الكنيسة صراع أم مخاض ميلاد (16) البابا شنودة الثالث.. انطلاق كنيسة (الجزء الثانى)
كمال زاخر موسى
الثلاثاء ١٥ مايو ٢٠١٨
كمال زاخر
يأتى البابا الجديد ـ الأنبا شنودة الثالث ـ محملاً بأمانى عريضة، يحملها هو نفسه، وقد كتب عنها الكثير حين كان علمانياً على صفحات مجلة مدارس الأحد، وحين صار اسقفاً للتعليم على صفحات مجلة الكرازة فى اصدارها الأول، وتتوقعها الكنيسة، بعد التى انطلقت وقد انفحت عيونها على نسق جديد أسسه قداسة البابا كيرلس السادس، فى محاور متعددة، الذى أعاد للصلوات الطقسية رونقها، وقدم بنفسه القدوة والنموذج، بعكوفه على صلاة القداس يومياً فى الكنيسة الصغيرة "القديس اسطفانوس" رئيس الشمامسة والشهيد، ودفع بالشباب الى صفوف قيادة الكنيسة، فى تطور نوعى، فلأول مرة فى التاريخ المعاصر يقيم اساقفة لا يحملون مسئولية إيبارشيات ورعية محددة بنطاق جغرافى، بل يحملون مسئوليات خدمة عامة، فكان "الأسقف العام"، وكانوا ثلاثة اساقفة؛ للتعليم والخدمة الإجتماعية والبحث العلمى، وكان كل واحد منهم طاقة ايجابية فى دائرته، وبينما اسقف التعليم، الأنبا شنودة، يجوب الإيبارشيات ويحفز الشباب على الخدمة ويفتح لهم طاقات المعرفة، كان اسقف الخدمات الإجتماعية يمد بصره إلى اقباط الخارج ليعيد ارتباطهم بكنيستهم المصرية ويؤسس العديد من الكنائس فى بلاد المهجر، ويمد خيوط التعاون مع المؤسسات المسيحية الإقليمية والدولية، وحين تقع هزيمة يونيو 67، يبادر بالتواصل مع كلاهما؛ أقباط المهجر والمؤسسات الإنسانية الأممية، وعبرهم تتوالى المعونات الأجنبية لدعم وتغطية احتياجات تلك المرحلة العصيبة فى حركة مكوكية لا تهدأ، فضلاً عن حشد الدعم المعنوى لها فى المحافل الدولية، ويؤسس اسقف البحث العلمى، الأنبا غريغوريوس، للنهوض بمعهد الدراسات القبطية، ونشر الثقافة القبطية بين الشباب وعبر اجتماعه الأسبوعى المتخصص، ويثرى المكتبة العربية بسلاسل من الكتب التى تتناول القضايا اللاهوتية رفيعة المستوى.
يعيد البابا الجديد اصدار مجلة الكرازة ويواصل اجتماعه الأسبوعى، ويشرع فى رسامة اساقفة جدد من رفقاء مسيرته، فكانت باكورة رساماته كما أشرنا قبلاً، الأنبا يوأنس على ايبارشية الغربية، والأنبا باخوميوس على إيبارشية البحيرة والخمس مدن الغربية التى تمتد إلى داخل "ليبيا".
وتشهد الأديرة مزيداً من الإقبال من الشباب طالبى الرهبنة، وتشهد أيضاً موجات من الزيارات من عامة الناس، الذين وجدوا فيها متنفساً روحياً واجتماعياً، ويتوافر داخل الأديرة خبرات علمية وتقنية مع شباب الرهبان الجدد فتعرف الطريق إلى استصلاح الصحارى حولها، ومنها إلى التصنيع الزراعى. وتشهد الكنائس بالمدينة والقرية حراكاً فى انشاء الإجتماعات النوعية المتخصصة، إيذاناً بنهضة روحية متوقعة قادمة، تعيد التواصل بينها وبين رعيتها.
كان آباء مجمع الكنيسة ـ المطارنة والأساقفة ـ فى غالبيتهم من الشيوخ، وكانت الإيبارشيات مترامية الأطراف، بعضها يضم أكثر من محافظة، فيتوالى بحكم الطبيعة انتقال الآباء ونياحتهم، وكانت رؤية قداسة البابا تقسيم هذه الإيبارشيات التى خلت برحيل اسقفها إلى عدة ايبارشيات ورسامة اسقف لكل ايبارشية جديدة، "رعية صغيرة خدمة أفضل"، فضلاً عن التوسع فى رسامة الأساقفة العموميون، ويكاد الأسقف العام يشبه "وزير دولة" فيكتسب خبرات تدبيرية عامة تؤهله للتجليس حال الإحتياج لقدراته وخبراته المكتسبة فى واحدة من الإيبارشيات بالداخل والخارج، أو تخفيف العبء ـ كأسقف معاون ـ عن كاهل أحد الآباء المطارنة الذين يعانون من متاعب صحية أو بسبب عوامل تقدم العمر، وبحسب المتوفر من احصاءات فقد قدم قداسته بامتداد حبريته للكنيسة من شباب الرهبان مائة أسقف، منهم تسعة عشر اسقفا عاماً، بعضهم تولى ادارة ايبارشيات بالخارج من إجمالى سته وعشرون اسقفاً لرعاية الأقباط بافريقيا واوروبا والأمريكيتين، وبعضهم لمعاونة آباء مطارنة بالداخل، أو تولى مهام عامة، مثل اسقفية الشباب، أو تولى مسئولية بعض مناطق ايبارشية البابا.
نحن أمام تجربة فريدة، على الأقل فى عصرنا، فقد امتدت ولاية البابا شنودة لأربعة عقود فى موقع المسئولية (14 نوفمبر 1971 ـ 17 مارس 2012)، يسبقها نحو عشر سنوات اسقفاً للتعليم كان فيها قريباً من دائرة صنع القرار ومشتبكاً معها، وشهدت تلك السنوات تغيرات حادة وعاتية فى المجال العام، الدينى والسياسى، فقد تزامن قدومه إلى الكرسى البابوى مع رحيل الرئيس جمال عبد الناصر (28 سبتمبر 1970) وتولى الرئيس أنور السادات، وصعود تيار الإسلام السياسى، ويرحل البابا والبلاد تجتاحها تغيرات عاصفة ضبابية، بينما ارهاصات الثورة الرقمية تلوح فى الأفق وتسهم فى رسم العلاقات البينية السياسية والإجتماعية وتخلخل قبضة مؤسسات التنشئة، والكنيسة واحدة منها.
وهى تجربة تستحق التوقف معها خاصة فيما له صلة بالتعليم والرعاية، وقد نجد فيها اضاءات لجذور مواجهات اليوم بين الفرقاء.
فعندما نقترب من التعليم والرعاية تقفز أمامنا الإكليريكية والرهبنة، فالأولى تمد الكنيسة بالآباء الكهنة والخدام الذين يشكلون قاعدة التعليم والرعاية المباشرة، بينما الرهبنة هى المصدر الوحيد الذى يمد الكنيسة بالآباء الأساقفة الذين يشكلون قيادة التعليم والرعاية.
الإكليريكية :
تضم الإكليريكية قسمان؛ قسم نهارى وقسم مسائى، أما القسم النهارى فينتظم فى الدراسة فيه الطلبة الحاصلين على شهادة الثانوية العامة، ومدة الدراسة فيها أربع سنوات، والدراسة فيه بنظام الإقامة الكاملة، فتجمع بهذا بين الدراسة النظرية والتلمذة والمعايشة الحياتية مع المشرفين عليها وفى مقدمتهم أسقف التعليم، فى سعى لإحياء نسق مدرسة الإسكندرية القديمة، وهى تؤهل طلابها للخدمة الكهنوتية فى الإيبارشيات المختلفة بعد تخرجهم، وفى مرحلة من مراحلها كانت تتيح لهم التدرب فى الأجازات الصيفية فى كنائسهم، وكان يتم تعيينهم كشمامسة مكرسين عقب تخرجهم لاكتساب خبرات ومهارات عملية تصقلهم وتؤهلهم للخدمة الكهنوتية.
بينما القسم المسائى (أسسه عام 1946 الدكتور وهيب عطالله ـ الأنبا غريغوريوس فيما بعد) ـ للمزيد راجع فى هذه السلسلة مقال 7 ـ "الدور العلمانى بين التكامل والتقزيم" ـ فيقبل للدراسة فيه شباب الخدام من حملة المؤهلات العليا، فيما يشبه التعليم المفتوح بغرض دعم تثقيف الخدام على الأصول الكنسية اللاهوتية والطقسية وغيرها من العلوم الكنسية، والدراسة فيه تقتصر على المحاضرات والدورات التدريبية.
وتنتشر الإكليريكيات فى الأقاليم فى مبادرات فردية، لكنها تفتقر للرؤية والقواعد العلمية الأكاديمية، مع ضعف الإمكانيات باستثناء اكليريكية الدير المحرق وإكليريكية طنطا، فى تأسيسها الأول فى حبرية المتنيح الأنبا يؤنس، ولا تعدو فى غيرهما مستوى اجتماع نوعى متواضع، الأمر الذى انعكس على خريجيها، حتى الإكليريكية الأم لم تستكمل هيكلها الأكاديمى العلمى فى العديد ممن يقومون بالتدريس فيها، حتى اضطر قداسة البابا شنودة إلى تدريس أكثر من مادة، اللاهوت العقيدى ، اللاهوت المقارن، تاريخ الكنيسة، العهد الجديد، اللاهوت الرعوى، اللاهوت الروحى، سواء فى الإكليريكية أو ملحقاتها كمعهد الرعاية، وحتى فى معهد الدراسات القبطية.
وفى تطور لاحق يفضل قداسته رسامة الكهنة من خريجى القسم المسائى دون النهارى، الذى يجتهد خريجوه فى البحث عن فرصتهم التى اوقفوا عليها حياتهم فى ايبارشيات خارج القاهرة، أو البطالة، الأمر الذى كان له تأثيره فى تقلص عدد الراغبين فى الإلتحاق بالقسم النهارى، حينها، وننتهى إلى غياب الخبرة الكنسية المعيشة عبر التلمذة التى يتميز بها هذا القسم.
ويعانى معهد الدراسات القبطية من هجرة الكوادر المؤهلة وكذلك رموزه المؤسسة، وكلاهما، الإكليريكية ومعهد الدراسات يفتقران إلى المأسسة الأكاديمية التى تتيح لهما التواصلمع نظرائهما فى الجامعات بالداخل والخارج، ويزداد الأمر تعقيداً بعد توقف البعثات للجامعات بالخارج، وتجاسرهما على منح درجات علمية عليا لا يتوافر لها ابسط القواعد العلمية المتعارف عليها فى الدوائر الجامعية، إذ يمكن أن يترأس لجنة مناقشة الرسالة (ماجستير ودكتوراه) من لا يحمل درجة "استاذ" بل ولا يحمل دكتوراة أو حتى ماجستير (!!).
وإن كان يحسب لقداسة البابا شنودة الثالث الإستعانة ببعض باحثى مركز دراسات الآباء من الحاصلين على الدكتوراة من جامعات اليونان فى العلوم اللاهوتية والكنسية فى السنوات الأخيرة.
وكان لغياب التخصص الأكاديمى دوراً مبكراً ومؤثراً فى الصدام بين الفرقاء، بين من يبنون رؤيتهم فى القضايا الخلافية على مصادر مترجمة عن لغة حديثة وسيطة وبين من يعتمدون فى ذلك على مصادر آبائية بلغتها اليونانية، وهو ما اشرنا اليه فى تناولنا للدور المحورى الذى قام به الدكتور نصحى عبد الشهيد فى مشواره الممتد مع احياء كتابات الآباء، عبر مركز دراسات الآباء ومؤسسة القديس انطونيوس للدراسات الآبائية الأرثوذكسية ـ للمزيد راجع فى هذه السلسلة مقال 13 ـ البناء الحكيم ـ ، وقبله الدوائر التى أحدثها كتاب حياة الصلاة الأرثوذكسية للأب متى المسكين، وما تبعه من اصدارات عن دير القديس أنبا مقار .
كان الصدام تنويعة معاصرة على جدلية العلاقة بين المثقف والسلطة، ومثالنا فى هذا تلك المواجهات الدائرة بين الأب المطران الأنبا بيشوى، السكرتير الأسبق للمجمع المقدس، والعصا الغليظة التى تتعقب من يرونه تجاوز الخطوط الحمراء المسموح بها برؤيتهم، وبين الدكتور جورج حبيب بباوى، الذى انتقل من مربع الموالاة الى مربع المعارضة، وقس على ذلك الموقف من الأنبا غريغوريوس اسقف البحث العلمى والأب متى المسكين، والدكتور عزيز سوريال أحد مؤسسى معهد الدراسات القبطية، والمؤرخة ايريس حبيب المصرى، صاحبة موسوعة "قصة الكنيسة القبطية"، والقائمة ممتدة.
وكنا ننتظر ـ ومازلنا ـ أن يبادر مجمع الأساقفة بتناول قضية المواجهات التى خرجت عن خطها الفكرى إلى مسارات أخرى، أقرب إلى الصراعات السياسية، بأن يشكل لجنة علمية لاهوتية تضم فى عضويتها بالإضافة الى المتخصصين من الكنيسة القبطية أعضاء من الكنائس الشقيقة المتفقة معنا فى العقيدة، الكنيسة الهندية والتى صدر عن أحد آبائها مبحث هام وموثق يطرح مجدداً مجمع خلقيدونية تحت عنوان "مجمع خلقيديونية ... إعادة فحص"، وكذلك الكنيسة الأرمينية والكنيسة السريانية، وكنيسة اثيوبيا، وغيرهم من الباحثين الموضوعيين، بغية الوصول إلى إعلان مبادئ يلتزم به كافة الأطراف، ويعيد للكنيسة وحدتها وسلامها بعيداً عن الكيانات التى تعيش على الصدام والخلاف وتستثمره فى دوائرها الضيقة ومصالحها الأضيق.
الرهبنة
يبقى فى هذا السياق تناول التحولات التى شهدتها الرهبنة فى النصف الثانى من القرن العشرين، فيما يتصل بقضية التعليم، وجدلية تعاليم الآباء، بين دورها التاريخى وواقعها على الأرض، وهو موضوع المقال القادم.