الدراما والجمال يحولان كأس العالم إلى فن
رياضة | إيلاف
السبت ١٦ يونيو ٢٠١٨
سحر المراوغة والضربات الجريئة والتمريرات الصعبة
كان بيليه في التاسعة من العمر حين رأى والده يبكي لأول مرة. كان ذلك في عام 1950 حين هُزمت البرازيل أمام الاورغواي في المباراة النهائية على ملعب ريو. فوعد الطفل والده بالثأر من الهزيمة ونفذ وعده حين التقى الفريقان عام 1970 وسجل بيليه هدف الفوز بعدما كانا متعادلين بهدف لكل منهما.
بطولة العالم بكرة القدم، بإحباطاتها وما تثيره من إحساس بالتواصل العالمي، دين عالمي من نوع ما.
وهي شكل من أشكال الدبلوماسية الناعمة ومتنفَّس مأمون للمشاعر القومية. وبالنسبة لكثير من المشجعين كعكة تُقدم كل أربع سنوات مع ما تستحضره كل بطولة من ذكريات عن البطولة التي سبقتها، عن اصدقاء مفقودين كانوا يشاهدون المباريات معنا وعن ذواتها السابقة. وتكون اللعبة نفسها مملة في بعض الأحيان وفناً في أحيان أخرى.
1 كما في الأدب والفن فانه نادراً ما اصطدمت الصفات الخبيثة والصفات النبيلة في شخصية روائية مثلما اصطدمت خلال بطولة العالم بكرة القدم عام 1986 عندما سطع نجم دييغو مارادونا في مباراة واحدة.
وهي لم تكن مباراة مثل أي مباراة أخرى.
ففي عام 1982 هُزمت الارجنتين امام بريطانيا في حرب الفولكلاند. وبعد أربع سنوات تقابل فريقا الارجنتين وانكلترا في الربع نهائي في المكسيك. وقال مارادونا كابتن الفريق لاحقاً "كنا ندافع عن عَلَمنا، عن الشبان القتلى والناجين".
وفي غضون اربع دقائق سجل مارادونا أكثر الأهداف اثارة للجدل وأجملها في تاريخ اللعبة. الأول حين أدخل الكرة في شباك الفريق الانكليزي بيده وقال لاحقا انها "يد الله". والثاني عندما رقص حول اللاعبين الانكليز من منتصف الساحة حتى الركلة التي سجلت الهدف. وشهدت حياة مارادونا حالات مد وجزر لكنه قال ان "لا أحد في أي مكان سوف ينسى هذين الهدفين".
2 العظمة في الرياضة، كما في الفن، كثيراً ما تأتي ثمرة مجهود مضني غير مرئي. لكنها احياناً تأتي نتيجة إلهام خالص، "ومضة في الدماغ"، كما وصف اللاعب الهولندي الراحل يوهان كرويف ما شعر به في بطولة كأس العالم عام 1974 في المانيا.
كان كرويف ساحراً في المراوغة والضربات الجريئة والتمريرات الصعبة. لكنه اشتهر باستدارته المفاجأة في مباراة امام السويد حتى انه بدا للحظة وكأنه يركض في اتجاهين في آن واحد.
كثير من اللاعبين في كل مكان حاولوا تقليد "استدارة كرويف" التي قارنتها مجلة الايكونومست بسماع المستحيل تغنيه ماريا كالاس في اوبرا عائدة أو حركة المغني مايكل جاكسون الشهيرة في رقصة "مشية القمر".
وعندما رحل كرويف كان من أفضل ما قيل في رثائه كلام المدافع السويدي يان لوسن الذي خدعه كرويف باستدارته قائلا "عشقت كل شيء له علاقة بتلك اللحظة وأنا فخور بأني كنتُ هناك".
3 في عام 2009 اقام الفنان مارك والينغر معرضاً موضوعه الحدود والشكوك بعنوان "مراقب الخط الروسي". وفي الحقيقة ان مراقب الخط المقصود لم يكن روسياً. كان اسمه توفيف بهراموف من اذربيجان.
وكان بهراموف مراقب الخط في المباراة النهائية على كأس العالم بين انكلترا والمانيا الغربية عام 1966. وحين كان الفريقان متعادلين في وقت التمديد سدد المهاجم الانكليزي جيف هيرست ضربة ارتطمت بالعارضة ثم على الأرض وراء خط الهدف أو ربما لم تعبر خط الهدف.
وقال اللاعبون الالمان انهم رأوا غبارا طباشيرياً يشير الى ان الكرة ضربت الخط ويجب ألا يُحسب الهدف. فهرول الحكم نحو بهراموف لاستشارته وكان رد مراقب الخط بهز رأسه مؤكداً ان الكرة ضربت الأرض وراء خط الهدف. وفازت انكلترا في المباراة بأربعة اهداف مقابل هدفين ومعها بكأس العالم.
4 كانت المباراة النهائية لكأس العالم 2006 في برلين آخر مباراة لعبها زين الدين زيدان. وكان زيدان فاز بالبطولة مع فرنسا عام 1998. وبعد ذلك أصبح أكثر من لاعب كرة. ففي بلد شهد صعود اليمين المتطرف ممثلا بالجبهة الوطنية وزعيمها جان ماري لوبان كان زيدان إبن المهاجر الجزائري وجه فرنسا الآخر المتسامح والمتنوع. وهتفت حشود في باريس مطالبة بانتخاب زيدان رئيساً.
لكن زيدان تحول الى بطل مأساوي عندما كانت المباراة النهائية بين فرنسا وايطاليا سائرة الى ركلات الترجيح. وقبل عشر دقائق من نهاية الوقت المحدد قال مدافع ايطالي شيئاً ما لزيدان، عن والدته، كما أكد زيدان لاحقاً، ولكن فقط عن شقيقته بحسب المدافع الايطالي. فرد زيدان بنطح اللاعب الايطالي في صدره. أُعطي زيدان البطاقة الحمراء وهُزمت فرنسا في ركلات الترجيح. وكانت هذه النهاية مأساة من الطراز اليوناني بامتياز.
5 بحسب عالم الجمال الياباني وابي سابي فان الجمال ليس كاملا بل معيب وناقص. واعرب ليونارد كوهين عن الفكرة نفسها قائلا انسوا الكمال فهناك شرخ في كل شيء ومنه يدخل الضوء.
وهذا ما فعله بيليه دون وعي بفوزه على حارس المرمى الارغوائي في الوصول الى الكرة قبله. لكنه لم يلمس الكرة بقدمه كما كان يتوقع حارس المرمى بل تركها والتف حول حارس المرمى للحاق بها. غير ان بيليه أخطأ الهدف الذي كان مفتوحاً أمامه. مع ذلك فازت البرازيل وسجل بيليه هدفاً في المباراة. وقال بيليه لاحقاً ان احلاماً راودته عن تلك اللحظة التي كان يجب ان يركل فيها الكرة قبل الالتفاف على حارس المرمى ولكان تسجيل هدف أجمل بكثير من تفويت الفرصة.
لعل بيليه أعظم فنان كروي في تاريخ اللعبة ولكنه مخطئ في ما قاله. فان الغلطة في التحفة الفنية هي ما يجلعها انسانية.