الأقباط متحدون - احتمالات أهملها ترامب في حساباته لدى اتخاذه قرار الانسحاب من الاتفاق النووي الدولي مع ايران
  • ١٣:١٤
  • السبت , ١٩ مايو ٢٠١٨
English version

احتمالات أهملها ترامب في حساباته لدى اتخاذه قرار الانسحاب من الاتفاق النووي الدولي مع ايران

ميشيل حنا حاج

مساحة رأي

٠٦: ٠٩ م +02:00 EET

الجمعة ١٨ مايو ٢٠١٨

ترامب
ترامب

ميشيل حنا الحاج
ترى هل كان يقتصر قرار ترامب على الانسحاب من الاتفاق النووي مع ايران والتوجه الى فرض مزيد من العقوبات عليها، أم كان يجول في مخيلته عدم الاقتصار على فرض العقوبات، بل تجاوزها الى أمر آخر، أكثر شدة وعنفا وقسوة… استجابة لمطلب اسرائيلي، وربما سعودي أيضا… العدو اللدود الآخر لايران،  وذلك باستخدام العنف ضدها، سواء  عبر اشعال حرب أهلية  في ايران  تسعى لاسقاط حكومة الثورة الاسلامية، وهي أمنية عبر عنها صراحة بعض الساسة الأميركيين الذين يدورون في فلك ترامب…الرئيس الذي بات معروفا بقراراته المفاجئة الغريبة والمثيرة دائما للجدل.

وكانت الولايات المتحدة قد جربت اثر نجاح الامام روح الله خميني في الاستيلاء على السلطة في ايران منذ  شهر شباط 1979،  وسيلة اشعال الحروب الأهلية بهدف اسقاط تلك الثورة التي ساهم ازبيجنيو بريجنسكي،  مستشار الأمن القومي للرئيس  جيمي كارتر .. في اشعالها، عبر مساعدة التيار الاسلامي على التفوق فيها تنفيذا لاستراتيجيته القائلة بأنه: “اذا كان لا بد من التغيير، فالنوجه هذا التغيير لمصلحتنا”.

وبما أنه قد لاحظ الشروع في عملية التغيير في ايران، كما لاحظ أن التغيير بات ينحو للاتجاه يسارا,  بل ونحو حزب توده الشيوعي وغيره من الأحزاب الوطنية واليسارية كالمجموعة المؤازرة لحركة الراحل الدكتور محمد مصدق، الزعيم الايراني الذي أممت حكومته النفط، فقد قرر بريجنسكي الادلاء بدلوه لتوجيه ذاك التغيير نحو التيار الاسلامي، باعتباره تيارا معاديا للشيوعية ولأي تحرك وطني أو يساري.

لكن بريجنسكي فوجىء اثر نجاح الثورة الاسلامية، بأنها الم تتجه نحو محاربة السوفيات أو الشيوعية أو حتى الحركات اليسارية كما توقع، بل اتجهت فور نجاحها، نحو محاربة الولايات المتحدة، حيث أسماها الخميني بالشيطان الأكبر.  ونتيجة لذلك، و تنفيذا لاحباطه، أشتعلت سلسلة من الحروب الأهلية في انحاء متفرقة من ايران التي يقيم على أراضيها عدة قوميات أكبرها حجما القومية الفارسية.

ففي توتر مفاجىء ويكاد يكون متزامنا، اشتعلت ثورة قبائل البلوش في شرق ايران وفي المناطق المحاذية للحدود مع باكستان. واشتعل مثلها تمرد التركمان في الشمال الغربي للحدود المحاذية لتركيا، ومثلها ثورة الأكراد التي قادها انطلاقا من “مهاباد” عاصمة كردستان ايران، الزعيم الكردي الراحل “قاسم لو”، والتي عندما دحرتها القوات الايرانية  في مهاباد، انتقلت  الى الجبال الوعرة المحاذية للحدود التركية والعراقية.  وعلى ذات الخطى، حصل تمرد في اقليم خوزستان، حيث السكان معظمهم من أصول عربية، والكثيرون منهم لا ينطق اللغة الفارسية، فلا يعلم من اللغات الا اللغة العربية..

ولكن التمرد في خوزستان لم يدم طويلا،  وكان أقصر التمردات الأربعة عمرا، علما أنه سرعان ما تم القضاء على تلك الثورات جميعها واحدة تلو الأخرى. وكان أطولها عمرا التمرد الكردي نتيجة وعورة الجبال التي لجأ المقاتلون الأكراد اليها، خلافا لطبيعة مناطق التمرد الأخرى التي لم تساعد طبيعتها حركات التمرد فيها، على الابقاء طويلا على تمردهم الذي سرعان ما تم قمعه بوسيلة أو بأخرى.

فاضافة الى الضغوط الاقتصادية التي يزمع الرئيس ترامب ممارستها على ايران، مدركا بأنها قد لا تكون ناجحة أو ناجعة تماما لتعارضها نسبيا مع مصالح دول الاتحاد الأوروبي الاقتصادية، يرجح بعض المراقبين أن الرئيس الأميركي قد وضع  في قائمة مخططاته،  احتمال اسقاط الحكومة الايرانية من الداخل الايراني، عن طريق اشعال حروب أهلية تقودها الأقليات المنوعة في ايران، أسوة بما جرى في عام 1979 وامتد الى بدايات عام 1980.

أما اذا فشل هذا الاحتمال أيضا، فلا بديل عندئذ عن الحرب الفعلية الكلاسيكية استجابة لرغبة حليفيه اسرائيل والسعودية اللتان لا تخفيان رغبتهما في حرب كهذه ، الأولى منهما أي اسرائيل، تخوفا من قدرات ايران العسكرية الصاروخية، واحتمالات نجاحها في انتاج سلاح نووي، والأخرى أي السعودية، بسبب الخلافات الطائفية بين الدولتين، والصراع بينهما على قيادة العالم الاسلامي، اضافة الى مخاوف السعودية من نجاح ايران في انتاج قنبلة نووية تحقق لها التفوق العسكري في المنطقة.

ولكن الرئيس ترامب ربما وضع أيضا على قائمة  احتمالاته، ما قد يكون الاحتمال الأكبر والأقوى، وهو احتمال الحرب المباشرة على ايران.  كل ما في الأمر أن الرئيس الأميركي  وحليفيه المتوقعين في حرب كهذه، أي اسرائيل والسعودية، قد تناسوا جميعا تجربة الجيش الأميركي في حرب فيتنام، وما تلاها من تجربة فاشلة في تحرير أـكثر من خمسين رهينة أميركية كانوا من العاملين في السفارة الأميركية، واخذوا رهائن من قبل الطلبة الايرانيبين السائرين على خط الامام خميني، ومكثوا قرابة السنتين في الأسر ازاء عجز القوات الأميركية عن خوض معركة مباشرة تلاحمية مع القوات الايرانية بقصد تحرير الرهائن من الأسر،  كما تناسوا، أو تناسى الرئيس اترامب على الأقل، تراجع الرئيس بوش الأب عن خوض معارك تلاحمية مباشرة ضد حرس الثورة الايرانية الذين حاصروا، بمؤازرة عدد من شيعة الجنوب العراقي،  العاصمة العراقية بغداد، وباتوا يخططون لاقتحامها وقلب نظام صدام حسين لمصلحة ايران الاسلامية، التي باتت العدو اللدود  للولايات المتحدة .

فبعد أن  أخذت القوات الأميركية في سبعينات القرن الماضي، تتخلص تدريجيا من عقدة فيتنام التي تكونت لديها نتيجة المفاجاءات التي كان مقاتلو الفياتكونج  يباغتونها بها، عبر ظهورهم المفاجىء من المجهول… من بين الأدغال، او من خنادق حفرت تحت الأرض، أخذت عقدة ايران  تتبلور أمام أعينهم، بعد أن قامت ايران بتأسيس حرس الثورة الايرانية، باعتبارها القوات الفعلية التي تعتمد عليها الثورة الايرانية في حماية الثورة والبلد…

وتنامت عقدة ايران لديهم بعد أن شاهد الأميركيون  فيديوهات تكشف  بعض تدريبات هؤلاء المنخرطين في الحرس الثوري، يتدربون على عمليات القتال التلاحمي، فيشتبكون مع أعدائهم بالرشاشات ، أو بالقنابل اليدويةـ… بل ومستخدمين الأسلحة البيضاء وهم يصيحون في وجه من يهاجمونه: ” يا حسين   يا علي”…مازجين الرغبة في القتال دفاعا عن الوطن وعن الثورة، بالانتصار لعلي وللحسين، أكبر وأقدس الشهداء لدى الشيعة من المسلمين.

فعقدة ايران هذه، التي حولت أي حرب معها من حرب كلاسيكية الى حرب دينية، حالت بين القوات الأميركية  وبين تنفيذ عملية جدية كبرى لتحرير الرهائن الآثنين والخمسين، والذين مكثوا في أسر طلبة الخميني لمدة تقارب العامين كما سبق وذكرت. وهكذا لم يتم تحريرهم الا في شهر كانون الثاني عام 1981، كما لم يتم تحريرهم نتيجة عملية عسكرية كان يفترض بها أن تقع، بل نتيجة صفقة سياسية عرفت فيما بعد باسم صفقة الكونترا…  تماما كما تم تجنب الأميركيون لاحقا ومرة أخرى، بعد ما يقارب اثني عشر عاما تقريبا،  المواجهة  مع حرس الثورة الايرانية المحاصرين لبغداد في عام 1991،  وذلك رغبة منهم في تجنب  معركة تلاحمية أخرى بينهم وبين حرس الثورة الايرانية رغم كونهم قليلي العدد  لكن معززين بمؤازرين لهم من شيعة العراق المدربين أيضا على نهجهم.  وقد جرى تجنيبهم خوض معركة كهذه  نتيجة  صفقة سياسية أخرى عرفت لاحقا باسم صفقة الدبلوماسية السرية التيا عقدت بين الرئيس بوش الأب والرئيس صدام حسين  والتي سـأورد تفاصيلها لاحقا.

ولغيات الدقة والواقع،  فأن الرئيس كارتر المنتمي للحزب الدمقراطي، قد حاول تنفيذ عملية عسكرية خاطفة لتحرير الراهائن وذلك في 25  نيسان – ابريل عام 1980.   ولكن تلك العملية المسماة بعملية مخلب النسر، قد فشلت نتيجة تصادم طائرتين أميركيتين تشاركان في الحملة  ببعضهما، وهما تحاولان الهبوط في صحراء قريبة من طهران.  ونتيجة تصادم الطائرتين المقلتين لمقاتلين من القوات ألأميركية الخاصة، قتل عشرة من الجنود الأميركيبن ومدني واحد، كما ورد في صفحات الويكيبيديا، كما أدى التصادم الى انكشاف السرية التي حاول األأميركيون اضفاءها على عمليتهم تلك، مما اضطر الرئيس كارتر آنئذ، لتنفيذ عملية انقاذ سريعة أراد بها انقاذ هؤلاء المقاتلين من القوات الخاصة، والذين باتوا هم الآن أيضا مهددين، نتيجة انكشاف طبيعة عمليتهم للايرانيين، من الوقوع هم أيضا في أسر حرس  ابثورة الايرانية.

وسعى رونالد ريغان،  المرشح للرئاسة الأميركية في مواجهة الرئيس كارتر المرشح لدورة ثانية، للتركيز في دعايته الانتخابية على فشل الرئيس كارتر في تحرير أولئك الرهائن، بينما كان هو في حقيقة الأمر، يجري مفاوضات سرية مع الايرانيين حول اطلاق سرتاحهم، وكان يقود تلك المفاوضات جورج بوش الأب، المرشح كنائب لريغان، والمدير السابق للسي آي ايه، اذ كان يجري تك المفاوضات  مع الايرانيين بسرية تامة سعيا منه لاقناعهم باطلاق سراح اولئك الرهائن في اليوم الذي يقسم فيه الرئيس ريغان اليمين القانونية في عشسرين يناير من عام 1981، مرجحين كما يبدو  فوزه  في تلك الانتخابات.

وكان الثمن المقابل  الموعود لايران التي كانت في حالة حرب مع العراق، هو تزويدها بأسلحة وهو ما عرف فيما بعد  بصفقة الكونترا.   وهكذا قد يمكن القول هنا، بأنه اذ صدق الاتهام  بأن روسيا الاتحادية قد تدخلت فعلا في مجريات الانتخابات الرئاسية في أمبركا عام 2016 مما تسبب في وصول رئيس جمهوري (ترامب) لمقعد الرئاسة، فان الايرانيين قد تدخلوا من قبل عام 1980 لمساعدة الرئيس ريغان، الجمهوري أيضا، على الوصول الى مقعد الرئاسة وهزيمة كارتر، الرئيس الدمقراطي.

واذا كان التقاعس عن تحرير الرهائن عسكريا كان مرده عقدة ايران التي كانت في بداياتها، فان عقدة ايران قد تبلورت بشكل أكثر وضوحا في عام 1991، ونتيجة لها تقاعس الرئيس بوش الأب أيضا عن ارسال قواته لمقاتلة حرس الثورة الايرانيين الذين حاصروا بغداد وفي نيتهم اقتحامها وفرض الهيمنة الايرانية عليها.

وحصل ذلك عندما كانت القوات الأميركية التي جاءت الى المنطقة بذريعة تحرير الكويت من الغزو العراقي لها. وفي خلال عملية التحرير تلك، استخدمت الطائرات في قصف العراق على مدى عشرين يوما أو أكثر، كما ـأطلقت مئات من صواريخ توما هوك أيضا في قصفها للمواقع العراقية سواء في داخل العراق او في داخل الكويت، بل نفذت أخيرا وعلى أرض الواقع عمليات التحامية مع القوات العراقية أـدت الى هرولتهم مغادرين الأراضي العراقية الى داخل العراق، بل وطاردهم الأميركيون في داخل الأراضي العراقية متوغلين قرابة الأربعبين كيلومترا داخل العراق وفي نيتهم، كما كان معلوما ومعلنا على لساني ديك تشيني(وزير الدفاع) والجنرال شوارزكوف (قائد القوات المهاجمة)، مواصلة الزحف حتى الوصول الى بغداد  وقلب نظام الرئيس صدام حسين.

ولكن هذه الخطوة الأخيرة توقفت فجأة اثر تلقي الرئيس بوش بعض الصور للأقمار الصناعية تكشف عن وجود قوات حرس الثورة الايرانة في مواقع لا تبعد عن بغداد الا مائة كيلومتر أو أقل.   فهنا أدرك الرئيس بوش الأب أن على  قواته أن تلتحم بقوات حرس الثورة الايرانية قبل أن تتمكن من الوصول الى بغداد والالتحام مع الحرس الجمهوري العراقي. فهذا الأمر قد استوقفه طويلا خصوصا وقد تذكر بوش فجأة عقدة ايران وتأثيرها على القوات األأميركية التي تذكرت مجددا عقدة فيتنام وما قد تحمله عقدة ايران في عمليات التلاحم مع الحرس الثوري الايراني وهو يصرخ في وجوههم:.  “يا حسين…يا علي”.  وهنا لم يعد أمام الرئيس الاميركي الا عقد صفقة الدبلوماسية السرية… لكن مع من؟ مع الرئيس العراقي صدام حسين الذي كان يقاتله على مدى أربعين يوما طويلة…بل طويلة جدا. وكان الوسيط في تلك الصفقة، السفير بوسفاليوك  سفير الاتحاد السوفياتي في بغداد.

وكان الاقتراح الأول لبوش، كما قدر المتابعون لمجريات الأحداث ومنهم شخصي المتواضع الذي تصادف أن كان في تلك المرحلة الهامة من تاربخ تلك الحرب، الاعلامي الوحيد غير العراقي المتواجد في بغداد. وكنت متواجدا فيها كمدير اقليمي لوكالة أنباء تلفزيونية عالمية، هي التلفزيون العالمي دبليو تي أن (WTN…(Worldwide TV News…يقتضي قيام الرئيس صدام بمطاردة القوات الايرانية  الى ما وراء الحدود، مع وعد من الرئيس بوش بتوقف زحف  قواته نحو بغداد.  ورد الرئيس صدام ساخرا :”وكيف أطاردهم وآلاف من جنودي أسرى لديكم، اضافة الى كونكم قد دمرتم معظم أسلحة قواتي المسلحة”،  وهنا جاء الرد الأميركي عبر بوسفاليوك، بأن الولايات المتحدة على استعداد لاطلاق سراح كافة الأسرى خلال يومين، كا أنها على استعداد  لأن تأذن للاتحاد السوفياتي  بتجديد كل الأسلحة التي فقدتموها خلال ايام قليلة.

ومع أن الرئيس بوش كان يفترض  به أن يكون مفاوضا بارعا خصوصا وأنه كان من فاوض الايرانيين نيابة عن الرئيس ريغان بصدد صفقة الكونترا التي أدت لاطلاق سراح الرهائن األأميركيين، الا أنه قد وقع هنا في شرك دهاء الرئيس صدام الذي أدرك مدى يأس الوضع الأميركي في ذاك الموقف، وعدم رغبة بوش في الدخول في معركة برية تلاحمبة مع حرس الثورة الايراني. وهنا أرسل طلبه الأخير والنهائي عبر السفير بوسفاليوك، قائلا لبوش بأنك قد  وعدت بعدم مواصلة القوات الأميركية زحفها نحو بغداد، ولكن ماذا يضمن لي  ألا تقوم  بعد نجاحي في طرد الايرانيين الى ما وراء الحدود، بألا تسعى الولايات المتحدة لأن تقلب نظامي السياسي القائم  بعد بضعة شهور. “فهل أنتم مستعدون للتعهد بعدم التعرض للنظام السياسي القائم حاليا في العراق،   كما تعهدتم عام 1962 بعدم قلب نظام الحكم في كوبا؟ا”،  ويبدو بـأن الرئيس بوش الأب، الذي لم يكن أمامه بديلا آخر للتعامل مع تلك المعضلة، قد تعهد فعلا بذلك، بدليل أـن الرئيس صدام قد بقي في السلطة اثنا عشر عاما، من عام 1991  حتى عام 2003  عندما غزا بوش الابن العراق.

واكن أدلة كثيرة أخرى كثيرة على وجود صفقة الدبلوماسية السرية قد ظهرت لاحقا، غير أنها قد ظهرت تدريجيا مرجحة وجود شيء ما غامض في الأفق، وذلك منذ أن طلبت وزارة الاعلام  العراقية في مساء السابع من آذار، من  كافة الصحفيين الاجانب، بما فيهم بيتر أرنيت من “سي أن أن”، الذي طالما سمحت له بالبقاء في العراق  خلافا للآخرين… بمغادرة العراق فورا. أما أنا ولكوني أردنيا  اضافة لعوامل أخرى، لم تشملني عملية الطرد التي جاءت بعد أيام قليلة من وقف اطلاق النار.

ففي الثامن والعشرين من شباط أعلن فجـأة وقف اطلاق النار بعد ساعات قليلة من اعلان مسؤولين أميركيين في واشنطن بما فيهم الناطق باسم وزارة الخارجية، أن الحرب مستمرة حتى الوصول الى بغداد. وفي اليوم التالي لوقف اطلاق النار أو اليوم الذي تلاه، بدأت تصل الى بغداد مجموعات كبيرة من الأسرى العراقيين الذين شرعت الولايات المتحدة في اطلاق سراحهم في الأيام  القليلة التي تلت وقف اطلاق النار.

 ولكن في اليوم التالي  لمغادرة الصحفيين لبغداد، أي في يوم الثامن من آذار، جاء الدليل الأقوى المرجح لحدوث شيء ما غير عادي على الساحة الأميركية العراقية. ففي منتصف تلك الليلة، بدأت أسمع هدير طائرات ثقيلة الصوت، كطائرات النقل أو الشحن، تحلق بطيئة في أجواء بغداد  كأي طائرة تحمل معدات ثقيلة. وكانت الطائرة منها تعبر فوق فندق الرشيد الذي أقيم فيه، ثم تختفي بعد دقائق، مما بات يرجح لي بأنها تهبط في مطار قريب من فندق الرشيد هو مطار المثنى. وبطبيعة الحال لم تكن تلك الطائرات ستحلق في الأجواء بدون موافقة الولايات المتحدة التي كانت تسيطر على الأجواء العراقية. كما أنها كانت بوضوح ونتيجة صوتها الأجش، طائرات نقل، كما كانت تهبط بأمان في المطار القريب، أي مطار المثنى، دون اعتراض من القوات العراقية التي كانت  تسيطر على ذاك المطار.

وبعد الثاني عشر من آذار، جاء الدليل الآخر المرجح هذه المرة على كون الطائرات التي وصلت العراق في الأيام القليلة الماضية،  كانت طائرات نقل تحمل أسلحة جديدة للعراق تعزز قدراتها العسكرية على القتال. ففي الثالث عشر أو الرابع عشر من الشهر، اصطحبتني وزارة الاعلام العراقية  الى مدينة كربلاء، التي دلت كل المعالم فيها على وقوع قتال شرس ودام شمل قصف سطح مقام الامام الحسين الذي لجأ اليه حرس الثورة الايرانية ومؤازيريهم من شيعة العراق. وكانت بعض الجثث لم تزل ملقاة هنا وهناك في بعض الشوارع الجانبية.

وفي اليوم التالي، اصطحبتني الوزارة الى النجف، المدينة الأخرى المقدسة للشيعة، والتي تبين لي أنها قد شاهدت هي الأخرى قتالا شرسا، لكنه لم يبلغ مرحلة قصف مقام الامام علي او سطح ذاك المقام.  وتلاها في الأيام التالية، زيارات متعددة لعدة مدن عراقية في الجنوب العراقي وصولا الى الحدود الايرانية، بحيث تأكد لي ولمن رافقني، بأن العراق قد تم تطهيره من حرس الثورة الايرانية تنفيذا لصفقة الدبلوماسية السرية التي عقدت بين  الرئيسين صدام وبوش.
ولكن هل كان الرئيس صدام ينفذ حقا مجرد حرب بالوكالة ضد حرس الثورة الايراني في مسعى لتجنيب القوات الأميركية مخاطر المواجهة التلاحمية  مع ذاك الحرس الثوري، أم كان ينفذها أيضا حماية للعراق ولنظامه السياسي، حيث لم يرغب أيضا بطبيعة الحال، في أن يجلس بعض ملالي ايران على كرسي الرئاسة في بغداد؟  كان ذلك بطبيعة الحال هو همه الأول، وكان من المرجح أنه سيخوض الحرب ضد حرس الثورة الايرانية  بما تبقى لديه من جنود ومعدات، سواء سمحت الولايات المتحدة بتزويده بمزيد منها نتيجة تلك الصفقة او لم تسمح.

ورغم أهمية هذا التطور الهام في التاريخ الأميركي ، ومن قبله صفقة الكونترا مع الايرانيين، وكونهما قد شكلتا وقفتين كانتا تسعيان لتجنب الاحتكاك التلاحمي بين القوات الأميركية  وقوات الحرس الثورة الايرانية الاسلامية نتيجة ملامح المعتقدات الدينية الحساسة لدى تلك القوات… فان الرئيس ترامب  كما يبدو، لم يحاول التوقف ولو لبعض الوقت لدى ذاك الخطر المحتمل (حتى ولو كان مجرد احتمال)، قبل اتخاذ قراره بشأن الانسحاب من الصفقة النووية مع ايران،  معتقدا  ربما… بأن حرب الاغارات الجوية واطلاق الصواريخ من موانىء الخليج،  سيكون كافيا لهزيمة الدولة الايرانية التي لم يقدر بأن هزيمتها الفعلية سيقتضي في مرحلة ما، اشتباكا تلاحميا بين القوتين العسكريتين،  وهو تلاحم قد لا يكون الجيش الأميركي قادرا عليه. وكذلك قد لا يكون الجيش الاسرائيلي قادرا عليه الذي قد يكون ناجحا في تنفيذ  الاغارات الجوية وفي اطلاق الصواريخ على طهران وربما أيضا بتنفيذ عمليات استخبارية معدة سلفا داخل الأراضي الايرانية، لكنه قد لا يكون قادرا على الدخول في معركة تلاحمية مع القوات الايرانية، مما سيترك هذه المهمة للحليف الثالث وهو السعودية التي اشتبكت لاحقا ولمدة ثلاث سنوات، في حرب بالوكالة ضد ايران عبر ما يسمون بحلفائهم الحوثيين، ومع ذلك لم تحقق بعد نتيجة تذكر. فكيف يتوقع منها تحقيق نتيجة أفضل في حرب ضد احدى كبريات دول الشرق الأوسط أي ايران.

ومع ذلك، واضافة  لكل المؤشرات الفعلية التي عززت وجود صفقة الدبلوماسية السرية  الساعية لتجنيب القوات الأميركية تجنب الدخول في مواجهة تلاحمية مع حرس الثورة الايرانية، حاولت الحصول على أدلة رسمية ما تعزز هذا الاحتمال والتقدير.  ففي مرحلة لاحقة، وقفت امام السفارة السوفياتية مع فريق التلفزيون التابع لمكتبي في بغداد، وكنا ننتظر خروج السفير بوسفاليوك.  ولدى خروجه سألناه عن دوره  في وجود مفاوضات ما سرية بين الدولتين، الا أنه رفض الاجابة على السؤال.  وعندما سألته “لماذا ترفض التعليق والايضاح، مع أـن بعض المعلومات قد تسربت عن الموضوع ، فقال “أنت تعرف لماذا”، ثم ركب سيارة السفارة وانطلق بها بعيدا.

وقمت لاحقا بمحاولة مشابهة مع طارق عزيز نائب رئيس الوزراء والمسؤول عن السياسة الخارجية، والذي بات صديقا لي بعد أن زودته بنسخة  من كتابي بصياغته الثانية وعنوانها :”استراتيجية نهاية المطاف” الذي استبدل لاحقا في الصياغة السادسة للكتاب والتي تم نشرها في نهايات عام 2015 بعنوان “الشرق الأوسط الجديد…سياسات واستراتيجيات”. وقام “أبو زاياد” كما يسمون طارق عزيز لكون أكبر أبنائه اسمه زياد،   بقراءة النص الثاني من  الكتاب الذي اجريت تعديلات كثيرة عليه لاحقا،  وكتب عدة تاشيرات على هوامشها، يوافق على ما ورد في بعضها، ويحتج على معلومات أخرى باعتبارها غير دقيقة. فبعد تلك الخطوة، بت صديقا لأبو زياد، فكنا نلتقي أحيانا خصوصا لدى تصادف تواجدنا في موقع ما… أو مناسبة ما.

وفي يوم ما، كانت قناة أبوظي التي تعمل من خلال مكتبنا في بغداد، ستجري حوارا تلفزيونيا مع طارق عزيز لحساب القناة الاماراتية. وهنا رافقت المراسلة “ايثار الرماحي”  وكذلك  طاقمنا الفني الى مكتب طارق عزيز لاجراء اللقاء المذكور. واثناء انهماك الفريق الفني بتركيز أجهزة الاضاءة  وتوزيع الكاميرات والميكروفونات، جاءني مساعد أبو زياد يبلغني بدعوة طارق عزيز الى مكتبه لتناول فنجان قهوة معه خلال مرحلة انهماك أولئك في استكمال اعداد الامور الفنية.

ولكن أثناء تناول فنجان القهوة وتناولنا اطراف الحديث عن عدة تطورات سياسية وقعت، سألته هنا بشكل مفاجىء: “ولكن ماذا عن الصفقة السرية بين الرئيسين. كان لك فيها ولبوسفاليوك دورا في تحقيقها؟”، هنا صمت أبو زباد لبعض الوقت، ثم قال “أنت اعلامي مخضرم  وتعلم بأنني لا أستطيع الاجابة على هذا السؤال”.

فاجابة عدم التعليق من بوسفاليوك وطارق عزيز، لم تؤكدان حصول صفقة ما، لكنهما أيضا بجوابيهما الدبلوماسيين، لم ينفيا حصولها. ولا أعلم مدى دقة هذا الاستنتاج.   كما أن النتائج التي ترتبت على ذلك كتنت واضحة جدا ومنها بقاء الرئيس صدام في السلطة دون حصول محاولة ما جدية لقلبه على مدى 12 عاما كما سبق وكررت، وهي الفترة التي انتهت أخيرا  بعملية غزو العراق عام 2003. وكان “ديك تشيني”…نائب الرئيس آنئذ،المحافظ جدا  والمعادي جدا للعراق، من آكبر المشجعين على غزو العراق. وكان يشجع على ذلك الرئيس بوش الأب منذ أن كان  وزيرا لدفاعه. فهذه المرحلة من السكينة والتي لم تتضمن محاولات فعلية  لقلب النظام في العراق، وحدها ترجح صحة حصول تلك الصفقة السرية المتعلقة بكيفية التعامل مع ايران بطريقة خاصة.

  لكن الرئيس ترامب لم يبد كالرئيسين كارتر وبوش الأبـ،، راغبا في التعامل مع ايران  بحذر أو بطريقة متميزة ولو نوعا ما، فتحسب بعض الحساب لها  ولاحتمالات وجود بعض المفاجاآت.  فاندفاعا منه في تأييد المطالب الاسرائيلية  التي يغذيها صهره كوشنر، لم يتوقف  ولو قليلا للتفكير مليا بقضية الغاء اعترافه باتفاق خمسة  زائد واحد  الذي يشمل الجانب الايراني.  فهو لم يتوقف مثلا لبضعة أسابيع قبل الغاء هذا الاعتراف، انتظارا منه لانجاز لقائه المتوقع مع رئيس كوريا الشمالية المقرر له في الثاني عشر من حزيران القادم.  اذ اصر على التشبث بسحب موافقة الولايات المتحدة على اتفاقية خمسة زائد واحد  في الموعد المحدد لاعلان قراره في هذا الشأن، وهو العاشر أو الثاني عشر  من شهر أيار مايو، دون انتظار شهر آخر لانجاز اجتماعه المتوقع مع رئيس كوريا الشمالية قبل الكشف عن ذاك الاعلان.

وكان ذاك الاستعجال مرة أخرى، نتيجة الضغوط الاسرائيلية واعتياده على اصدار القرارات السريعة المثيرة للجدل.  وكانت النتيجة، أن الرئيس الكوري  الشمالي بات الآن يراجع قراره في شأن اجتماعه مع الرئيس ترامب.  فمع عودة ايران الى ساحة النزاع مع أميركا بشأن القضية النووية، فانه قد وجد فيها حليفا قد يعزز موقفه، ويشاغل أميركا عنه، وربما يساعده على انتزاع  شروط افضل من أميركا في شأن القضية النووية الكورية كما في القضية النووية الايرانية أيضا، خصوصا اذا باتت القضيتان تطرحان في آن واحد..

وهكذا يبدو بأـن ايران ستلعب دورا هاما ليس قي قضية اطلاق سراح الرهائن الأميركيين كما حدث في السبعينات، أو في شأن حرس الثورة الايراني الذي سعى للاستيلاء على السلطة في العراق، بل الآن  في الشأن الكوري الشمالي أيضا. وكل ذلك هذه المرة بالذات، نتيجة  واضحة لتهور الرئيس ترامب والاغراق في الاستجابة لمطالب نتانياهو  وصهره…مستشاره …  جارد كوشنر.

   – الكاتب والمحلل السياسي.

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع