي لآن الروائح منشطة للذاكرة كما ذكرنا اعلاه. فهناك 50 كنيسة مغلقة لكن عين شمس هي التي يقع عليها الإختيار مع تكرار الصدف الغريبة التي ترسل في النهاية بهذه الرسائل والدروس الشديدة المفعول.

الحل هو ان يرسل لي أحدهم فيروسا للزكام من النوع المضاد للذاكرة (لاخطر من فيروس الخنازير وذلك لإستئصال كل الخنازير من المحروسة) حتي تنشغل انفي بنفسها و"تخليها في حالها" وحينئذ تعود الأيام السعيدة للعسكر المصون.