الأقباط متحدون - تأملات فى رحيل «هوكينج» (3)
  • ١٢:٤٤
  • السبت , ٣١ مارس ٢٠١٨
English version

تأملات فى رحيل «هوكينج» (3)

مقالات مختارة | بقلم عمرو الزنط

٣١: ٠٤ م +02:00 EET

السبت ٣١ مارس ٢٠١٨

عمرو الزنط
عمرو الزنط

فى تجربتى الشخصية لم أجد مسافة أوسع، فكرياً واجتماعياً، من التى تفصل بين العالم الأكاديمى الذى سكنه «هوكينج» والواقع الثقافى والاجتماعى السائد فى مصر، حتى فى أوساط النخب.

فى المقالين السابقين، تحدثت عن بعض جوانب هذه الفجوة، من خلال رد الفعل فى مصر على وفاة العالِم العظيم، خاصة فيما يتعلق باليقين السائد بأن البحث فى أساسيات المعرفة من «الكماليات». أما فى المقال الحالى فسأحاول توصيل الفكرة، من خلال وصف جوانب للعالم الفكرى الذى أتى منه «هوكينج»، والذى عرفته من خلال العمل والزيارة لمؤسسات أكاديمية من النوعية (أو أحياناً نفسها) التى عمل فيها وزارها.

كما لاحظ بعض مَن سبّوه بعد وفاته، فـ«هوكينج» كان بالفعل ملحداً، كما صرح بوضوح.. لكن رغم أن معتقداته لم تسلم من الهجوم فى الغرب، فالواقع السائد فى العالم الحديث يفصل بين العالم المادى- بقوانينه الطبيعية وأعرافه الاجتماعية ونظمه السياسية- وعالم الغيب. هذا ما مكّن «هوكينج» من البحث فى قوانين الكون، وسرد التداعيات الفلسفية لنظرته المادية للعالم، دون حجْر أو تنكيل أو تهديد.. لم يُشِرْ عليه أحد بأنه يجب أن يذهب لطبيب نفسانى، كما يحدث أحياناً مع الملحدين فى مصر، ورغم إعاقته الجسدية، تمتع «هوكينج»- القعيد- بمساحة حرية للتحرك أكبر بكثير من المتاحة لأى مصرى.

هل العالم الذى سكنه «هوكينج» يُعتبر مفلساً أخلاقياً، لأنه يسمح بمساحة حرية واسعة بهذا الشكل؟ لأنه أتاح الفرصة لهذا العبقرى المعاق لأن يبدع وينافس ويزدهر؟ أين مظاهر الفساد الأخلاقى فى الزوجة التى تزوجته، رغم معرفتها بإعاقته وتوقع تطورها مع الزمن، وذلك قبل أن يصبح مشهوراً أو يمتلك الكثير من المال، أين الفساد فى تصرفات زملاء وطلاب احترموه وقدّروه وساعدوه فى محنته، وجامعة مرموقة قدمت له كل العون، ومجال أكاديمى احتفى به ودولة احترمت آدميته؟

الحقيقة أن المنهج المادى الذى تبناه «هوكينج»، ومعظم مَن كانوا حوله فى المجال الأكاديمى العلمى الذى سكنه- وهو المنهج نفسه الذى أثر على تطور الفكر السياسى والتشريعى الغربى منذ الثورة العلمية وعصر التنوير الذى تلاها- له أخلاقياته.. الممثلة فى احتفائه بالبحث عن الحقيقة بصدق ومصداقية، وقبولها، حتى إذا كانت مقلقة، وإقراره بأن كل فكر مطروح للنقاش والنقد العقلانى، مما يحد من إمكانية التسلط باسم المقدسات، سياسية كانت أو تراثية أو دينية.. ولأنه يحتفى بما ينتجه العقل من خيال وتحليل، فهو يحترم الفرد المُتوَّج بعقل مستقل، ويصون حقه فى التحرك والبحث.

هذه الخطوط العريضة ترسم سمات المجتمعات الديمقراطية الليبرالية، التى تبلورت فى القرون التى تلت الثورة الفكرية العظيمة التى أطلقها نيوتن، الذى شغل «هوكينج» كرسيه الأكاديمى نفسه بجامعة كامبريدج.. وهى صورة أفضل بكثير من التى نتجت عن أخلاقيات التدين السطحى، المستخدم أساساً أداة للتسلق والتسلط فى مجتمعاتنا.

لكن الحقيقة أن الصورة المسرودة هكذا تُعتبر مثالية، فالنزعات الكارثية التى أدت إلى حروب ومذابح مروعة من قبل تعود من حين لآخر، مجسدة مثلاً فى حركات شعبوية وعنصرية صاعدة فى الغرب.. أما العالم الذى سكنه «هوكينج» فيقترب فعلاً من الصورة المثالية: أقسام الفيزياء فى الجامعات المرموقة تُعتبر واحات من التعدد الثقافى والعرقى والعقائدى، فى إطار عقلانى حاضن، أناس من شتى الجنسيات، وخلفيات مختلفة جذرياً، تجدهم يتكلمون لغة واحدة، مبنية على المنطق والأدلة، ينبع منها شبه إجماع على معايير قبول ورفض الأفكار، ومن ثَمَّ نظرة عامة للعالم متقاربة، رغم الاختلافات.

تلك اللغة المشتركة تتبلور من خلال نقاشات فى مؤتمرات وورش، وزيارات متبادلة، وأبحاث مشتركة، وصداقات تدوم أحياناً مدى الحياة.. هكذا يكون الأكاديميون المبدعون «أمة»، دستورها مبنى على حق الطرح الحر والحق المقابل فى النقد اللاذع، فى ظل التنافس السلمى (معظم الأحيان!).. هذا المناخ التعددى الخلاق سائد أيضاً فى بؤر التميز الفكرى والتقنى والفنى فى المدن العالمية الكبرى، وهو الذى يدفع العالم الصناعى قدماً، بمزيجه الساحر من الخيال والنقد الذى ينتقى أعظم ما ينتجه العقل، (حتى فى مجتمعات منغلقة سياسياً مثل الصين).. هذه البؤر تدفع العالم الحديث قدماً، حتى إذا تشبث الكثيرون فيه بنظرة للعالم لا تقل عبثية أو فقراً عما هو سائد عندنا.

يتضح إذن أن ما نفتقده بالذات يتمثل فى تلك البؤر الخلاقة من التميز والامتياز الفكرى والإبداعى.. نفتقدها فى مدننا، التى أصبحت كالقرى العشوائية العملاقة عديمة المدنية، وفى مؤسساتنا الأكاديمية، التى صارت صحراء فكرية.. ويبدو لى أن إعادة الحيوية الفكرية الخلاقة فيها تبدأ بالتخلص أولاً من النظرة السائدة، التى تنظر إلى البحث فى أساسيات المعرفة، والإبداع عامة، وكأنهما من «الكماليات».
نقلا عن المصري اليوم

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع