الأقباط متحدون - بيريسترويكا كنسية (6) - معضلة الأحوال الشخصية: زنى الجسد أم زنى الروح؟
  • ١٨:٠٩
  • الخميس , ٢١ يونيو ٢٠١٨
English version

بيريسترويكا كنسية (6) - معضلة الأحوال الشخصية: زنى الجسد أم زنى الروح؟

ماهر عزيز بدروس

مساحة رأي

١٨: ٠٦ م +02:00 EET

الخميس ٢١ يونيو ٢٠١٨

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية

ماهر عزيز بدروس
    تعقدت الأحوال الشخصية للمسيحيين بالكنيسة القبطية الأرثوذكسية على نحو بالغ من جراء الفهم الحرفى والتفسيرات السطحية لكلمات السيد المسيح الخالدة فى رسالته الأسمى على الجبل للبشرية المعذبة كلها..

    قال يسوع: "وَقِيلَ: مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَلْيُعْطِهَا كِتَابَ طَلاَق. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ إلاَّ لِعِلَّةِ الزِّنَى يَجْعَلُهَا تَزْنِي، وَمَنْ يَتَزَوَّجُ مُطَلَّقَةً فَإِنَّهُ يَزْنِي" (مت 5 : 31 و 32).

    فما هو الزنى إذن؟

    ما هو الزنى الذى حَذّرَ منه يسوع؟

    ما هو الزنى الذى قصده بعدما لفت انتباه الجموع على نحو خطير غير مسبوق إلى ما أسماه هو ذاته –جل جلاله- زنى القلب؟

    قال للجموع: " قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَزْنِ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى امْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا، فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ"(مت 5 : 27 و 28).. فإذا به يستقطب الأفهام والعقول والإدراك كله إلى جوهر الزنى المقصود.. أبعد كثيراً من مجرد "ذات الفعل".. بلوغاً إلى "ذات الجوهر".. فما هو هذا "الجوهر" إذن؟

    يورد المعجم الوجيز لمجمع اللغة العربية معنى الزنى على النحو التالى:
    (زَنَى) – زٍنَى، وزَنَاءٌ: أتى المرأة من غير عقد شرعى.

    فيحصر معنى الزنى فى الفعل الجسدى وحده حال غير مشروعيته.. ومشروعيته يحصرها فقط فى عقد شرعى!!

    لكنه يورد فى باب آخر تعريف الخيانة فيقول:
    (خان) الشئ – خَوناً ، وخيانة
    وخان الأمانة: لم يؤدها
    وخان فلاناً: غدر به . فهو خائن

    فهل ثمة ما يربط "الزنى" بـ "الخيانة"؟

    وهل تكون الخيانة هى المرادف الأشمل والأوسع للزنى؟

    لم يورد المعجم الوجيز المعنى المرادف للزنى، بل أورد الفعل المراد بالزنى أى الاتحاد الجسدى بدون عقد شرعى..

    ونسأل: ألا يكون "بدون عقد" هو معنى مُجَسد للخيانة.. أى بدون استحقاق.. بغدر.. فهى الخيانة إذن؟

    لكن المعجم الوجيز، ومعه المعاجم كلها تقريباً، تفتقر إلى الاقتران الصريح بين "الزنى" و"الخيانة".. وذلك يحيلنا للبحث عن هذا الاقتران فى الكتاب المقدس ذاته.. الذى بَيِّن شريعة الطلاق فى المسيحية بوضوح شديد مستنداً فيها على الارتباط السببى الوثيق بين الزنى والطلاق.

    الحق إنه يبدو لنا أن المعنى العميق الذى قصده يسوع للزنى لم يكن مجرد انعدام الاستحقاق الجسدى على النحو المباشر للكلمة.. وإنما الخيانة بمعناها العميق الشامل.

    وذلك يحتاج بعض التأصيل الضرورى من الكتاب العظيم ذاته الذى شَرَّع للطلاق المسيحى.. الكتاب المقدس.

    فالزنى - فى جوهره - ليس فعلاً جسدياً غير مشروع دون عقد ودون ارتباط.. إنما هو خيانة روحية وغدر قلبى مكين.. وما الفعل الجسدى غير المشروع سوى فقط أحد تجلياته!!

    فلولا خيانة الروح ما انحل الجسد دون قيد..
    ولولا خيانة القلب ما انطرح الجسد دون عقد ودون ارتباط.

    الحق إن الزنا بمعنى الخيانة يتعمق على هذا النحو فى الكتاب المقدس فى مواضع شتى وكثيرة بما يجنبنا الجدل والشك، أو التردد والارتياب، أو الاختلاف والتباحث..

    فى أخبار "الأيام الأول" يتحدث عن بعض بنى إسرائيل فيقول: "وَخَانُوا إِلهَ آبَائِهِمْ وَزَنَوْا وَرَاءَ آلِهَةِ شُعُوبِ الأَرْضِ" (1 أى 5 : 25).. وهنا جاء الزنى مرادفاً للخيانة على نحو صريح.. كما جاءت الخيانة مطابقة للزنى بما يجعل الاثنين وجها عملة واحدة معاً، فيكون "الزنى وراء آلهة شعوب الأرض" هو "خيانة العهد" مع اللـه.. وتكون "خيانة العهد" هى ذاتها "الزنى وراء آلهة أخرى".. أى النكوص عن عبادة اللـه وعبادة آلهة أخرى وتلك هى خيانة العهد، وذلك هو الزنى.

    ويتأصل المعنى من "القضاة" فى قوله: " وَلِقُضَاتِهِمْ أَيْضًا لَمْ يَسْمَعُوا، بَلْ زَنَوْا وَرَاءَ آلِهَةٍ أُخْرَى وَسَجَدُوا لَهَا" (قض 2 : 17).. فكان السجود لآلهة أخرى غير اللـه هو نكوص عن العهد الذى يربطهم باللـه إلهاً وراعياً يعبدونه وحده مخلصين له الروح والقلب.. وهذا النكوص عن العهد هو ما عبّر عنه بالقول: "َزَنَوْا وَرَاءَ آلِهَةِ أُخْرَى" أى "أخلصوا العهد لآلهة أخرى على حساب خيانتهم لعهدهم مع اللـه".. وهذا الزنى هو عينه التعبير المكافئ للخيانة.. خيانة اللـه هى الزنى وراء آلهة أخرى.. والارتباط بآخر دون اللـه فى علاقة وثيقة هو "زنى" وهو "خيانة للعهد".. فالمعنى العميق "للزنى" هنا هو "خيانة العهد" لا مراء.

    والسجود لهذه الآلهة الأخرى هو "خيانة" للسجود الأوحد للـه.. ومن ثم فهو "الزنى" بالآلهة الأخرى.

    وفى "زَنَوْا وَرَاءَ آلِهَةٍ أُخْرَى وَسَجَدُوا لَهَا".. يأتى السجود نفسه هو فعل الزنى ذاته أى فعل
    الخيانة.. فالسجود لله هو خلوص العهد للـه والسجود لآلهة أخرى هو "زنى بالعهد" مع اللـه أى "خيانة للعهد" معه.. ويمضى أكثر مع المعنى فيقول: "حَادُوا سَرِيعًا عَنِ الطَّرِيقِ الَّتِي سَارَ بِهَا آبَاؤُهُمْ لِسَمْعِ وَصَايَا الرَّبِّ" (قض 2: 17).. فإذ "سجدوا لآلهة أخرى" و" حَادُوا سَرِيعًا عَنِ طَّرِيقِ آبَائهم" مع اللـه تتضح الخيانة جلية.. خيانتهم السجود للـه بالسجود لآلهة أخرى.. وخيانتهم للـه بالحيدان عن طريق الآباء مع اللـه.. وهى الخيانة التى وصمها فى البداية "بالزنى" إذ "زَنَوْا وَرَاءَ آلِهَةٍ أُخْرَى".

    أيضاً فى "سفر الرؤيا" يربط "الزنى" بالتحول إلى الأوثان.."أَنْ يَأْكُلُوا مَا ذُبِحَ لِلأَوْثَانِ، وَيَزْنُوا"
    (رؤ 2: 14).. أى يأكلوا ما ذبح للأوثان فى محفل التحول عن العهد مع اللـه إلى العهد مع الأوثان.. أى خيانة عهد اللـه والدخول فى عهد تذبح فيه الذبائح للوثن الذى تتم عبادته فى عملية زنى صريح.. أى خيانة جلية.. يتحولون بها إلى عهد الأوثان والسجود لها.

    وفى قول الرب الذى صار إلى هوشع: "لأَنَّ رُوحَ الزِّنَى قَدْ أَضَلَّهُمْ فَزَنَوْا مِنْ تَحْتِ إِلهِهِمْ"(هو 4: 12)، "لأَنَّ رُوحَ الزِّنَى فِي بَاطِنِهِمْ، وَهُمْ لاَ يَعْرِفُونَ الرَّبَّ"(هو 5: 4).. وكان ذلك يعنى على نحو صريح أن "روح الخيانة" فى جوفهم.. خيانة العهد مع اللـه.. فتحولوا عن اللـه ولم يعودوا يعرفوه لأن زناهم.. أى خيانتهم.. جعلتهم غرباء محتجبين عن معيته الجليلة..

    ويبلغ الذروة فى "حزقيال" الإصحاح السادس عشر الأشهر ليقطع بكل تعبير صريح أن الزنى المقصود ليس "زنى الجسد" بل "زنى الروح".. فيخاطب أورشليم (الأمة) كفتاة مزدولة منذ ولادتها غير مُشْفَق عليها من أحد: " طُرِحْتِ عَلَى وَجْهِ الْحَقْلِ بِكَرَاهَةِ نَفْسِها" (حز 16 : 5)، لكنه مَرَّ بها كعريس أرادها لنفسه.. وإذا به يغنى لها أهزوجته الخالدة على مسامع الزمان: "فَمَرَرْتُ بِكِ وَرَأَيْتُكِ مَدُوسَةً بِدَمِكِ... وَقَدْ كُنْتِ عُرْيَانَةً وَعَارِيَةً. فَمَرَرْتُ بِكِ وَرَأَيْتُكِ، وَإِذَا زَمَنُكِ زَمَنُ الْحُبِّ. فَبَسَطْتُ ذَيْلِي عَلَيْكِ وَسَتَرْتُ عَوْرَتَكِ، وَحَلَفْتُ لَكِ، وَدَخَلْتُ مَعَكِ فِي عَهْدٍ، يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ، فَصِرْتِ لِي. فَحَمَّمْتُكِ بِالْمَاءِ، وَغَسَلْتُ عَنْكِ دِمَاءَكِ، وَمَسَحْتُكِ بِالزَّيْتِ. وَأَلْبَسْتُكِ مُطَرَّزَةً... وَحَلَّيْتُكِ بِالْحُلِيِّ... وَوَضَعْتُ َتَاجَ جَمَال عَلَى رَأْسِكِ... وَجَمُلْتِ جِدًّا جِدًّاً فَصَلُحْتِ لِمَمْلَكَةٍ.. وَخَرَجَ لَكِ اسْمٌ فِي الأُمَمِ لِجَمَالِكِ"(حز 16 : 6 - 14)، ثم لما فَرَطَّت فى ذاتها وأهانت عهد جمالها معه إذا به يوجه لها محاكمة عظمى وحكماً رهيباً: "فَاتَّكَلْتِ عَلَى جَمَالِكِ (أى على طُهر عهدى معك)، وَزَنَيْتِ (أى وخنتنى) عَلَى اسْمِكِ، وَسَكَبْتِ زِنَاكِ (أى ودست عهد تكريسك لى وحدى) عَلَى كُلِّ عَابِرٍ فَكَانَ لَهُ.. وَأَخَذْتِ أَمْتِعَةَ زِينَتِكِ (أى طهارة عهدك) مِنْ ذَهَبِي وَمِنْ فِضَّتِي الَّتِي أَعْطَيْتُكِ (أى واستهترت بالكرامة التى لعهدى معك)، وَصَنَعْتِ لِنَفْسِكِ صُوَرَ ذُكُورٍ (أى أوثان آلهة) وَزَنَيْتِ بِهَا (أى وسجدت وتعبدت لها)"(حز 16: 15 - 17)... ثم يواصل إدانته لخيانتها فيسجل عليها: "فِي رَأْسِ كُلِّ طَرِيق بَنَيْتِ مُرْتَفَعَتَكِ (أى أقمت هياكل آلهة غيرى) وَرَجَّسْتِ جَمَالَكِ (أى لوثت عهدك)، وَزَنَيْتِ مَعَ جِيرَانِكِ بَنِي مِصْرَ الْغِلاَظِ اللَّحْمِ (أى وعبدت أوثان آلهة جيرانك المصريين وسجدت لهم)، وَزِدْتِ فِي زِنَاكِ لإِغَاظَتِي (أى وتماديت فى خيانتى بالسجود لهم أكثر وأكثر)"(حز 16 : 25 و 26).. .. هنا تبدو الأمثلة والأخيلة كلها والتشبيهات جميعها مطابقة لخيانة الروح للـه بالتحول عن عبادته إلى عبادة أوثان آلهة الأرض، وهى الخيانة التى أطلق عليها "زنى".. والمقصود هو "زنى الروح" لا "زنى الجسد" بالتأكيد.

    ويتأصل "الزنى" بمعنى الخيانة أكثر وأكثر فى "أرميا" إذ يؤكد: "لأَنَّهُ خِيَانَةً خَانَنِي بَيْتُ إِسْرَائِيلَ وَبَيْتُ يَهُوذَا، يَقُولُ الرَّبُّ"(أر 5 : 11)، ثم يضغط على المعنى ذاته أكثر فأكثر فيسأل: "كَيْفَ أَصْفَحُ لَكِ عَنْ هذِهِ؟ بَنُوكِ تَرَكُونِي (أى خانونى) وَحَلَفُوا بِمَا لَيْسَتْ آلِهَةً. وَلَمَّا أَشْبَعْتُهُمْ زَنَوْا (أى تحولوا عن خلوصهم القلبى والروحى لى لآخر)، وَفِي بَيْتِ زَانِيَةٍ (أى وفى هياكل الوثن) تَزَاحَمُوا. أَمَا أُعَاقِبُ عَلَى هذَا، يَقُولُ الرَّبُّ؟ أَوَ مَا تَنْتَقِمُ نَفْسِي مِنْ أُمَّةٍ كَهذِهِ؟"(أر 5 : 7 - 9).. وهو هنا لا يجد رداً لخيانة العهد والتحول لعبادة أوثان الأمم تعبيراً مرادفاً حقيقياً سوى أنهم "زنوا" وهذا الزنى أو تلك الخيانة تستوجب القطع من عهد النعمة و"البتر من الاستمرار تحت رعاية اللـه".. "الزنى" إذن هو "الخيانة".

    والآن إذا كانت "خيانة العهد" هى "زنى القلب".. والغدر بمواثيق الإخلاص للرباط المقدس باللـه.. فذلك هو عين المقصود باشتراط الزنى كواقعة انفكاك من عهد الزواج.. أى باشتراط حدوث الخيانة لعهد الارتباط الزيجى كسبب رئيسى لنقض رباط الزوجية والانحلال عنه.

    فالمعنى الجوهرى إذن لحكم الرب يسوع بأن "الطلاق إلا لعلة الزنى" هو ان الطلاق واجب، وباتّ، وحقيقى لعلة خيانة عهد الزواج، والارتداد عنه، أو النكوص عليه، أو الانفكاك منه.

    قال يسوع فى موعظة الجبل الشهيرة التى أرسى فيها المعانى الرفيعة للحياة المنتصرة للحق والخير والسمو والحرية.. قال مؤسساً لعلاقة ارتباط مقدسة بين الرجل والمرأة: "إن مَنْ طلَّق امرأته إلاَّ لعِلَّة الزنى يجعلها تزني"(مت 5 : 32).. إذن فالطلاق أمر وارد وممكن ومُشَرَّع من السماء متى توافرت الخيانة التى هى الزنى.. وهو بذلك شرعى ومطابق للإرادة الإلهية فى الاتجاهين معاً: رجلاً لامرأة وامرأة لرجل.. فمتى حدثت خيانة المرأة للرجل يكون الطلاق واجباً إن رغب ولم يشأ أن يغفر لها، أما إن طلقها وهى بريئة لم تقترف إثماً فهو يدفعها عندئذ دفعاً للزنى، خاصة إذا لم تكن تملك سنداً للعيش، أو تفتقر لوسيلة مأمونة إلى قوت يومها..

    وهذا مطابق تماماً إذا حدثت خيانة الرجل للمرأة.. فيكون الطلاق واجباً ومُشَرَّعاً من السماء إن رغبت ولم تستطع أن تغفر له.. أما إن طُلِّقَت منه وهو برئ لم يقترف إثماً فهى تدفعه لأن يرثى لنفسه بالخطية فيروغ ويزنى!!

    الإثنان متكافئان تماماً على هذا النحو..
    فالطلاق إذن ضد إرادة اللـه..

    لكن إرادة اللـه تستوجب حدوثه حال وقوع الخيانة: إما خيانة المرأة للرجل.. فيطلب طلاقها، وإما خيانة الرجل للمرأة.. فتطلب هى طلاقها منه.

    ثم زاد يسوع فأكمل شريعة الطلاق هكذا: "وَمَنْ يَتَزَوَّجُ مُطَلَّقَةً فَإِنَّهُ يَزْنِي"(مت 5 : 32).

    نعم.. يدفعها لكى تزنى إذا كانت مطلقة دون خيانة ودون ذنب جنته.. فإذا كانت مطلقة لأنها زنت فهى زانية ومن يتزوجها يزنى بها أيضاً، أما إذا كانت هى قد طلبت الطلاق لأن زوجها قد خان عهد زواجه معها.. أى زنى.. ولم تجد مناصاً إلا أن تتحرر من علاقة خيانته، فهى صحيحة وبريئة وطاهرة تماماً ومن حقها أن تتزوج رجلاً شريفاً دون أن يكون فى ارتباطها به أى شائبة أو أية خطية.

    امنحوا الطلاق إذن لكل زواج تم بإرادة ضد إرادة اللـه ولم يجمعه اللـه بل جمعته الإرادة البشرية..

    فالإرادة البشرية قد تكذب وقد تُدِّلس، وقد تخدع، فتكون "إرادة زانية".. نعم تكون "إرادة زانية" حتى لو أدت إلى زواج مسيحى بصلاة إكليل.. لكنها الصلاة التى تشوهت فى الأصل بالخديعة والخيانة فلا تربط رباطها من اللـه بل من إرادة بشرية.. وعندئذ لا يكون "الَّذِي جَمَعَهُ اللهُ لاَ يُفَرِّقُهُ إِنْسَانٌ" (لو 10: 9)، لأنه عندئذ لم يكن أصلاً مجمعاً من اللـه، ألم يقل: "وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يَعْتَنِي بِخَاصَّتِهِ، وَلاَ سِيَّمَا أَهْلُ بَيْتِهِ (أى زوجته)، فَقَدْ أَنْكَرَ الإِيمَانَ، وَهُوَ شَرٌّ مِنْ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ"(1 تيمو 5 : 8)، أفليس من أنكر الإيمان إذن قد خان عهد الإيمان وزنى بقلبه؟

    وأليس هذا الزنى مستوجب الطلاق؟

    نعم.. فالذى قصده الوحى الإلهى هنا ذلك الإهمال الجرائمى العمدى للزوجة، وسلبها الكرامة، وسحقها إلى أقل من العبد، وإنكار كل حق إنسانى عليها، والاحتيال فى معاملتها، والكذب بشأنها فى كل شئ..

    "فإن كان أحد لا يعتنى بزوجته" هو هنا اشتراط الوحى الإلهى لخيانة قلبية مكينة يتحول بمقتضاها الزوج الردىء عن الإخلاص المطلق لحق زوجته فى الكرامة والحياة الشريفة.. وليس مجرد "لا يعتنى" ببساطة كما يتصور البعض..

    امنحوا الطلاق إذن لكل زوجة كانت فريسة للخديعة والكذب والاحتيال لأن ذلك ليس "الَّذِي جَمَعَهُ اللـهُ" أبداً.. بل هو "زنى روحى" عتيد مبيت فى القلب وقد تمكن منه!!

    يختلف ذلك تماماً عن أحكام يسوع: "مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَتَزَوَّجَ بِأُخْرَى يَزْنِي عَلَيْهَا" (لو 10 : 11)، لأنه يُشَرِّع هنا لمن "طلقها دون ذنب ودون جريرة وافترى عليها".. فهو زان.. وقد زنى عليها.. وزنى بالأخرى أيضاً.. أما إذا كان قد طَلّقها لخيانة اقترفتها فذلك ما أمر به يسوع.. ويكون زواجه بالأخرى حلالاً مشروعاً.. وهكذا.. "وَإِنْ طَلَّقَتِ امْرَأَةٌ زَوْجَهَا وَتَزَوَّجَتْ بِآخَرَ تَزْنِي"(لو 10 : 12) إذا هى طلقته دون ذنب جناه ودون جريرة وافترت عليه.. فهى زانية.. وتزنى بالآخر.. أما إذا طلقته "لخيانة اقترفها".. فذلك ما أمر به يسوع.. ويكون زوجها الجديد حلالاً مشروعاً.

    جاءنى من استراليا وطرح أمامى حالة فاجعة تُقِّرب على نحو نموذجى أحكام يسوع..

    قال والدمع يتحجر فى مقلتيه:

    جاءته الوصية الأولى فى إكليل الزفاف بمسئولية أن "يتسلم زوجته فى تلك الساعة المباركة بنية خالصة ونفس طاهرة وقلب سليم".. لكنه خان عهدها وتسلمها بنية شريرة ونفس دنسة وقلب ملتو..

    كان قد غدر بها وبأهلها من قبل أن يبدأ.. أوحى إليهم بخديعة ماكرة أن لديه مشروعاً للهجرة يسعى من خلاله لبناء أسرة نموذجية.. لكنه بمجرد أن بلغ المهجر امتنع عن العمل دافعاً إياها لتتحمل المسئولية كلها.. ولما اجتهدت وتفوقت رغم سوء العذاب الذى كانت تتجرعه على يديه صباح مساء بمعاملة لا إنسانية هى الأسوأ.. راح يسقيها الكأس المترعة بالشتم الفادح والتحقير الدائم والعدوان البدنى الأليم.. كأنما ليخشى أن تفكر للحظة أنها هى التى تحمل المسئولية، وأنها لذلك ترى نفسها مستحقة للكرامة.. فقرر أن يسلبها إنسانيتها سلباً شاملاً..

    بلغ المهجر يعد بحلم قابل للتحقق.. فانتهى إلى حلم يقظة لا يفارقه يخدعه بأنه يسعى بينما هو قاعد عن العمل.. يدوسها بنعليه كل يوم بقلب متحجر رغم اجتهادها.

    وحين اضطر بعد شهور أن يعمل كسائق أتوبيس مؤقت، كان ذلك مناورة مكشوفة لفترة قصيرة، ليعود إلى حلم يقظته الذى يصور له أنه قد حقق كل شئ بينما هو يسلك كبلطجى أثيم لا وازع ولا ضمير له.. وشجعه أهله على ذلك تشجيعاً مروعاً.. حتى إنه فى إحدى المرات التى تَعَمَّد أن يقلب فيها أى فرحة مهما كانت ضئيلة إلى مأساة فاجعة.. وفى ممانعة غريبة لعدم شراء شجرة عيد ميلاد صغيرة عليها تخفيض أرادتها زوجته البعيدة عن أهلها ومعارفها.. والوحيدة بين جدرانها الأربعة.. لتخرج من وحشتها التى تستبد بها معزولة فى المهجر البعيد.. أسقطها تحت قدميه ضاغطاً على بطنها الحامل بنعل حذائه يضربها ويركلها بوحشية لا يقدر عليها أشرس الحيوانات.. فمزق صك الوصية الثانية وخان عهدها.. وبدل أن "يجتهد فيما يعود لصالحها".. اجتهد فيما يذلها ويقهرها ويعود عليها بالظلم والألم والتعذيب والعدوان المستديم!!

    ولم يهتز لأهله جفن ولم يحملوه البتَّة على معاملتها بالحسنى والحرص عليها.. بل شجعوه على ذلك ليظل فى قبضتهم مفصولاً تماماً عن زوجته.. لا يمت إليها بصلة سوى أنها "الخدامة" التى اشتراها بالثمن البخس كما تعوَّد أن يقول لها دائماً منذ أيام الزواج الأولى..

    ولزم منذ البدء مسئوليته عن أهله فقط دونها، مفصولاً عنها انفصالاً جوهرياً، وملتصقاً فقط بأهله.. مزدرياً قانون الوجود الذى أسسه خالق الوجود: "لِذلِكَ يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ وَيَكُونَانِ جَسَدًا وَاحِدًا"(مت 19 : 6)، فألصقته أمه بأخته حافظاً لها كرامة الزوجة، بينما انفصل هو عن زوجته داعياً إياها "الخدامة".. وراح يفتعل كل يوم عَرْكَة ليلقى بنفسه فى نهاية اليوم فى غرفة منفصلة لشهور متوالية.. لا يخرج منها إلا ليسومها سوء العذاب..

    فداس بنعليه الوصية الثالثة: "وتكون حنوناً عليها".. وخان عهدها ليلقى فى روعها كل يوم أنها ما جاءته إلا لتكون "خدامة" يسحقها بقدمه، وليس لها عنده سوى ذُلّ الخدامة وعبوديتها.. بلا رحمة ولا شفقة ولا حنان.

    وبدلاً من أن "يسرع إلى ما يسر قلبها" كما تدفعه الوصية الرابعة.. حطم الوصية كلها وخان عهدها فأسرع إلى كل ما يطعن قلبها بنصل نافذ رعديد.. بالشتم واللَّعْن والتحقير والضرب المُبَرِّح.. بل والسحب المتواتر المستهتر من ناتج جهدها وعرقها لأجل المعيشة بالكاد.. السحب المتواصل من حسابهما المشترك معاً ليلعب القمار فى الكازينو وهو يجالس الساقطات ويعود ليصنع ألف كذبة وكذبة لمداراة ما يفعل!!

    فانتهك الوصية الخامسة انتهاكاً مروعاً: "فأنت اليوم المسئول عنها من بعد والديها".. وخان المسئولية خيانة عظمى، وبدل أن يكون بحق اللـه حارسها الأمين.. صار بحق الشيطان مدمرها ومخرب سلامها ومحطم عائلتها ومستعبدها اللئيم..

    "خان العهد" فكسر وصايا الزواج الخمس فى حادثة "زنى روحى وقلبى" فادحة..

    وكانت الخيانة هى العنوان الأكبر الذى يؤرخ له منذ البداية..
    فارتدى قناعاً صفيقاً.. وأهله معه.. ليُحْكِم الخديعة..

    كان قد تقدم لخطتبها وقد حصل على مؤشرات وفيرة فى سبيل منحه الهجرة.. وبعد الخطوبة بشهر أورى بأنه سيسافر ليدرس فرص العمل.. لكى بمجرد الزواج ووصول الموافقة النهائية على الهجرة يكون قد صار مقتدراً على السفر والعمل الفورى.. فإذا به يسافر ليستوطن بيت أهله ويبتعد معظم وقت الخطوبة هناك.. كأنما لتظل مثالبه مجهولة بينما راح يستعجل هو وأهله خطيبته وأهلها فى الإجراءات لينزلوا جميعاً لإتمام الزواج والعودة!!

    هرب هروباً كبيراً من محك المعرفة الحقيقية به مستغلاً ثقة أهل خطيبته الذين لفرط براءتهم انطلت عليهم الخديعة دون تمحيص..

    بدأ الأمر بالخيانة.. واستمر بالخيانة.. وانتهى إلى منتهى الخيانة..

    ولقد أراد أبوها أن يبذل لأجله كل ما يستطيع ليساعده.. كانت الصورة المثالية لاثنين يبنيان حياتهما معاً تخلبه.. فمنحه كل العون والأبوة والمساندة من قلب طاهر بشدة.. وألقى بآلاف الدولارات بين يديه ليبدأ عملاً سريعاً بينما كان هو وأهله يغشون.. قَدَّمَ له كل ما يمكن أن يجعله يبدأ عملاً خاصاً لينمو رويداً رويداً.. وكان عليه أن يؤدى امتحاناً واحداً بسيطاً جداً للترخيص.. فدخل الامتحان خمس مرات ليرسب فيها جميعاً متبعاً سيناريو واحداً لا يتبدل.. فيضيع وقت الاستعداد دون مذاكرة.. وقبل الامتحان بيومين يفتعل مأساة رهيبة مع زوجته يسومها فيها سوء العذاب.. ليدخل الامتحان ويخرج بذريعة كبرى يبرر بها رسوبه أنها قد عكَّرت صفوه فلم يؤد أداءً ناجاً!!

    بل أكثر من ذلك:
    يُعَدَّ امتلاك بيت فى المهجر أكبر تحد للمهاجرين.. فضخ أبوها له مبلغاً ضخماً .. كل ما يملك .. ليحرز له البيت ويزيل من أمامه الضغوط ليتحفز بالاجتهاد.. فإذا به ينقلب على المسكينة الوحيدة المعزولة فى الغربة يشتمها بأبيها وأمها أبشع شتيمة، ويصرخ فى وجهها كل لحظة: "فلوس أبوكى ع الجزمة".. وينكل بها أكثر وأكثر.. لأن أبيها فقط أراد أن يحفزه للعمل والاجتهاد فقدم له كل رصيد عمره؟

    لكنه استخدم هذا الحافز سوطاً لاهباً بالابتزاز؟

    أما أهلها فبحق الإنجيل.. أمناء حتى الانتهاء.. محافظون على العهد.. يصلون لأجله ولأجل أهله صلوات تتزلزل لها السموات والأرض أملاً فى أن ينصلح حاله.. وهو لم ينصلح أبداً على مدى ست سنوات مضت حتى الآن!!

    لكنه على ما هو عليه سادر.. بل ويزداد فجوراً فى "خيانة العهد" "بزنى روحى" متأصل يوماً بعد يوم.

    فهل ننتظر أكثر من ذلك كى تُمْنَح المسكينة التى ابتليت به حق الانفصال الأبدى؟.. هل نقبع بالخذلان بينما "زنى الروح" يتأجج ويشتعل ليحرق فى طريقه كل الأربطة والأوشاج؟

    نعم.. "زنى الروح" و"خيانة العهد" التى صنعها هذا الآثم تحلها منه حلاً أبدياً.. لأن تلك هى إرادة اللـه الذى لم يضع أحكامه لتعاسة البشر بل جاء "لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ"(يو 10: 10).

    خان الوصايا كلها وداسها.. وداس عهد الزواج العظيم بنعليه مع سبق الإصرار والترصد.. خان عهد الزواج فزنى بروحه ونفسه وقلبه واجتهاده زنىً فاحشاً لا يدانيه أبداً أى زنى بالجسد.

    فإذا سألنا:

    زنى الروح أم زنى الجسد؟..

    بعد كل هذه الخيانة لعهد الزواج؟

    نُجِيب: قد يأتى زنى الجسد مرة أو يزيد.. فتأتى التوبة العميقة لتغسله غسلاً أبدياً وينال مغفرة يسوع الذى بارك الخاطئة لحثِّها على التوبة، وأطلقها بصوته الذى يتردد عبر الدهور: "اذهبى ولا تخطئى"... لكن خيانة عهد الزواج بزنى قلبى وروحى غائر لا يمكن أن تأتيه توبة أبداً على إصراره واستمراره وتماديه..

    نقض عهد الزواج هو الخيانة الكبرى.. وهو بالتالى جوهر المقصود بالزنى..

    هذه الخيانة الكبرى تنطوى على ظلم فادح نال حكماً إنجيلياً صريحاً قاطعاً: "أَمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الظَّالِمِينَ لاَ يَرِثُونَ مَلَكُوتَ اللهِ؟"(1 كو 6 : 9)..

    فإذا فسَّر أحد كلمات يسوع فى شريعة الطلاق بأنه قصد فقط "ذات الفعل" لن يوجد إذن من رَدٍّ سوى ما قاله إبراهيم أبو الآباء وهو يحاجج اللـه: " حَاشَا لَكَ. أَدَيَّانُ كُلِّ الأَرْضِ لاَ يَصْنَعُ عَدْلاً؟"(تك 18 : 25).

    ظالمون إذن فلا يرثون الملكوت..
    أليس بالأحرى أن يُطَلِّقُون لخيانتهم؟

    أخطر الزنى هو زنى القلب..

    وإذا لم يمكن فهم أقوال يسوع على نحوها الصحيح فالخسارة فاجعة!!

    فإذا زنت الروح فالجسد كله قد صار زانياً..

    بينما إذا زنى الجسد وحده والروح شاردة قد يستمطر رحمة اللـه مثلما أطلق يسوع المرأة التى أمسكت فى "ذات الفعل" بوعد قاطع ألا تعود..

    "خيانة العهد" إذن هى "الزنا الصريح"، ومنها يأتى كل زنى تال.. وأى زنى ممكن.

    وذلك هو الزنى المستوجب للطلاق.

    استشارى الطاقة والبيئة وتغير المناخ

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع