بقلم الدكتور رؤوف هندي
أعلنت الكنيسة الإنجليكية بإنجلترا منذ أيام أنه سيتم دفن ستيڤين هوكينغ (1942- 2018) وهومن أبرز علماء الفيزياء وعلم الكون على مستوي العالم بجوار إسحاق نيوتين وتشارلز داروين فى كنيسة وست منستر أيقونة الكنائس الإنجليزية وسيقام القداس على روحه خلال العام وقد أثارهذا الإعلان احترام العالم أجمع فمن المعروف أن ستيفن كان ملحدا وصرّح كثيرا بأن ’الكون تحكمه قوانين العلم وأضاف أن هناك فرق شاسع مابين الدين الذي يقوم على السُلطة ومبدأ الطاعة العمياء لرجاله ومابين العِلم الذي يقوم على الملاحظة والمنطق والتجربة واستخلاص النتائج لصالح البشرية وتقدمها ورفاهيتها وأكد أن العلم سينتصر بلاشك بل ونصرا ساحقا واعتبر ستيفن في مقابلة له بصحيفة الجارديان أن مفهوم الجنة الشائع ليس إلا بأسطورة مؤكدا بأنه لايوجد جنة او حياة اخرى ومثل هذه الأفكار وغيرها لم تكُن سوى قصصا خرافية من أناس يخشون الفناء والظلام وأضاف أنه من الطبيعي أن يؤمن البعض بأن الله خلق الكون وذلك قبل أن يشرق العلم بنوره ويقدم شرحا وحلولا للبشرية اكثر إقناعا وفائدة من كل الأديان وأكد بأننا بالعلم سنتمكن من معرفة كل شيء يعرفه الله إذا كان موجودا حقا! وهو ليس بالموجود ووجهة نظري الخاصة والكلام على لسان العالم العبقريّ ستيفين ان الكون لم يخلقه أحد وأنه لايوجد إله وأن العلم قادر على تحقيق المستحيل بل والخلود! من هنا كانت آرائه ومعتقداته تتصادم بشكل رهيب مع المعتقدات الدينية وكان رجال الدين يناصبونه العداء والمقاطعة وصلت لحد الشماته في مرضه وموته لذلك جاء إعلان الكنيسة الإنجليكية بالصلاة علية صدمة لكثيرين ولكنه كان إعلانا رسخّ للقيم الإنسانية والمحبة واحترام الاختلاف في الفكر والرؤى وتقديرا لخدماته الجليلة التي قدمها للعالم الإنساني.
ومن المعروف أيضا أن داروين كان ملحدا؛ ورغم ذلك كانت زوجته مسيحية متدينة دائمة الذهاب للكنيسة، ونيوتن لم يكن يتبع المذهب الپروتوستانتى السائد فى انجلترا وقتها فلم يكن نيوتين مقتنع بعقيدة الترينيتى؛ أى التثليث؛ وله كتابات اكتشفت مؤخراً تدل على انه كان يتبع مبدأ التوحيد الذى قال به آريوس الذى جعل الابن فى مرتبة أدنى من الأب ومع ذلك لم تستنكف الكنيسة أن يضم ثراها رفاتهم ولم يستنكف القساوسة أن يصلوا عليهم، فى حين لم يكن هذا موقف رجال الدين والمتدينين من الخارجين على الكنيسة من قبل واذكر أن القداس اقيم على ڤولتير سراً وتم الصلاة عليه ودفنه فى كنيسة نائية فى عجالة قبل صدور فتوى عدم جواز الصلاة عليه ودفنه فى الكنيسة، وكان ذلك قبيل الثورة الفرنسية ثم أعيد بعد ذلك دفنه عقب إعلان الجمهورية الأولى فى مدافن العظماء فىپاريس ( الپونتيون) وبعد فشل الثورة وعودة سلطان الدين اخرج المتطرفون جسده وألقوا به فى مكان مجهول خارج المقبرة !!! وهذا يوضح جوهر الفرق بين العصر الحديث والقرون الوسطى .
فكلما ارتقى الإنسان شغل بالإنسان والإنسانية وغلبته الرحمة دون النظر إلى لونٍ أو عرقٍ أو دين ولكن لا أدرى ما الذى بدلنا ومن أين أتينا بأفكارنا البالية التي باتتْ تتحكم في كل تصرفاتنا والتي في أغلبها معادية لفكرة التسامح والتعايش مع الآخر وإيه اللي غيرنا؟ ومين شال من صدورنا القلوب وحط مكانها حجر وطوب ومين اللي توهنا وشوهنا وكرهنا في الحب والجمال والإبداع والتنوع بكل صوره وأشكاله البديعة وإيه اللي خلى الدنيا تبقى زنزانة والسنين أيامها بهتانة ! العودة للمشتركات الإنسانية التي تجمعنا هي المخرج الوحيد لإنقاذ بشرية باتت معذبة من ويلات الحروب والإرهاب وتوحش جبروت رأس المال ويقول سقراط (الإنسانية هي اوسع دائرة للمحبة والاخوة والإنسانية ليست دينا بل مرتبةً سامية يصل إليها بعض البشر) ويقول جبران خليل جبران صوت المحبة والسلام والإنسانية مخاطبا الإنسان ( انت اخي وأنا احبٌك سواء سواء أكنت راكعا في مسجدٍ أو مصليا في كنيستك أو جالسا امام صمك أنت اخي واحبك لأنك إنسان) وقال أيضا ( الإنسانية نهر من النور يسير من أودية الازل إلى بحر الأبد) وهنا يقصد جبران الإنسان بكل تنوعه وثقافاته وإبداعاته فدينك لايهمني وعقيدتك لاتعنيني وفكرك انت حرُ فيه مايهمني ان تكون إنسانا محبا لأخيك الإنسان بغضَ النظر عن دينه وفكره ومعتقده وفي رأيي أن مفهوم الإنسانية بقيمها العُليا لا يجب أبدا أن يرتبط فقط بنص ديني لأن من يفعل ذلك فسيبرر وحشيته غدا بنص ديني آخر يصبغه بمفاهيمه المريضة إذا فلنقدسْ الإنسانية طالما نعيش وسط البشر لذا فأنا أري انه يجب على قادة الفكر والتنوير والمؤسسات العالمية الثقافية وضمن خطة إستراتيجية شاملة تشمل جميع دول العالم ولاسيما الدول التي تعاني فقرا فكريا وماديا لترسيخ مفهوم القيم الإنسانية المشتركة التي تجمع الشعوب في ظل احترام التنوع والتعدد الثقافي والعقائدي والفكري لكل الشعوب تحت مظلة قانونية معترف بها عالميا وتضمنها المواثيق والعهود الدولية فهذا هو المخرج الوحيد والمتاح حاليا لإنقاذ بشرية باتَ وجودها مهددا وهذا من الممكن ان يتم وبسهولة إذا توافرت إرادة حقيقية لقادة العالم الذين يجب عليهم تحمّل مسئولياتهم تجاه شعوبهم وشعوب العالم كله بل والكوكب بأسره وفي النهاية أطرح تساؤلا ألم يحِن الوقت ان ينتهي الصراع الأبديّ الأزلي بين الأسطورة والدين والعلم تحت مظلة معايير التفاهم والرؤى الجديدة ؟ إنه امل يراودني وسوف أتناوله تفصيليا في مقال قادم