الأقباط متحدون - الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد؟ (24) التقييم والتقويم.. خبرة معاصرة
  • ٠٦:٣٤
  • الأحد , ١ يوليو ٢٠١٨
English version

الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد؟ (24) التقييم والتقويم.. خبرة معاصرة

كمال زاخر موسى

مساحة رأي

٥٧: ٠٨ م +02:00 EET

الأحد ١ يوليو ٢٠١٨

التقييم والتقويم.. خبرة معاصرة
التقييم والتقويم.. خبرة معاصرة

كمال زاخر موسي
ونحن نجوس فى بحثنا عن إجابة لسؤالنا الأثير، نحتاج إلى الإقتراب من تجارب معاشة سعت على الأرض لاختبار السؤال، من هذه التجارب، ماحدث فى العقد السادس من القرن العشرين فى الكنيسة الكاثوليكية، فى لحظة كان العالم بأسره على ابواب تغيرات تتجمع خيوطها لتنفجر قبل أن يخطو خطواته الأولى الى سبعينياته، وكأن الكنيسة كانت تملك قرون استشعار لما هو آت، والذى تمثل فى ثورة الشباب فى مجتمعات الرفاهية والتى انطلقت من فرنسا وكان خروج مؤسس الجمهورية الخامسة الجنرال شارل ديجول من المشهد السياسى، بسببها، ايذانا بعصر جديد تتلاحق فيه المتغيرات العاصفة.

كانت البداية سعى الكنيسة الكاثوليكية لاسترداد عافيتها، فكان أن رتبت لطرح واقعها على مائدة البحث والدراسة، بغير أن تبنى حصونَ التبرير والدفاع عما هى فيه باعتباره موروثاً مقدساً، واستطاعت أن تفصلَ بين القواعد الإيمانية الأساسية وبين ما تسللَ إليها عبر عصورها الوسطى، تسلُّل تحولت معه من خادمٍ يبحث عن الضال والخاطئ إلى سيدٍ يمنح ويمنعُ ويحتجز مواقع الصدارة، وينطبق عليه قول الكتاب المقدس: «هكذا قال السيد الرب للرعاة، ويل لرعاة إسرائيل الذين كانوا يرعون أنفسهم، تأكلون الشحمَ وتلبسون الصوف وتذبحون السمينَ ولا ترعون الغنم، المريض لم تقووه، والمجروح لم تعصبوه، والمكسور لم تجبروه، والمطرود لم تستردوه، والضال لم تطلبوه، بل بشدة وبعنف تسلطتم عليهم، فتشتتت بلا راعٍ وصارت مأكلاً لجميع وحوش الحقل وتشتتت، ضلت غنمى فى كل الجبال وعلى كل تل عالٍ. وعلى كل وجه الأرض تشتتت غنمى ولم يكن من يسأل أو يفتش» سفر حزقيال 34.

امتلكت الكنيسة شجاعة المواجهة والتصحيح، فتصدت بموضوعية لثلاثية الإلحاد والوجودية والشيوعية، التى وجدت لها مكاناً عند شباب ما بعد الحرب العالمية الثانية، وتفجرت فى نهايات الخمسينيات من القرن العشرين وإطلالة الستينيات.

كانت المواجهة عبر رؤية واقعية تقر بوجود أزمة مصيرية تتهدد الكنيسة ووجوبية تحليلها والوقوف على مداخلها، وعلاج العوار الذى اخترق الكنيسة، ترجمتها فى أوراق المجمع الفاتيكانى الثانى (1962- 1965) التى انطلقت منها لتتفاعل من أجيال الشباب الواعدة، وتعلن مجدداً رسالتها بلغة معاصرة، فى تحديد مفاهيم عقائدها الأساسية وعلاقاتها مع الآخر المختلف مذهباً وديناً، وحتى غير المتدينين، وتحررت من مظاهر الفخامة والانفصال الوجدانى عن الرعية، ورفعت وصايتها عنهم لتعود إلى دورها الرعوى والتعليمى، كما تسلمته من الكنيسة الأولى.

قد نكون بحاجة للتذكير، قبل أن نستعرض معاً هذه التجربة، بأننا بصدد عرض تجربة حياتية معاصرة وليس تقييم ما تم التوصل إليه فى بعده اللاهوتى ـ على أهميته ـ وإنما منهج التفكير وآليات التنفيذ، والإعداد الجيد والجاد، ودعوة كل المؤسسات الدينية للمشاركة كمراقبين فى فعاليات المجمع، يشاركون فى الحوار والنقاش دون حق التصويت على القرارات. كانت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية مشاركة بوفد على رأسه الأنبا غريغوريوس اسقف البحث العلمى، وقد تناول المجمع فى أكثر من مقال ومحاضرة.

نقطة الإنطلاق كانت فى خريف عام 1962 عندما انطلقت دعوة البابا يوحنا الثالث والعشرين لعقد مؤتمر دولى كنسى (مجمع مسكونى بلغة الكنيسة) يبحث فى واقعها ومستقبلها، وحدد فى خطابه الهدف منه «أن يحقق تجديداً فى الكنيسة وفق مطالب العصر، وأن يجرى مزيداً من الضبط وأن يواجه مطالب الساعة»، ونبه خطاب الدعوة إلى أن هذا الضبط وتلك المواجهة «لا يرتبان بداهة تغييرات فى العقائد بل يرتبان سلوكاً فى تقديمها لتساير بموضوعية أوضاع العالم الحديث، إذ إنه منذ عدة قرون طرأ تغيير عميق على الإطارين التاريخى والاجتماعى للكنيسة»، ويطالب البابا فى السياق ذاته الكنيسة بأن «تبحث عن كيفية تقديم إجابات تناسب العالم فى ضيقاته»، وتمتد أعمال المجمع لتنتهى فى ديسمبر 1965، ويشير البابا بولس السادس فى خطاب جلسته الختامية إلى أن التحدى الحقيقى الذى واجهه هو معالجة «التباعد والانفصامات التى فرقت بين الكنيسة والحضارة المادية خلال القرون الأخيرة، لا سيما القرن التاسع عشر وقرننا الحالى». لم يقتصر المجمع على رجال الدين بمختلف مستوياتهم وتنوعاتهم من كافة أرجاء العالم، بل شارك فيه خبراء مدنيون (علمانيون) من كافة التخصصات الأكاديمية وأصحاب الخبرة فى الأطروحات والقضايا محل البحث. بل وسبقه استبيان شعبى وفر رصداً للمشكلات المتنوعة التى تشغل بال المؤمنين فى العالم، توافر على فحصها وتبويبها وتقديمها لجلسات وأعمال المجمع عشر لجان تحضيرية.

ظنى أن تجربة المجمع الفاتيكانى الثانى هذه، تحتاج من الكنيسة المصرية إلى إعادة فحص وقراءة بدءاً من الفكرة والآليات والمنهج لتمصيرها فى لحظة فارقة، بعيداً عن التصورات المسبقة والتربصات التى تحتشد بها اللحظة، فقد خرجت منها كنيسة روما وقد استردت عافيتها وتواصلت مع احتياجات العالم بأسره وتجاوزت الصراعات الطائفية، وانتصرت للإنسان لكونه إنساناً.

ولم تستبعد كنيسة روما أياً من الملفات أو القضايا وتسلحت بالشفافية والمكاشفة وسعت لمواجهة واقعها بجلد وشجاعة وأعادت صياغة مفهوم الكنيسة والسلطة الرئاسية بها، والعلمانيين والرهبنة ومفهوم القداسة همها الأثير، والطقوس ومفهوم الوحى والحركة المسكونية والعلاقة مع الأديان غير المسيحية، التى امتدت خارج مربع الديانات السماوية، بحسب المستقر فى ثقافتنا، والتعاطى مع المشكلات الآنية فى دوائر الأسرة والثقافة والحياة الاقتصادية والاجتماعية.

وفى سياق الوعى بأهمية تقييم التجربة الإدارية الكنسية، وإيماناً بحاجة الكنيسة إلى نسق المراجعة المستمرة يقوم الفاتيكان، بحسب مصادر كنسية مقدرة، بالإعداد لعقد المجمع الفاتيكانى المسكونى الثالث، لبحث ودراسة المستجدات التى طرأت على الكنيسة والعالم، فى الفترة المنقضية بعد مجمعه الثانى وحتى الأن.
::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::
ونحن فى كنيستنا القبطية وفى ظل المتغيرات المتسارعة التى تجرى من حولنا، بحاجة إلى أن نملك شجاعة الإقرار بتراجع العديد من آلياتنا وربما مفاهيمنا المستقرة عن الوفاء بمسئوليات الكنيسة تجاه الرعية، قياساً على أهدافها الصحيحة، لا تغازلُ العالم ولا تزاحمه فى صراعاته، ليس فيما يتعلق بقواعد وأسس الإيمان والثوابت اللاهوتية، بل فى وسائلها.

لدينا العديدُ من الأمور والقضايا المفارقة لصحيحها الآبائى والكتابى، ولدينا إشكالياتٌ تضخمت فيها الذاتُ وتشابكت مع المصالح الضيقة وتدعمت بها، هل يمكننا أن نقر بالانفصال المعرفى فى بعض الموروثات مع لاهوت كنيسة الآباء بفعل الضغوط التاريخية التى إجتاحتنا، وبفعل الإنتقال من يونانية الكنيسة الأولى إلى قبطية العصر الوسيط إلى عربية العصور التالية، الذى لم يواكبه تواصلٌ جيلى معرفى لاهوتى مدقق؟.

لدينا تصوراتٌ تحتاج إلى ضبط مفاهيمى موضوعى فى دوائر الرعاية والتعليم والرهبنة، والسلطة الكهنوتية، ولدينا حاجة ملحة إلى صياغات أكثر وضوحاً فى دائرة لاهوت الأسرار، المعنى والمبنى والمضمون والممارسة، والإجابة دون أن تلاحقنا كتائبُ التكفير والتشكيك على أسئلة مسكوتٍ عنها، فيما استقر بيننا فى مفهوم «الاعتراف» وخفوت جناح التوبة اللصيق به، وقياسه على تسليم الكنيسة الأولى، وتخليصه من إضافات انحرفت به عن غايته، ومواجهة المقارنات المجحفة بين البتولية والزواج التى تسللت إلينا بغير أساس، والتى تقف وراء غالبية الأزمات الزوجية، التى تنتهى إلى تدمير الأسرة والوقوف على أبواب محاكم الأسرة والمجالس الإكليريكية بحثاً عن الطلاق وتداعياته التى تهدد سلام الأسرة والكنيسة، وغيرها من الإشكاليات الحياتية المعاشة.

أدرك أن هذا يتصادمُ مع ما استقر بيننا لأجيال وربما لقرون، وقد يترجم هذا إلى صدامات مع من استقرت لهم وضعيات تمييزية وظيفية كنسية واجتماعية، يصعب الاقتراب منها، أو تحريكها وقد تحصنت بتأويلات نصوصية تدخلهم فى دائرة الحصانة المقدسة، لكن مسئولية التصحيح تتجاوزها، لحساب تحقيق رسالة الكنيسة والخدمة.

أنتظر أن تدرسَ الكنيسة «قداسة البابا تواضروس الثانى ومجمع الآباء الأساقفة والأراخنة» الترتيبَ لمؤتمر علمى يناقش حاجات الكنيسة المعاصرة، وكيفية تنقيتها من مدخلات تسللتْ إليها واستقرت فيها وتشابهت مع التسليم الآبائى، حتى تنطلقَ مجدداً لفعل بنائى مثمر. وليكن "المجمع المرقسى الأول"، بعد أن ينال ما يستوجبه من إعداد جيد؛ المحاور والمشاركون والأوراق، وإدارة الحوار والمناقشات، وتشاركنا فيه الكنائس الشقيقة فى العائلة الأرثوذكسية الشرقية، (القبطية الأرمنية والسريانية المتواجدة فى بلاد المشرق والهند واثيوبيا واريتريا وبلاد المهجر).

ولعل اجتماع رؤساء الكنائس الشرقية الذى عقد مؤخراً بلبنان (يونيو 2018) وما توصل إليه من تفاهمات يعطى بادرة إيجابية فى هذا السياق، توطئة للإنتقال إلى دوائر أوسع تضم الكنائس الارثوذكسية الخلقيدونية، ثم الكنائس الكاثوليكية بتنويعاتها العرقية والجغرافية، ثم ننتهى إلى الكنائس غير التقليدية، لنصل معاً إلى كنيسة واحدة مقدسة جامعة رسولية.

قد يبدو طرحى عند كثيرين خيالياً وعند بعض أخر غير قابل للتحقق على الأرض، لكن كل القضايا الكبرى تم تفكيكها بطرح أو بفكرة وجدت من يتفاعل معها ويخوض مغامرة تفعيلها، بعقول باردة وقلوب ملتهبة. وثقة فى فعل الروح القدس الذى مازال يعمل فى دأب ليجمعنا إلى واحد.

وتكون نقطة الإنطلاق مؤسسة على أن الإنسان بحسب لاهوت التجسد هو حجرُ الزاوية، والأنسنة هى القاعدة الإيمانية التى يقوم عليها البناء الكنسى المسيحى بجملته، ومن خلالها تتحدد ملامح العلاقة بين الله والبشر، فبينما يعلن السيد المسيح أنه نور العالم، يعود فيقول موجهاً كلامه لتلاميذه ومن قبلوه «أنتم نور العالم» و«أنتم ملح الأرض»، وفى تعريف التنوير يقول الدكتور وسيم السيسى إنه إضاءة المناطق المعتمة فى الذهنية الجمعية للشعب، ومن هنا يصبح التكليفُ الأساسى للخطاب الدينى المسيحى هو سعى التنوير، فيعود الإنسان إلى إنسانيته، ويصبح التجديد فعلاً متواتراً ولازماً. والاسترشاد بالخبرات الإنسانية فى هذا الأمر يوفر لنا قاعدة انطلاق نواجه بها واقعاً تتنازعه دعوات البغض والكراهية وتفككه الأنانية واختلال القيم.
ويبقى الطرح قائماً.

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع