الأقباط متحدون - ذكاء العراقيين المدمر
  • ٠٦:٥٤
  • الاربعاء , ١٣ يونيو ٢٠١٨
English version

ذكاء العراقيين المدمر

د. عبد الخالق حسين

مساحة رأي

٥٦: ٠٩ ص +02:00 EET

الاربعاء ١٣ يونيو ٢٠١٨

العراق
العراق
د.عبدالخالق حسين
 
في إحدى مداخلاتي في سجال مع الزملاء في مجموعة النقاش حول تمرد العراقيين على حكوماتهم، وصعوبة حكمهم عبر التاريخ، القديم والحديث، ذكرتُ أن أغلب مقولات المفكرين والسياسيين في أهل العراق كانت سلبية، بما فيها مقولات للإمام علي بن أبي طالب الذي قال عنهم: (لقد ملأتم صدري قيحاً)، وهناك خطابات عديدة للإمام في ذمه أهل العراق. (ولمن يريد المزيد فليفتح الرابط رقم 1 في الهامش). وقلتُ أيضاً أن المفكر الوحيد الذي أثنى على العراقيين في تمردهم وخروجهم على الحكومات هو الجاحظ الذي قال عنهم: ((العلة في عصيان أهل العراق على الأمراء، وطاعة أهل الشام، أن أهل العراق أهل نظر وذوو فطن ثاقبة. ومع الفطنة والنظر يكون التنقيب والبحث. ومع التنقيب والبحث يكون الطعن والقدح، والترجيح بين الرجال، والتمييز بين الرؤساء، وإظهار عيوب الأمراء)). 
 
فردَّ الصديق الباحث الإسلامي الدكتور غسان ماهر السامرائي، أنه لم يقرأ مقولة الجاحظ، ولكنه كان دائماً يقول أن أهل العراق ذو "ذكاء مدمر"، ويقصد تدمير أنفسهم وليس تدمير أعدائهم. وهذا في رأيي صحيح جداً. وما يهمني هنا هو تعبير (الذكاء المدمر) الذي أدخلته في عنوان مقالي هذا، أنه هو من إبداع الصديق السامرائي، يستحق عليه الثناء، إذ يصلح ليكون اصطلاحاً معبراً بكثافة عن سايكولوجية الإنسان العراقي المقموع والمقهور عبر التاريخ، ليضاف إلى القاموس السياسي العراقي الحديث.
 
ومن الأخطاء السائدة لدى أغلب الناس أنهم يرفضون إضفاء صفة الذكاء على أعدائهم حتى لو كانوا عباقرة، وعلى سبيل المثال، أعداء صدام حسين يصفونه بالغباء. ولكن كيف يكون صدام غبياً وقد حكم 30 مليون نسمة لخمسة وثلاثين سنة، رغم أنه أضطهدهم أشد الاضطهاد، وأهلك الحرث والنسل، وملأ العراق بنحو 450 مقبرة جماعية، وتسبب بقتل نحو مليونين نسمة، ودمر اقتصادهم، وشرد نحو 5 ملايين منهم إلى الشتات، ومع ذلك كان العراقيون يهتفون له (بالروح بالدم نفديك يا صدام)، وحتى بعد هلاكه المخزي راح أتباعه يدمرون العراق انتقاماً له؟ فهكذا الشخص لا يمكن أن يكون غبياً، بل يقدم أوضح نموذج للذكاء المدمر، أو حتى عبقرياً ولكنه عبقري في الإجرام (Criminal genius). 
 
كذلك يخلط الناس بين الذكاء والحكمة والضمير. بينما هذه المفردات ذات معان مختلفة، إذ يمكن أن يكون الإنسان ذكياً جداً، وحتى عبقرياً، ولكنه عديم الحكمة والضمير والأخلاق، يستخدم ذكاءه للدمار مثل صدام حسين، وهتلر، وموسيليني، وغيرهم من المجرمين في التاريخ الذين تسببوا في هلاك الملايين من شعوبهم ودمار أوطانهم.
 
ومن دلائل ذكاء العراقيين في تدمير أنفسهم، لاحظوا حملة الافتراءات ضد الحكومات العراقية المتعاقبة منذ سقوط حكم البعث الفاشي الصدامي وإلى الآن، بذريعة محاربة الفساد، حيث لم يتركوا أي صفة ذميمة إلا وألصقوها بهم ودون استثناء، وكأن الشعب العراقي أصابه العقم، لا ينجب إلا الفاسدين واللصوص.
وراح هؤلاء ينبشون في بطون كتب التراث عسى أن يعثروا على أية حكاية أو حادثة تاريخية تفيدهم في هذا الخصوص، ليجيِّروها في تسقيط وتسفيه وتخوين وتحقير رجال حكومات ما بعد صدام. إضافة إلى ما تتفتق به قرائحهم من إبداعات في تأليف هذا النوع من الحكايات (fables) ذات مغزى مؤثر، لاستدرار عطف القارئ وثقته، وكسبه وتضليله بشكل غير مباشر. والمؤسف أنهم حققوا نجاحاً كبيراً في هذا المجال، ومهما كان القارئ مثقفاً وأكاديمياً المفترض به إعمال عقله ليميز بين المعقول واللامعقول. ولكن للأسف ما أن تصلهم إحدى هذه الحكايات ذات المضامين والأغراض الخبيثة كالسم بالعسل، حتى ويتسابقون في تعميمها، ونشرها على نطاق واسع دون أن يدركوا أنهم يقدمون خدمة كبيرة وبالمجان لأعدائهم البعثيين، وأشباههم من أعداء العراق وأعداء الديمقراطية الوليدة. 
 
انتقدني أحد البعثيين قائلاً بأنني ألقي كل مشاكل العراق على البعثيين! نعم، أنا ألقي كل الدمار الذي لحق بالعراق بالبعثيين منذ إنقلابهم الدموي الأسود يوم 8 شباط 1963 وإلى الآن. فالبعث خلال حكمه الجائر لأربعة عقود تقريباً، بذل كل جهوده، وسخر كل موارد الدولة الهائلة، واستدان عليها مئات المليارات الدولارات، بددها في عسكرة المجتمع، والحروب العبثية، الداخلية والخارجية، وأرسل ألوف البعثات من مرتزقته الانتهازيين للخارج، للدراسة في مختلف العلوم الاجتماعية والنفسية والاعلامية، للسيطرة على الشعب وتشكيل شخصيته وفق أيديولوجيته العنصرية الطائفية، وتوجيهه الوجهة المنحرفة التي يريدها الحزب الحاكم الذي كان شعاره، وكما ذكر حنا بطاطو: (إلما يمشي على سكتنا خلي يكعد ويَّ مرته)، أي أن كل من لا يسير على نهجنا فلينعزل ويجلس مع زوجته في بيته. وبهذه الكفاءات المضلِّلة نجح حزب البعث في الهيمنة شبه الكاملة على الشعب العراقي، وإعادته إلى البداوة وتدمير الفكر والأخلاق، والوطنية، وملأَ العراق بالمقابر الجماعية لمعارضيه مما أدى إلى تشريد الملايين إلى مختلف القارات، وأغلبهم من اصحاب الكفاءات كان ممكن توظيفها لخدمة الشعب وتطويره، ولكن شاء البعث أن يحقق أغراضه المدمرة. ولا أدري بعد كل هذا الدمار بأي وجه يريد هؤلاء أن يدافعوا عن البعث الفاشي. حقاً ما قاله المثل العراقي: (الدجاجة تموت وعينها على المزبلة).
 
التراث العربي الإسلامي حافل بأحداث يمكن لأي مطلع عليه أن يغترف منها ما يشاء ويوظفها ضد خصومه. فعندما أقنع الأمريكان والسعوديون صدام حسين بشن حرب على الثورة الإيرانية الإسلامية، استخدم صدام (حرب القادسية) بين العرب والفرس قبل 1400 سنة، وسمّى حربه العبثية على إيران بحرب(القادسية الثانية) ضد "الفرس المجوس" واستخدموا الشحن الطائفي لتهييج الجماهير.
 
كذلك بين حين وآخر تصلنا عبر الإيميل، ومواقع التواصل الاجتماعي نماذج من استخدام التراث للتسقيط السياسي، وعلى سبيل المثال نقرأ هذه الأيام حكاية تراثية بعنوان: (دريد بن الصمة ادرك هذا الخلل قبل 1400 سنة .. ونحن لم ندرك الامر بعد)، بقلم المدعو (عدي الكفاري)، وهو بالتأكيد اسم مستعار. والغرض منها كما يذكر الكاتب في النهاية، تحريض العراقيين ضد رجال السلطة فيقول: (لا احد يقنعني ان فلان وفلان الذي تسكن اسرته لندن منذ سنوات وهو الآن يحكم العراق، أو يحتل منصبا مهما في العراق ..سيدافع عنكم... الخ). أي أن الذين يحكمون العراق هم عراقيو الخارج، ولولاهم لما عرف العراق الفساد والإرهاب، وخلاصكم أيها العراقيون هو التخلص من هؤلاء "الأجانب"، وأن وأشرف عهد ذهبي عرفه العراق هو عهد حكم البعث الصدامي! 
 
والكل يعرف أنه لولا فرار هؤلاء العراقيين المعارضين لحكم البعث إلى الخارج لكان معظمهم هياكل عظمية في المقابر الجماعية. فعراقيو الخارج، وعلى الرغم من معاناتهم الشديدة في ظروف الغربة القاسية، هم الذين قاموا بتنظيم أكبر معارضة سياسية في العالم ضد أشرس سلطة ديكتاتورية همجية متوحشة. وبات من المؤكد أن هكذا سلطة (دولة المنظمة السرية)، و(جمهورية الخوف)، تعاملت مع شعبها بمنتهى القمع والقسوة، ما كان بالإمكان إسقاطها بجهود المعارضة الذاتية. لذلك كان دعم المجتمع الدولي بقيادة أمريكا ضرورياً ولا بد منه، ولولاه، ولولا عراقيو الخارج، لكان صدام وأبناؤه وعصاباته مازالوا ينشرون الدمار الشامل، والمقابر الجماعية، وتشريد ملايين آخرين من أبناء الشعب في الشتات. لذلك لا نغالي إذا قلنا أن الذين يحرضون ضد عراقيي الخارج هدفهم إفشال الديمقراطية، وهم من فلول البعث الساقط المتضررين من العهد الجديد.
 
مثال آخر على الذكاء المدمر، هو ما يكتبه الصحفي المخضرم عدنان حسين في صحيفة (المدى) من كتابات التحريض والتسقيط ضد عراق ما بعد صدام، وزرع اليأس في نفوس العراقيين. فعندما كان في لندن يكتب في صحيفة (الشرق الأوسط) السعودية،  كتب مرة مقالاً بعنوان: (من يرفع الصوت ضد مقتدى الصدر؟)، استحسنته في البداية لأنه كان ينتقد مقتدى الصدر الذي زعزعت مليشياته(جيش المهدي) أمن العراقيين، ولكن خاب أملي في النصف الثاني من نفس المقال حيث طالب فيه السعودية والكويت وبقية الدول الدائنة للعراق في عهد صدام، بعدم التنازل عن ديونها، وذلك عقاباً للشعب العراقي كي لا ينجب دكتاتوراً آخر مثل صدام، وكأن صدام جاء للحكم وشن حروبه العبثية بإرادة الشعب العراقي. تظاهر السيد عدنان حسين بالشجاعة في نقده مقتدى الصدر عندما كان مقيماً في لندن بعيداً عن مليشيات الصدر، ولكنه ما أن جاء إلى العراق وبدأ العمل في صحيفة المدى لصاحبها فخري كريم، أول عمل قام به هو زيارته لمقتدى الصدر وإعلان التوبة وتقديم الولاء له، والتهجم على خصومه. وقد بلغ هذا الولاء حداً أنه قبل أيام عندما حصل انفجار في حسينية في مدينة الصدر (الثورة)، التي استخدمها أتباع الصدر كمخزن للأسلحة والذخيرة، فبدلاً من توجيه النقد لمقتدى الصدر وفضح المجرمين الحقيقيين، صبَّ عدنان حسين جام غضبه وهجومه على رئيس مجلس الوزراء السيد العبادي في مقال بعنوان: (ضحايا تفجير الحسينيّة برقبة العبادي)، بحجة أن رئيس الوزراء هو المسؤول دستورياً عن حماية الشعب، ودون أن يشير ولو تلميحاً إلى السيد مقتدى. نعم (من يرفع الصوت ضد مقتدى الصدر؟). كان عدنان حسين ناقداً لمقتدى عندما كان في لندن، وسكت عنه عندما جاء إلى العراق، وهذه ليست شجاعة يا سيد عدنان، ففي النظام الديمقراطي بإمكان أي إنسان نقد الحكومة، ولكن أتحداك لو توجه أبسط نقد إلى المسؤول الحقيقي عن هذا الانفجار الإجرامي الرهيب. 
كذلك شبَّ يوم أمس (10/6) حريق التهم 3 مخازن تحوي صناديق مفوضية الانتخابات في الرصافة/ بغداد(2 و 3))، ولا شك أن هذا الحريق متعمد قام به الذين تسببوا في تزوير نتائج الانتخابات ليخفوا معالم جريمتهم، ولا شك أيضاً أنهم من أعضاء المفوضية "المستقلة". وفي هذه الحالة لا نستبعد أن يطلع علينا عدنان حسين بمقال آخر ليحمِّل الدكتور العبادي بهذه الجريمة. فعدنان حسين هذا هو الآخر يقدم نموذجاً واضحاً للذكاء العراقي المدمر. 
 
كما و يتفنن هؤلاء الكتاب "الأذكياء" جداً في التلاعب بالألفاظ لجعل الجميل قبيحاً والقبيح جميلاً، وعلى سبيل المثال هناك كاتب يستخدم اسم ثلاثي شيعي ليؤكد انتماءه المذهبي، ويطرح نفسه كمدافع عنيد عن حقوق الشيعة، ولكنه في الحقيقة ينفث السم الزعاف ضد الشيعة، وهو غزير الانتاج، ينشر بمعدل مقالة أو مقالتين يومياً، يدعو فيها إلى استقلال الشيعة في دولة خاصة بهم، تمتد من بغداد إلى الفاو، ويتهجم بشدة على أهل السنة، وإيران وأعداء البعث. ومن أقواله أنه لا يجب اقتلاع البعث فقط، بل اقتلاع أعداء البعث أيضاً. والملاحظ أنه يدافع دفاعاً محموماً عن الوهابية ودولتها السعودية. وكان من غلاة دعاة عدم المشاركة في الانتخابات البرلمانية العراقية، وقال بهذا الخصوص (المقاطعون يمثلون ثورة فعلا (ثورة الاصابع البيضاء).. بعدم تلطيخ ايديهم بنكاسة الحبر البنفسجي..) (كذا). هذا هو الذكاء المدمر.
 
نموذج آخر من الذكاء المدمر، هو موقف السيد نوري المالكي في الانتخابات الأخيرة، حيث قام بشق كتلة دولة القانون لغايات شخصية وحباً للزعامة. كان على السيد المالكي أن لا يقف ضد العبادي إطلاقاً، وأن لا يشق حزب الدعوة وكتلة دولة القانون إلى قائمتين متنافستين، بل كان عليه أن يدعمه ويكون عوناً له، فلو كان قد فعل ذلك لكسب المالكي حب واحترام الجميع، ولكنه بإصراره على شق دولة القانون خسر الجميع. علماً أن العبادي هو رئيس المكتب السياسي لحزب الدعوة والمالكي أمينه العام. 
 
ومن نتائج هذا الذكاء المدمر لم نجد أي شعب منقسم على نفسه كالشعب العراقي. فقد أفادت الأرقام التي أعلنتها مفوضية الانتخابات المستقلة أن 320 حزباً سياسياً وائتلافاً وقائمةً انتخابية شاركت في انتخابات 2018. لا شك أن هذا العدد يعكس مدى الانقسام الذي ساهم في تبديد الأصوات، وزعزعة ثقة المواطن العراقي بالديمقراطية، والعملية السياسية برمتها. يكاد العراق هو البلد الوحيد في العالم ينفرد بهذا العدد الكبير من الكيانات السياسية. والسبب هو أن كل سياسي يريد هو أن يكون رئيساً، وهذا ليس بالأمر الجديد، إذ كما قال عنهم الشيخ علي الشرقي في وصفه تهالك العراقيين على القيادة والزعامة منذ العهد الملكي: قومي رؤوس كلهم .....أرأيت مزرعة البصل.
 
أنا لا أريد هنا الدفاع عن السلطة، أو أدعو إلى عدم نقدها في حالة ارتكابها أخطاءً، أو خيانة بحق الشعب، ولكنني ضد حملات التسقيط والتحريض وتلفيق الأخبار الكاذبة ضد المسؤولين. فالعراقي لا يحتاج إلى تحريض، لأنه محرض ضد السلطة مع الرضاعة، ومعاداة السلطة جزءٌ من الموروث الاجتماعي العراقي، ولكن الإمعان في التحريض من أجل التسقيط يؤدي إلى حرق الأخضر بسعر اليابس، و إضعاف مؤسسات الدولة، و إسقاطها بدون بديل مناسب، وبالتالي إغراق البلاد والعباد في فوضى عارمة لا يستفيد منها إلا أعداء الشعب. ففي النظام الديمقراطي ليس هناك أسهل على الكتاب، وخاصة المقيمين منهم في الخارج، أن ينتقدوا الحكومة، ولكن المبالغة في حملة تسقيط المسؤولين، وتلفيق الأخبار الكاذبة، وركوب موجة التملق للجماهير، وتضليلها، هي شعبوية رخيصة ومقرفة، لها مردودات معكوسة وكارثية على الجميع. فالعراق يعاني من الانقسامات وتشتت قواه السياسية، بأمس الحاجة إلى تهدئة الوضع وإطفاء الحرائق، و وحدة الصف. فالوضع يتطلب سلطة مستقرة وقوية لتتمكن من فرض سلطة القانون. لأن بدون سلطة القانون يعني العودة إلى شريعة الغاب، وعندها نقرأ على العراق السلام. 
ــــــــــــــــــــــــ
روابط ذات صلة
1- إبراهيم الحيدري  هل العراقيون أهل شقاق ونفاق؟!    
 
2- حريق يلتهم 3 مخازن تحوي صناديق مفوضية الانتخابات في الرصافة
 
3- رئيس وزراء العراق يتحدث عن مؤامرة تهدد البلاد
 
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
حمل تطبيق الأقباط متحدون علي أندرويد