الصحة النفسية: لماذا يتأثّر بعض الأشخاص بالمشاكل النفسية أكثر من غيرهم؟
صحة | رصيف 22
الخميس ١٧ مايو ٢٠١٨
لمناسبة أسبوع التوعية بالصحة النفسية (14-20 من الشهر الجاري)، ارتأينا أن نطرح سؤالاً هو "ما الذي يجعل البعض منا أكثر عقلانيةً وهدوءاً وأقل عرضة للتعرض لاضطراب في الصحة العقلية من غيرهم عند مواجهة تقلبات الحياة؟" ونحاول إيجاد أجوبة عنه.
من الملاحظ أن البعض يتعرض لمواقف قاسية ويتمكن من تجاوزها، في وقت يصطدم آخرون بها فتؤثر على صحتهم النفسية وحتى الجسدية.
بمعزل عن التجارب الماضية والتوقعات المستقبلية، بمَ نحن مختلفون نفسياً؟
المرونة العاطفية
كلنا نختبر خسائر فظيعة في مرحلة من مراحل حياتنا: وفاة الأحباء، مرض، انفصال عاطفي، بطالة... أحداث مؤلمة تتفاوت ردود الفعل عليها بحسب كل شخص وبيئته وعمره.
وفي حين أن البعض أكثر قدرةً على الصمود والنهوض من خسارته من جديد، فإن البعض الآخر يحتاج إلى فترةٍ أطول يختبر خلالها مشاعر القلق والاكتئاب والتوتر وهذه كلها عوامل ترهق كاهله وتؤثر سلباً على حياته.
غير أن الخبر السار، وفق صحيفة "فوربس"، هو أن القدرة على التحمل يمكن أن تتطور وتنمو مع الوقت. صحيح أن المسألة تحتاج إلى الكثير من الممارسة والإستراتيجيات المختلفة وإمكانية اللجوء إلى طبيب نفسي إلا أن استعادة المرونة قد تشهد تحسناً بمرور الأيام.
من هذا المنطلق، درس خبير الصحة العقلية الدكتور "هاري باري" إمكان تطوير المهارات لمواجهة تحديات الحياة والتغلب على المشاكل النفسية التي قد تواجهنا خاصةً في ظل الغلاء وأزمة المعيشة والحروب التي تؤثر سلباً على صحتنا النفسية.
وتوضح صحيفة "غيريش تايمز" أنه بعدما أمضى "باري" وقته في مساعدة المصابين بالاكتئاب والقلق والمشاكل النفسية الأخرى، تحدث في كتابه " Emotional Resilience – how to safeguard your mental health، عن كيفية إحداث خرقٍ في مسألة الوقاية من مشاكل الصحة العقلية.
ويشدد "باري" على أن العامل الأول الذي يجعل البعض يتجنب الوقوع في إضطراب الصحة النفسية هو:"المرونة العاطفية"، أي التسلح بالقدرة العاطفية للتعامل مع صعوبات الحياة.
فعلى مدى عقود، لاحظ "هاري" أن المرضى الذين مارسوا مهارات "المرونة العاطفية" تعافوا أسرع من مشاكلهم النفسية وأصحبوا أكثر مرونة في مواجهة التحديات.
ما هي المرونة العاطفية؟
تأتي كلمة "المرونة" من اللاتينية Resilio التي تعني الارتداد، وقد تم استخدامها منذ عقود لوصف كيفية تعامل المرء مع الإجهاد.
رأى "باري" أن مهارات المرونة العاطفية "هي الدعائم الأساسية لتحسين التحفيز، وزيادة الثقة بالنفس، وتعزيز الشعور بالاعتماد على الذات". وقد عمد إلى تقسيم مهارات "المرونة العاطفية" إلى 3 مجموعات:
أقوال جاهزة
القدرة على التحمل يمكن أن تتطور وتنمو مع الوقت. صحيح أن المسألة تحتاج إلى الكثير من الممارسة والإستراتيجيات المختلفة إلا أن استعادة المرونة قد تشهد تحسناً بمرور الأيام.
تقبل الذات غير المشروط هو الأهم على الإطلاق، فلن نتمكن من تطوير المرونة العاطفية ما لم نصبح أكثر لطفاً وواقعيةً بشأن أنفسنا.
الشخصية: المهارات المطلوبة لإدارة الحياة الشخصية.
الاجتماعية: المهارات المطلوبة للتعامل مع البيئة الإجتماعية.
الحياتية: المهارات المطلوبة للتعامل مع الحياة نفسها.
واللافت أن هذه المهارات المذكورة سابقاً تعتمد على مبادىء العلاج السلوكي المعرفي، القائم على العلاقة بين إدراك كيفية تفسير بيئتنا وسلوكنا، من خلال الاعتراف بالتالي:
-أفكارنا تؤثر على عواطفنا التي تؤثر بدورها على سلوكنا.
-ليس ما يحصل لنا في الحياة هو الذي يسبب لنا الشدة بل كيف نفسر مجريات الأحداث.
-يمكننا أن نتعلم تقنيات بسيطة لتغيير طريقة تفكيرنا وسلوكنا في الحياة.
وأكد باري أن هناك بعض المهارات التي تتفوق على غيرها، خاصة لناحية تقبل الذات:"تقبل الذات غير المشروط هو الأهم على الإطلاق، فلن نتمكن من تطوير المرونة العاطفية ما لم نصبح أكثر لطفاً وواقعيةً بشأن أنفسنا".
كيف يمكن تحسين صحتنا النفسية؟
هل نحن من الأشخاص الذين عرقلهم خجلهم، شكوكهم، إخفاقاتهم، غضبهم؟ هل لدينا الإصرار لتحقيق أهدافنا الرئيسية في الحياة؟ هل نتحلى بالشجاعة للاعتراف بأن تلك الأهداف لا تستطيع خدمتنا أو تناسبنا؟
هذا ما تطرحه خبيرة علم النفس "سوزان ديفيد، مشيرةً إلى أن "الطريقة التي نتجول بها في عالمنا الخاص-أفكارنا اليومية، عواطفنا، قصصنا الشخصية... هي العامل الوحيد الأكثر أهمية لإنجاح حياتنا، لأنها تقود أعمالنا، وظيفتنا، سعادتنا، صحتنا...".
في كتابها In EMOTIONAL AGILITY: Get Unstuck, Embrace Change, and Thrive in Work and Life تؤكد "ديفيد" أن الذين يمتلكون المرونة العاطفية ليسوا محصنين من الضغوط النفسية والنكسات، إنما الفرق الرئيسي يكمن في أنهم يعرفون كيفية اكتساب رؤية عميقة للمواقف والتفاعل مع مشاعرهم ويستخدمون تلك المعرفة للتكيّف ومواءمة قيمهم وأفعالهم وإحداث التغييرات التي تحقق لهم مستقبلاً أفضل.
إن الذين يمتلكون المرونة العاطفية ليسوا محصنين من الضغوط النفسية، الفرق يكمن في أنهم يعرفون كيفية اكتساب رؤية عميقة للمواقف والتفاعل مع مشاعرهم
وتوضح "سوزان" أن المرونة العاطفية هي العملية التي تمكننا من الإبحار في تقلبات الحياة بالتوزان مع قبول الذات ووضوح الرؤية والتحلي بعقلية منفتحة، مشيرةً إلى أن المرونة لا تعني تجاهل المشاعر والأفكار الصعبة، إنما التمسك بها بلطف ومواجهتها بشجاعة ومن ثم تركها في الماضي لإحداث التغيير والمضي قدماً في الحياة.
وبهدف تحقيق المرونة العاطفية وتحسين الصحة النفسية، وضعت "ديفيد" 4 مفاهيم رئيسية:
-عوضاً عن تجاهل الأفكار والعواطف الصعبة والمبالغة، يجب علينا التركيز على التفكير الإيجابي ومواجهة الأفكار والمشاعر السلبية عن طيب خاطر وبمرونة.
-الابتعاد خطوة إلى الوراء بهدف التمكن من مراقبة المشاعر والأفكار على حقيقتها، وأن نتعلم تشبيه أنفسنا برقعة الشطرنج الملأى بالخيارات والاحتمالات بدلاً من أن نرى أنفسنا كقطعة شطرنج وحيدة تقتصر تحركاتها على خطوات محددة.
-التحرك بالاتجاه الصحيح، فالقيم الأساسية الخاصة بك تلعب دور البوصلة التي تبقي تحركاتك بالاتجاه الصحيح، وبالتالي بدلاً من أن تكون أفكاراً مجردة، فإن هذه القيم هي الطريق الصحيح لقوة الإرادة والمرونة والفعالية.
-إحداث تغييرات بسيطة في طريقة تفكيرك وتحفيز عاداتك بالطرق التي تتوافق مع مبادئك، فهذا الأمر يمكن أن يحدث فرقاً قوياً في حياتك. وتكمن الفكرة في إيجاد توازن بين التحدي والكفاءة، حتى لا تشعر بالرضا ولا بالغلبة، بل بالإثارة والحماسة والنشاط.
عليه، وإستناداً إلى أبحاثها المعمقة وعملها لعقود كخبيرة في الإستشارات وتجربتها الخاصة للتغلب على الشدائد بعد فقدان والدها في سن مبكرة، تكشف الدكتورة "ديفيد" أنه يمكن للمرء أن يواجه مصاعب الحياة بالتحلي بالمرونة العاطفية التي هي خريطة طريق للتغير السلوكي الحقيقي ولإمكان تحويل المشاعر المزعجة إلى مصدر للطاقة وللإبداع.
أرقام خطيرة
تصف منظمة الصحة العالمية الصحة النفسية Mental health بأنها "حالة من العافية يستطيع فيها كل فرد إدراك إمكاناته الخاصة والتكيّف مع حالات التوتّر العادية والعمل بشكل منتج ومفيد والإسهام في مجتمعه المحلي"، مشددةً على أنها حالة من اكتمال السلامة بدنياً وعقلياً واجتماعياً وليس مجرّد انعدام المرض أو العجز.
فقد بدأ الحديث أخيراً عن المشاكل النفسية والصحة العقلية يطفو إلى الواجهة، خاصة بعدما كشفت التقديرات أن حوالى 20% من الأطفال والمراهقين في العالم يعانون من مشاكل نفسية، تبدأ في العادة قبل سن الـ14، وتتفاقم مع العمر، وقد تصل إلى حدود قيام الشخص بوضع حدّ لحياته، بعدما يجد نفسه عاجزاً عن الخروج من أزمته النفسية.
في هذا السياق، أوضحت دراسة أجريت في العام 2017 أن حوالى 25% من المراهقين الذين تراوح أعمارهم بين 13 و16 سنة يعانون من قلقٍ دائمٍ، ولدى 14% من هؤلاء أعراض اكتئاب، و7% فكروا في الانتحار و4% حاولوا بالفعل الانتحار في وقتٍ مبكرٍ من حياتهم.