الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد؟ (18) البابا شنودة الثالث.. انطلاق كنيسة (الجزءالرابع)
كمال زاخر موسى
الاثنين ٢١ مايو ٢٠١٨
كمال زاخر
لا نملك ترف قراءة التاريخ لذاته، ولا نملك ادوات محاكمته مجرداً، التى يختص بها طيف من الأبحاث التى تسعى لفهمه من خلال تجميع الملابسات المعاصره لأحداثه وفهم تأثيرها وتداخلاتها، وهى وإن كانت ابحاث شيقة، إلا أنها تقع خارج إهتمام سعينا، وإن تلامسنا معها بحكم الضرورة، سعينا أن نستوعب دروس الماضى القريب والبعيد لحساب الحاضر والمستقبل؛ حاضراً بمحاولة الإجابة على سؤالنا : الكنيسة ... صراع أم مخاض ميلاد، ومستقبلاً بترتيب أولوياتنا لتعود الكنيسة إلى مسارات التنوير وإعلان المسيح تأسيساً على وصيته لتلاميذه "إذهبوا .. اكرزوا .. افشوا الفرح والرجاء".
شهدت الأديرة والرهبنة طفرة نوعية وكميِّة فى حبرية قداسة البابا شنودة الثالث (1971 ـ 2012)، ربما انبهاراً بتجربة رعيل الشباب المغامر الذى بادر باقتحام دوائر الرهبنة رغم تحقق بعضهم فى دوائرهم الحياتية فى العالم، وهم من الحاصلين على شهادات جامعية، وكانت محل تقدير فى جيلهم، ونقلوا تجربتهم عبر كتاباتهم التى اختفت فيها ذواتهم، ليكشفوا لجمهور القراء وغالبيتهم من الشباب الواعد، طيف من زخم التراث القبطى الأرثوذكسى المبهر، وكان الكتاب يتربع على عرش الثقافة وسعى الاستنارة، بغير منافس، وقد تلامس طرحهم مع اشتياقات مستيكية تسكن جوانح شباب الأقباط بفعل منظومة الليتورجية الأرثوذكسية، فتتطابقت مع أطروحاتهم التى تكشف اسرارها وجذورها التى غمضت عليهم.
طيف أخر من الشباب وجد فى الرهبنة خلاصاً من ضغوط اللحظة وربما هروباً منها، تحت تأثير صور متوهمة عن مثالية الحياة خلف اسوار الأديرة التى تشكلها القصص الميتافيزيقية الأسطورية التى تروَج عنها وتدغدغ مشاعر وأحاسيس كثيرين، وطيف ثالت كانت له مآرب أخرى.
كان الشباب فى كل العالم يصنع حراك تغيير فى الستينيات من القرن العشرين، فيما عرف بثورة الشباب، كما فى الغرب كذلك فى الشرق، وكنا فى مصر تحديداً نجتر مرارات هزيمة يونيو 1967، فراح طيف من الشباب يطرق أبواب الرهبنة بحثاً عن ملاذ آمن، وبعضه يجد فيه حلاً لأزمته الإقتصادية، وبعضه يرتب خلفها أحلامه وطموحاته.
وتشهد السبعينينات من ذات القرن تحولاً نوعياً داخل وخارج الأديرة، ففى الداخل تتنوع التخصصات والخبرات العلمية والعملية، ويترتب على ذلك انتقال "عمل اليدين" من شكله المتوارث إلى استصلاح الأراضى، بتقنيات وأدوات وميكنة حديثة، توفرت لها بفضل المساهمات والدعم المالى لأحباء الأديرة من العلمانيين البسطاء ورجال الأعمال، وكان الرائد فى هذا دير أنبا مقار الذى شهد هجوماً من مناوئيه التقليديين، ثم ما لبثوا أن نقلوا عنه هذا التوجه وساروا فيه. ثم تظهر الحاجة مع تضخم الانتاج الزراعى إلى التصنيع الزراعى والتسويق التجارى، ليصبح إنتاج الأديرة رقماً ايجابياً فى الاقتصاد القومى وقيمة مضافة للناتج القومى.
وفى الخارج تستعين الكنيسة بالرهبان فى العديد من خدماتها سواء على مستوى القسوس والقمامصة فى بعض كنائس القاهرة والاسكندرية (إيبارشية البابا) وربما فى ايبارشيات أخرى، أو فى كنائس المهجر، أو فى التمدد فى رسامة اساقفة جدد (اساقفة ايبارشيات أو اساقفة عموم)، وتشهد الأديرة ايضاً نسق جديد يقضى بمنح رتبة الكهنوت لكل رهبان الدير وفق جدول زمنى بحسب اقدمية الرهبنة ليصير تقليداً ينتقل من دير إلى آخر، لتصير (أكركة الرهبنة) قاعدة مستقرة، ويصبح تخطى أحد الرهبان فى الرسامة مع دفعته بمثابة عقاب يسلمه إلى دوامة من المتاعب النفسية بينه وبين نفسه ومحل تساؤلات بين أقرانه، وما بين طوفان رسامات الرهبان قسوساً وقمامصة داخل الدير، وبين نزيف رسامتهم أساقفة يحدث فراغ فى حياة التلمذة داخل الأديرة، التى تتضافر معها الرحلات الجماعية اليومية، فتفقد الأديرة محاور تأسست عليها، فلا هدوء ولا عزلة ولا تلمذة ولا تمايز، فإذا بهم صور نمطية متكررة وباهتة، وتزداد معاناة الرهبان ويقعون فى حروب عاتية، وتختفى التكوين الفكرى الآبائى والتراكم الرهبانى التقليدى، وينعكس هذا على الخدمة بالكنيسة، وربما تفسر جانباً من المصادمات بين فرقاء اليوم، فكل كون رؤيته بجهود ذاتية بعيداً عن قواعد التسليم الآبائى.
ووفقاً لنظرية الأوانى المستطرقة، لم تستطع الكنيسة، شأنها شأن كثير من مؤسسات المجتمع والدولة، أن تُغَلّب أهل الخبرة على أهل الثقة، فقفز على مواقعها الكثير من الكوادر التى لا تملك موهبة الإدارة ولم تلتفت فى مواقعها إلا للسلطة دون الأبوة، بل وراح بعضهم يعلنون بلا وجل أنهم صاروا رمزاً للبطش والقهر، وقد يلفت النظر أن صورة الأسقف الرسمية التى تتصدر قاعات الإستقبال فى ايبارشيته قد نالها تغيير صار تقليداً، فبعد أن كان يمسك بيمينه الكتاب المقدس والصليب بيسراه، صار يمسك الصليب بيمناه بينما تمسك يده اليسرى بالعصا، تغيب الإشارة إلى التعليم وتحضر العصا.
ومع غياب المعايير العامة والمجردة والموضوعية نجد من يصلح لتدبير جماعة رهبانية يقام على إيبارشية فيصر على إدارتها بقوانين وضوابط الجماعة الرهبانية فيتململ الكهنة ولا تتحمل الرعية الضوابط الرهبانية المفروضة عليهم، وينتهى به الأمر معزولاً خلف جدران قلايته، وعندما ينجح خادم فى التواصل مع الشباب معلماً، يُدفع للرهبنة شهوراً ليخرج الى كرسى الاسقفية على ايبارشية ليجد نفسه تائهاً وسط مسئوليات تستغرقه وهموم رعوية تبتلعه وقد ينتهى به الأمر إلى مغادرة الحياة مبكراً.
أو قد تتدخل عوامل أخرى فى اختيار أحدهم على سبيل المجاملة فيُلحق بالدير استيفاءاً للشكل ويخرج منه بعد برهة من الزمن ليرسم اسقفاً لم تكتمل خبراته الرهبانية، ولم يكتسب من صفاتها شئ، فإذا به وهو مدعوم من الأب البطريرك يكشف عن متاعبه النفسية ويتعامل مع رعيته بصلف وغرور تدفع فاتورته ايبارشيته وربما الكنيسة بجملتها.
ونتوقف أمام ظاهرة "الأسقف العام" وهى تجربة ثرية ومفخخة فى آن واحد، وتستوجب إعادة تقييم ومراجعة وضبط، ولا يتعلق الأمر بشخوص من يشغلون هذا الموقع فهم فى مجملهم من المشهود لهم بمحبة الكنيسة والبذل والعطاء، لكن تعييبن اسقف عام لتدبير مجموعة صغيرة من الكنائس أدى إلى تعطيل وتجميد دور الإيغومانس (القمص) وهو مدبر الكنيسة المحلية، والمسئول عن ترتيب وتوجيه وإرشاد القسوس، وعندما يقع خلاف ما يصبح له الكلمة الأخيرة، الأمر الذى انتقل بجملته الى الاسقف العام، ليختل الهرم الهيراركى، ويصبح موقع "القمص" شرفياً منزوع الإختصاصات، ويسقط فى يد الأسقف وقد وجد نفسه مسئولا بشكل مباشر عن أكثر من كنيسة وتستغرقه تفصيلات تتجاوز خبراته الحياتية ولا تسعفه طبيعة موقعه فى طرح حلول ناجزة كما هو متاح للأب القمص الذى يعيش وسطهم ومختبر لمعاناتهم فى حياتهم اليومية. وتسهم الصورة الذهنية لدى الشعب عن الفرق بين الأسقف والايغومانوس فى تجاوز ابيهم القمص واللجوء مباشرة إلى الأب الأسقف. فتختل منظومة التدبير بجملتها.
ويبقى الأسقف العام المعاون لأسقف أو مطران إيبارشية معرضاً للنقل أو إعادته للدير، لأسباب متعددة، لأنه يتولى عملاً معاونا لأسقف المدينة بغير أن يكون له سند قانونى يستمده من رسامته على المكان ويضمن له الإستقرار والإستمرار، ولا يشفع له نجاحاته فى مهمته ولا طول إقامته فى موقعه، أو ربما لأحتمالات الوقيعة بينه وبين اسقف المدينة على خلفية القبول الشعبى الذى يمكن أن يحققه الأسقف العام وما يولده من مقارانات قد يراها اسقف الإيبارشية انتقاصاً من هيبته، وهو وضع يحتاج إلى دراسة قانونية كنسية.
قد تكون هذه النماذج استثناءات ترد على القاعدة لكنها وغيرها تنبهنا لحاجتنا الى وضع قواعد مجردة وعامة وملزمة ومكتوبة تلتزم بها الكنيسة فى اختيار المرشحين لرتبة الأسقفية، وربما أيضا نكون بحاجة إلى إعادة نموذج "مدرسة الرهبان" لتأهيل من ينطبق عليهم الشروط، قبل رسامتهم، تأهيلاً علمياً واجتماعياً وسياسياً. واجتيازهم اختبارات نفسية وعصبية تناسب جسامة المنصب ومسئولياته.
ومازال للطرح بقية.
لقراءة سلسلة مقالات: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد؟ اضغط هنا