الأقباط متحدون - في زمن البحث عن القيم
  • ٠٩:٤٣
  • السبت , ١٤ ابريل ٢٠١٨
English version

في زمن البحث عن القيم

مدحت بشاي

بشائيات

٣٢: ٠٤ م +02:00 EET

السبت ١٤ ابريل ٢٠١٨

 في زمن البحث عن القيم
في زمن البحث عن القيم
كتب : مدحت بشاي
medhatbeshay9@gmail.com
 
لاشك أن القيم هي الطابع الخاص للوجود الإنساني؛ فهي خُلقٌ ومُثل سامية نسعى إلى ترجمتها عملياً. القيم إذن هي دوافع محركة لسلوكنا. ومن الضرورة بمكان التذكير بأنه لا يُقصد بالقيم دوماً السامية والنبيلة منها، بل هناك قيم سلبية بل ومنحدرة وفاسدة تدفع أيضاً بسلوك ما وفقاً لهذه القيمة أو تلك؛ كحب السلطة والتملك وما يتبعهما من سلوكيات وغيرها من الشهوات.
 
وبمناسبة القيم والإيجابية منها بالتحديد ، وفي زمن الكبار ..يحكي لنا الكاتب والناقد الفنى الرائع الراحل رجاء النقاش  ما جاء على لسان الكاتب الكبير يحيى حقى فى حوار إذاعى طويل أجراه معه المذيع المثقف عادل النادى بتاريخ ‏25‏ أبريل سنة ‏1991م،‏ أى قبل رحيله عنا بعام واحد وثمانية شهور (توفى فى 10 ديسمبر سنه‏1992م)،‏ والذى نشرته مجلة «الإذاعة والتليفزيون» فى عدة حلقات بعد ذلك‏.‏ 
قال يحيى حقى عن نفسه‏:‏ إننى الآن عندما أعيد قراءة مقاطع مما كتبته فى قنديل «أم هاشم» أقول إننى كنت قليل الأدب وكنت بذيئًا لأننى شتمت الشعب المصرى شتائم فظيعة جدًا‏،‏ وأنا شديد الخجل بسبب ذلك‏،‏ فعندما أقول عن الشعب إن بوله فيه دم وديدان أى أنه مصاب بالبلهارسيا والانكلستوما أو أقول عن الناس إنهم يسيرون كالقطيع‏،‏ فليس فيهم من يسأل أو يثور‏...‏ فى مثل هذا الكلام بذاءة شديدة ولابد من الاعتذار عنها‏.‏ ذلك ما قاله يحيى حقى بلسانه عن نفسه‏.‏ 
 
إنه الضمير اليقظ والانتماء الطيب من جانب مواطن لشعبه ..  من جانب كاتب كبير يُحاسبه ضميره ويوقظ فيه نبض الإحساس بوقع الكلمات وتبعات أثرها فيتراجع ويعتذر لكل الدنيا بصراحة ونقاء سريرة. 
 
لاشك، يتفاوت الناس تفاوتًا كبيرًا فى مدى يقظة ضمائرهم، وفيما أنعم عليهم الله  من ملكات روحية وإيمانية، فالبعض تاهت ضمائرهم وفقدوا ظل وجودهم، فى حين أن البعض الآخر يتألق فيه الضمير ويتيقظ، لدرجة الإحساس الدقيق، وكلا الأمرين خطر على الحياة الإنسانية، لأنه فى الحالة الأولى يستهدف صاحب الضمير المتحجر إلى القساوة والشر والتجرد عن المزايا البشرية، وفى الحالة الثانية يتعرض صاحب المزاج الرقيق إلى مؤثرات تقلق راحته وتسلب سكينة عيشه، وخير منهج هو طريق وسط بين الطرفين، فيناط بالضمير أن يرعى الإنسان حق غيره وأن يحسن ولا يسىء، فتبلغ نفس الفرد قصارى ما تبلغه نفس طيبة من رعاية حقوق الناس ومن كلف بالخيرات وسخط على الشرور. 
 
وأعود مرة أخرى لكاتبنا الراحل رجاء النقاش الذى عقب على تراجع وأسف «حقى» وكتب: نحن هنا نقف مع يحيى حقى ضد يحيى حقى،‏ ففى الأدب الصادق الجميل فإن الزعل مرفوع أى أننا لا يجوز أن نزعل من أديب فنان قلبه علينا‏،‏ ومن حق أديب كبير‏،‏ موهوب وحساس ونبيل‏،‏ مثل يحيى حقى‏،‏ أن يقول ما قاله عن شعبه عندما وجد فى هذا الشعب أحوالاً لا ترضيه فى النصف الأول من القرن العشرين والغاضب الناقد الناقم هنا وهو يحيى حقى‏،‏ يريد بشعبه خيرًا ولا يريد به السوء‏،‏ وقد كان الأديب الروسى أنطون تشيكوف (‏1860‏ ‏1904م)‏ يقول‏:‏ إن بلدنا روسيا بلد سخيف، غليظ القلب. ولم يتهمه أحد بالبذاءة أو قلة الأدب أو انعدام الوطنية بل إن الذين يفهمون معنى الغضب المقدس عند الأدباء والفنانين العظماء قد اعتبروا ما قاله تشيكوف صرخة من أجل نهضة شعبه وبلاده‏،‏ وهكذا نعتبر نحن كلمات يحيى حقى‏،‏ أو يجب علينا أن نعتبرها كذلك‏،‏ فقد كانت كلها كلمات مبنية على حسن النية والمشاعر الطيبة النبيلة والرغبة فى أن يتحرك أهل مصر من نومهم واستسلامهم لظروفهم الصعبة السيئة‏.‏ 
 
عزيزى القارئ ، إن نفوس الناس تختلف فى سعتها وضيقها كما تختلف بيوتهم، فبعضها تفيض بغرف متسعة، وأخرى ليس بها إلا غرف ضيقة، ومن الناس من تضيق نفسه لثقب إبرة، ومنهم من تتسع حتى تحتضن الدنيا بأسرها، وتولد النفس ضيقة فيزودها الإحساس بالتجارب وينال التهذيب منها كل توسيع وعمق، ويضفى عليها الدين من أنوار الرجاء ما يفتح مغالقها، وينير ظلماتها، ويوسع رقعتها، ومن ضروب توسيع النفس ويقظة الضمير الاتصال بنفس كبيرة، والأخذ بتعاليمها، والتناغم مع حياتها..