ميشيل حنا الحاج
تراجع صندوق النقد الدولي عن مطالبته الأردن باجراءات ضريبية فورية قبل الموافقة على منحه قرضا صغيرا قيمته مجرد بضع ملايين من الدولارات، وليس مليارات منها، يرجح بأن تضامن الشعب الجائع في شريحة واسعة منه، مع العرش المهدد أيضا ويواجه ضغوطات كثيرة من الولايات المتحدة ودول الجوار ، اضافة الى الرغبة في تجنب وقوع نزاعات…خلافات…أو حتى اشتباكات دموية بين الأمن والمتظاهرين… فهذا كله وغيره مجتمعين، قد شكل رسالة هامة للصندوق، مفادها أن ما عول عليه الصندوق، ومن هم وراء الصندوق في البيت الأبيض .. ومفاده الضغط على العاهل الأردني لاجباره على التجاوب مع متطلبات البيت الأبيض وبعض دول الخليج التي تقاتل في اليمن ، اضافة الى ضرورة التجاوب مع المطالب الأميركية والاسرائيلية وخاصة ما تعلق منها بصفقة القرن وضرورة التخلي عن رعاية الهاشميين للمقدسات في القدس الشريف. فهذه التوقعات لم يتحقق أي منها، بل جاءت النتائج عكسية نتيجة ابداء العاهل الأردني تعاطفه مع الشعب ومع مطالبه العادلة عوضا عن قمعه، مما وضع بعض الحقائق غير المتوقعة في دائرة الضوء، مستدعيا التوقف والتأمل والتفكير لبعض الوقت، لا التفكير من جانب الأردن فحسب، بل من جانب صندوق النقد الدولي ومن يقف وراءه أيضا.
وكانت المفاجأة عندما تحركت أيضا وبسرعة غير متوقعة، قيادة دول الخليج ممثلة بالدولتين الأكثر قوة وأكبر حجما وهما السعودية والامارات. غير مكتفيتين بتحركهما، طالبت الدولتان الكويت بمشاركتهما في قمة تعقد على عجل في مكة، في رحاب الكعبة المقدسة، وخلال شهر رمضان المبارك، لتدارس كيفية مساعدة الأردن، المدعو أيضا للمشاركة في تلك القمة، للتغلب على ما يعاني من أزمات اقتصادية ومالية وغيرها. فالآذان الخليجية التي لم تكن صاغية للاستغاثات الأردنية، باتت الآن مصغية باهتمام… ليس في مكة والرياض فحسب، بل في صندوق النقد الدولي وفي البيت الأبيض أيضا، بل وحتى في الاتحاد الأوروبي الذي عجل بارسال “موغريني” وزيرة خارجيته، للاطلاع على مشاكل الأردن وأسباب شكواه ومعاناته.
وبطبيعة الحال لم يرشح بعد ماذا تنوي الدول الخليجية ان تقدم للاردن لانقاذه من محنتته، وهل ستقدمه كهبة مالية أم كقرض بفائدة (على طريقة صندوق النقد الدولي)، مما قد يعتبر نوعا من الربا المحرم في الدين الاسلامي، أم سيكون قرضا مجانيا، بل وربما هبات مالية ولكن خاضعة لشروط (من قبل السعودية والامارات على الأقل)، وهي الشروط المطلوبة منه دائما والتي طالما رفضها الأردن، ومنها المشاركة مشاركة اكبر في حرب اليمن، وممارسة ضغوط اكثر على سوريا، والتراخي في مسألة القدس، بل وفك ارتباط الاردن بالمسالة الفلسطينية وترك قضية التعامل معها للدولة الخليجية الأكبر وهي السعودية، وهو تعامل على نطاق مفهوم “كشنري” المتحالف مع نتانياهو، والمنتمي بشكل شبه فعلي لحزب الليكود وتوجهاته التي قد تقرر في يوم قادم استعادة الكعبة من السعودية ( تعزيزا لرغبتها في استرداد الهيمنة على ما يعتبرونه موقع هيكل سليمان). فمن بنى الكعبة هو ابراهيم (أحد جدود سليمان)، ومن حماها من غزوة “ابرهة الحبشي” في عام الفيل، عام مولد الرسول (ص)، هو رب ابراهيم، كما قال الشيخ الجليل عبد المطلب، جد الرسول العظيم.
ولكن تطلع السعودية لمركز القيادة في المنطقة ولو على حساب القضية الفلسطينية، بل وعبر اشعال حرب غير ضرورية مع ايران، وربما لاحقا مع تركيا أيضا التي تتطلع بدورها لمركز القيادة واستعادة امجاد العثمانيين الذي انقضى ، وساهم العرب ولو نسبيا (وانطلاقا من الحجاز) في المساعدة على انقضائه….هذا الطموح السعودي المغالى فيه استنادا لوجود الثروة النفطية في المملكة، والذي يتم بالدرجة الاولى على حساب مصر، الدولة العربية الاكبر، بات ضارا للعالم العربي رغم أهميته بالنسبة للسعودية ولمن يجلس في مقعد قيادتها.
ولم تعرف بعد بوضوح الاسباب الكامنة وراء هرولة صندوق النقد الدولي ومن ورائه دول الخليج وربما الولايات المتحدة، الى التراخي فجأة في ضغوطها على الأردن. فهل كان السبب تلميحات العاهل الاردني بأن الأردن على مفترق طرق، مع تهديد مبطن بتغيير تحالفاته في المنطقة، مما يشمل احتمال التحالف مع ايران وقطر وروسيا، أم كان الخوف من حصول بعض الفوضى التي قد تساعد على تسلل عناصر داعشية للأردن، لا بل الى اندفاع بعض شباب الاردن المعانين من الأحوال المادية المتدهورة ، والمتحمسين لبلادهم… للتطوع لتنفيذ عمليات عسكرية فدائية ضد اسرائيل عبر الحدود الاردنية الطويلة، وخصوصا اذا ما تبدلت فعلا التحالفات الأردنية، ووصلت بعض الأسلحة من الحلفاء الجدد الى أولئك الشباب ….فشجعتهم لتنفيذ بعضا من هذه العمليات العسكرية ضد اسرائيل عبر الحدود الاردنية الطويلة ، مما قد يفتح في نهاية الامر جبهة ثانية على اسرائيل غير جبهة غزة المشتعلة بين الفىينة والأخرى.
فالخوف الأشد اذا ما استمرت الضغوط على الأردن، أن هذه الانتفاضة التي مرت الآن بسلام، قد تتكرر ولكن في هذه المرة، مقترنة بالعنف الشديد الذي قد ينتقل لهيبه الى دول الجوار عاجلا أو آجلا. ومن هنا يبدو تدريجيا، أن الأردن وبالذات الشعب الأردني الذي يتجه بسرعة نحو الجوع ومرحلة الفقر والعازة ان لم يكن قد بلغها فعلا، يملك الكثير من الأوراق التي بوسعه الرد بها على خانقيه ومضطهديه. لكن الورقة الأهم والأقوى، والتي قد تكون الورقة الأخيرة والأقوى بيده،، خصوصا اذا نفذ صبر الأردن والأردنيين، قد تكون ورقة الغاء اتفاقية وادي عربة على أساس أنها بنيت على باطل، وما بني على باطل فهو باطل.
ذلك أن اجراءات فك الارتباط بين الأردن والضفة الغربية، الجناح الثاني للمملكة، والذي أعلنه العاهل الأردني الراحل الملك حسين في 28 تموز (يوليو) 1988 ، لم تستكمل اجراءاته حسب مقتضيات القانون والدستور. اذ اكتفى الملك الراحل بتلاوة البيان، دون أن يعرضه لاحقا على البرلمان الاتحادي الذي يضم نوابا من الضفتين، ليحصل على موافقته على قرار فك الارتباط هذا. بل قام الملك الراحل وبعد يومين من اصدار ذاك البيان، بحل البرلمان الاتحادي دون أن يطلب منه مناقشة أو اعلان موافقته أو عدم موافقته على فك الارتباط بين جناحي الدولة الهاشمية. وهذا يعني وجود قصور واضح في الاجراءات القانونية والدستورية لخطوة جوهرية وهامة كهذه حسب المقتضيات المعروفة في كل الدساتير في العالم.
وهذا يعني بوضوح، أنه طالما كانت اجراءات فك الارتباط لم تكتمل، فان فك ارتباط فعلي لم يتحقق بعد لأنه كان باطلا وقاصرا في الاجراءات على أرض الواقع. وبما أنه ما بني على باطل فهو باطل أيضا، مما يعني بطلان اتفاقية وادي عربة، بل واتفاق أوسلو أيضا، اللذين بنيا على أساس وجود فك ارتباط هو قانونيا ودستوريا بحكم المعدوم.
ولكن استخدام هذه الورقة الأخيرة، قد لا يكون ضروريا أو مستعجلا ، كما أـنه ينبغي استخدامها كورقة أخيرة وبالتنسيق والتفاهم مع الفلسطينيين والسلطة الوطنية الفلسطينية، لتأكيد حسن النوايا تجاه القضية الفلسطينية، بكونها نوايا طيبة همها التفاوض لاسترداد كل الاراضي المحتلة منذ 1967 ، وليس استرداد مجرد اجزاء منها، ومن بينها كامل القدس الشرقية التي كانت العاصمة الثانية للمملكة الأردنية، وكان العاهل الأردني ولم يزل هو حامي مقدساتها.
فهذه فقد تكون اذن هي الورقة الأخيرة، التي ليس بوسعها خلق عاصفة تخلط الأوراق كلها، بل يمكنها ايضا أن تحداث تسونامي في وجه صفقة القرن التي أسرعت اميركا واسرائيل بتنفيذها من طرف واحد باعلانها القدس عاصمة لاسرائيل، وهي تدرك أن القدس الشرقية الفلسطينية، هي دستوريا العاصمة الثانية للأردن، والعاهل الهاشمي هو راعي مقدساتها، لا نتانياهو وربما كوشنر بعده أو وراءه.
أما نتائج مؤتمر القمة المنعقد حاليا في مكة المكرمة، فان نتائجه قد لا تعرف قبل مضي مزيد من الساعات، بل وربما مرور بضعة أيام لترشح أخيرا تفاصيله. فدعونا اذن ننتظر مع التفاؤل خيرا، لعل وعسى لا يعود الأردن مضطرا لأن يستخدم ايا من هذه الأوراق…مع أنني أستبعد أن يحقق مؤتمر مكة المكرمة كل احتياجات الأردن، رغبة من بعض الدول في ابقائه داخل الدائرة القابلة لممارسة الضغوط عليه طالما بقيت حاجتها لذلك قائمة، وبقيت حرب اليمن قائمة، والحاجة الحرب مع ايران، احتمالا لم يخفت وقد لا يخفت في وقت قريب.
باحث – اعلامي – كاتب ومحلل سياسي