هل انتهى عهد وعّاظ السلاطين؟
مقالات مختارة | خالد منتصر
الخميس ٣ مايو ٢٠١٨
«وعّاظ السلاطين» واحد من أهم الكتب التى قامت بتشريح التاريخ الإسلامى على طاولة علم الاجتماع، كتبه عالم الاجتماع العراقى الشهير على الوردى الذى تعرّض بسببه لهجوم شديد، نظراً لمنهجيته الصارمة ومحاولته الدائبة للحفر فى بئر التاريخ للوصول إلى صفاء الحقيقة بعيداً عن ركام السائد والمألوف والمشهور والمنتشر. ورغم أنه قد كُتب فى منتصف خمسينات القرن الماضى فإننا نحتاج قراءته مراراً وتكراراً، يبدأ الكتاب فى مقدمته بحقيقة صادمة للبعض وهى أن الطبيعة البشرية لا يمكن إصلاحها بالوعظ المجرد وحده، فواعظ السلطان، كما يقول «الوردى»، حين يقول «لا تنظر إلى المرأة» ربما أراد وقتها أن يقول «لا تنظر إلى جوارى غيرك»، وهو حين يقول «إياك والحسد» لعله يقصد «لا تحسد غيرك على امرأة اشتراها بحلال ماله»، والغريب أن نراهم يستنزلون غضب الله على الفقير الذى يغازل جارية بينما هم يباركون الغنى ويهنئونه على أولئك الجوارى اللواتى اشتراهن من السوق، وكأن الفرق بين الحلال والحرام فى نظر هؤلاء هو الفرق بين وجود المال وعدمه.
«الخليفة مزدوج الشخصية إذا جاء وقت الوعظ بكى، وإذا جاء وقت السياسة طغى»!! أعجبتنى هذه العبارة ذات الدلالة التى لم تغيرها العصور والأزمنة، كتبها د. على الوردى، وهى لا تعبّر عن ازدواجية حكام العراق فقط، ولكنها ما زالت تنبض بالحقيقة حتى هذه اللحظة، يؤكد كتاب «وعّاظ السلاطين» أن مصدر هذه الازدواجية هو الصراع ما بين بداوة القلب وإسلام اللسان الذى عاش فيه تاريخ المسلمين فى معظم فتراته، وبالتحديد مع بداية الفتنة الكبرى، يصف «ابن جبير» فى رحلاته هذه الازدواجية بقوله: «البكاء عند سماع الوعظ أصبح غاية لذاته فى نظر البغداديين، فهم لا يبالون بنقص الكيل فى الأسواق واستغلال الغريب، ولكنهم فى مجلس الوعظ يبكون ويشهقون ثم يغمى عليهم»، يخلص «الوردى» إلى نتيجة من قراءاته التاريخية أنه كلما كان الظلم الاجتماعى أشد كان بناء المساجد وتشجيع الوعظ أكثر، ويعلق على الوردى على ما يسمى مهنة الوعظ، قائلاً: «لقد صار الوعظ مهنة تدر على صاحبها الأموال، وتمنحه مركزاً اجتماعياً لا بأس به، وأخذ يحترف مهنة الوعظ كل من فشل فى الحصول على مهنة أخرى، إنها مهنة سهلة على أى حال، فهى لا تحتاج إلا إلى حفظ بعض الآيات والأحاديث ثم ارتداء الألبسة الفضفاضة التى تملأ النظر وتخلبه، ويُستحسن فى الواعظ أن يكون ذا لحية كبيرة كثة وعمامة قوراء، ثم يأخذ بعد ذلك بإعلان الويل والثبور على الناس، فيبكى ويستبكى، ويخرج الناس من عنده وهم واثقون بأن الله قد رضى عنهم بمجرد سماعه، ويأتى المترفون والحكام فيغدقون على هذا الواعظ المؤمن ما يجعله مثلهم مترفاً سعيداً»! ويضيف «الوردى»: «الواقع أن الوعّاظ والطغاة من نوع واحد، هؤلاء يظلمون الناس بأعمالهم، وأولئك يظلمونهم بأقوالهم، فلو أن الواعظين كرّسوا خطبهم الرنانة على توالى العصور فى مكافحة الطغاة وإظهار عيوبهم لصار البشر على غير ما هم عليه الآن».
طرح «الوردى» عدة أسئلة صادمة بقراءة جديدة للتاريخ الإسلامى، من ضمن الأحجار التى ألقاها «الوردى» فى بحيرة الإجابات الجاهزة الراكدة شخصية «أبى ذر» الذى تم تهميشه ونفيه ومطاردته حياً وميتاً ومنع تشييعه ووداعه لصالح الأغنياء، لأنه لم يعترف بأن الزكاة كافية فقط للعدالة الاجتماعية، وأنه يجب على الأغنياء أن يعطوا الفقراء الأموال التى يكنزونها زائدة عن الحاجة، بالطبع أربك هذا الرأى حسابات الأرستقراطية القرشية، فبدأت الدسائس ضد هذه الشخصية الأسطورية، ضد هذا البدوى الوحيد الذى دخل الإسلام قبل الهجرة وأسلم قبل أن يقابل النبى، وبالطبع خرجت تفسيرات لمعنى الكنز تناقض كلامه، ومنها تفسير «القرطبى» الذى قال إن الكنز بالفعل كان محرماً فى بدء الدعوة، أما بعد استغناء المسلمين فالكنز فى نظر «القرطبى» جائز!، صدمة أخرى عن الوهم الذى عشنا فيه كل هذه القرون والمسمى بـ«ابن سبأ»!! رغم أن «مروان» فى الفتنة الكبرى بتصرفاته كان سبئياً حتى النخاع!، كل الرذائل والخطايا التى أصيب بها المسلمون محركها من وجهة نظر التاريخ الإسلامى هو عبدالله بن سبأ، لدرجة أننى تخيلت أنهم سيتهمونه فى وباء إنفلونزا الطيور! يقول طه حسين: «عبدالله بن سبأ وهم من الأوهام»، ويقول «الوردى» إنه اختراع، ويختتم الفصل الخاص به بقوله: «ابن سبأ موجود فى كل زمان ومكان، فكل ثورة يكمن وراءها ابن سبأ، فإن هى نجحت اختفى اسم ابن سبأ من تاريخها وأصبحت حركة فضلى، أما إذا فشلت فالبلاء نازل على رأس ابن سبأ»!.
صدمة أخرى فى قراءة «الوردى» المبتكرة لشخصية «أبى جهل» لا بد أن تثير حفيظة من تعوّد على تقديس القديم بلا نقاش، كتب «الوردى»: «الفرق بين أبى جهل وغيره من نبلاء قريش فى الشخصية لم يكن كبيراً، فمعظمهم كان من الطبقة المرابية المستغلة المتعالية، ومن سوء حظ أبى جهل أنه قُتل فى معركة بدر فى صف المشركين، فنال لعنة الأبد، ولو أن الصدفة ساعدته كما ساعدت غيره فنجا من تلك المعركة ثم بقى إلى يوم الفتح فأسلم لصار من كبار القواد الذين رفعوا راية الإسلام!! إنها مسألة صدفة، وإذا كان أبوذر رافع راية المساواة الاقتصادية فإن عمار بن ياسر رافع راية المساواة الاجتماعية»، وكان يتساءل كما قال «الوردى» فى كتابه: هل استسلمت الأرستقراطية القرشية أم أسلمت؟، والغريب أنه بعد الإسلام الذى نزل لمساواة البشر كأسنان المشط كان بعض القرشيين يطلقون عليه «العبد» مثل «مروان وابن العاص وخالد»… إلخ!.
كتاب «وعّاظ السلاطين» عصف ذهنى مستمر فى كل صفحة من صفحاته، ولا بد لكل مهتم من قراءته، والأهم من القراءة الفهم والنقاش والتحليل.
نقلا عن الوطن