الأقباط متحدون - المتحف الكبير … هديةُ مصرَ للعالم
  • ٠٢:٠٨
  • الخميس , ٩ اغسطس ٢٠١٨
English version

المتحف الكبير … هديةُ مصرَ للعالم

مقالات مختارة | بقلم : فاطمة ناعوت

٤٦: ١٠ ص +02:00 EET

الخميس ٩ اغسطس ٢٠١٨

فاطمة ناعوت
فاطمة ناعوت

 شىءٌ يُشبه الحُلمَ القدسيَّ؛ أن تقفَ فى حضرة جلال جثامين أجدادك المصريين القدامى الذين حفروا بعقولهم الاستثنائية، حضارةَ الإنسان فى فجر ميلاد المنظومة البشرية. وشىء يُشبه جرعةً من كأس الرجاء؛ أن تقف فى حضرة أشقائك المصريين الراهنين، يُشيّدون تحت وهج الشمس، صرحًا عملاقًا يضمُّ آثارَ أولئك الأجداد الذين صنعوا مجدَ مصرَ، الأرض السوداء الطيبة.

 
دعوةٌ كريمة من الدكتور خالد العنانى، أستاذ علم المصريات واللغة المصرية القديمة، ووزير الآثار المصرى، لزيارة «كواليس» تشييد «المتحف المصرى الكبير» The Grand Egyptian Museum الذى سيقفُ هرمًا رابعًا حديثًا، إلى جوار الأهرامات المصرية الثلاثة بهضبة الأهرامات بالجيزة. وحتى يكون الكرمُ كاملاً غير منقوص، قرّر الوزيرُ مشكورًا أن يكون رفيقَ تلك الزيارة ومرشدَها، أستاذٌ فى الآثار وعلم المصريات هو الدكتور طارق توفيق، مدير المشروع. فكانت الرحلةُ بالنسبة لى، ولفريق عملى المصاحب، جرعةً هائلة من المعرفة والمتعة والفخر بهويتنا المصرية الفريدة.
 
عملٌ جادٌّ بالداخل، حيث مركز الترميم فى قاعات معزولة عن الأشعة فوق البنفسجية المُضرّة بالآثار العضوية من جثامين السلف وملابسهم ومومياوات طيورهم المقدسة، يقابله عمل جاد بالخارج، تحت نير الشمس وهجيرها، فى تشييد الواجهات والأبنية والدَّرج العظيم، الذى سيحمل الزوّارَ نحو العُلا، فيما يتأملون أولَ صفحة فى كتاب التاريخ التى تحكى حكاية أعظم حضارات الأرض. فيما يصافحهم على جانبى الدرج، الخالدون من ملوك مصر: رمسيس الثانى ومنكاورع، وخفرع، وأمنحتب الثالث وسوناسرت وإخناتون والمعبود حورس والمعبودة سخمت وغيرهم من بُناة مجدنا المصريّ.
 
أقفُ فى فرح وفخر أمام أكبر متحف للآثار المصرية فى العالم، وضع حجر أساسه الرئيسُ مبارك عام ٢٠٠٢، وسوف يقصُّ شريطَ افتتاحه الرئيس السيسى عام ٢٠٢٠، بإذن الله، بين ملوك العالم ورؤسائه، لتُقدّم مصرُ للدنيا تاريخَها الذى أبهر العلماءَ والمؤرخين والشعراء. خمسون ألف قطعة أثرية فى المعرض الدائم، وخمسون ألفًا أخرى فى مخازن المتحف للدراسة والمعارض المتغيرة. عشرون ألف أثرٍ منها تُعرض للمرة الأولى. كلّ زائر سيُمنح كتيبٌ للإرشادات باللغات الثلاث: العربية والإنجليزية والهيروغليفية، فيكون كأنما نسخة حداثية مصغرة من حجر رشيد حتى يتعلّم الزوارُ لغتنا المصرية القديمة بمقارنة الكلمات فى اللغات الثلاث، كما قارن شامبليون بين الإغريقية والديموطيقية والهيروغليفية، فنجح فى فك رموز الأبجدية المصرية القديمة؛ فانفتح أمام عيوننا أحدُ أعظم علوم الأرض: «علم المصريات» Egyptology، وعرفنا ماذا أراد أن يقول لنا، وللبشرية، الجدُّ المصريُّ القديم.
 
أنا الآن فى القاعة الهائلة التى ستضمُّ جميعَ آثار الملك توت عنخ آمون فى مكان واحد لأول مرة فى التاريخ. خمسةُ آلاف قطعة نادرة من مقتنيات توت، كلُّ قطعة منها تساوى كنوز الأرض. أقفُ فى إجلال أمام معجزة علمية وحضارية صارخة تجعلنى أشاهد ثوبًا أنيقًا من الكتّان المُطرّز بالخيوط الملونة، ارتداه الملك توت عنخ آمون، اجتاز على سُلَّم السنوات ٣٥٠٠ درجة؛ حتى يعبر إلينا فى كامل الأبهاء والدقّة، تُطلُّ من بين ثناياه خيوطٌ نحيلةٌ قهرت عشرات القرون لتقول لى: «انظرى كيف كان أجدادك العظماء!» وأفتح فمُ الدهشة أمام سلّة مجدولة من الخوص حملت له الفاكهة قبل خمسة وثلاثين قرنًا. وأنحنى فى احترام أمام ألقِ عجلاته الحربية المُذهّبة والأسِرّة الجنائزية المطعّمة بالذهب، تلك التى رقد عليها الملك أمام المحكمة الأزوروية، ليعترف باثنين وأربعين اعترافًا إنكاريًّا: لم أقتل، لم أكذب، لم أستغلّ وظيفتى، لم أتسبب فى دموع إنسان، لم أعذّب حيوانًا ولا نباتًا بأن نسيت أن أسقيه، لم ألوّث مياه النهر.. ثم اثنين وأربعين اعترافًا: كنتُ عينًا للأعمى، وساقًا للكسيح، ويدًا للمشلول، وأبًا لليتيم…. فتزنُ «ماعت» ربّةُ العدالة، قلبَه أمام ريشتها، ريشة الضمير، لتشهد على صدقه، فيدخلُ الأبديةَ ويُبعَثُ للحياة الأخرى. وأقفُ فى تبجيل أمام برديات أصلية من كتاب «الخروج إلى النهار»، الشهير بكتاب الموتى، تحكى قصة الحساب الإلهى لملكة من جدّاتى المصريات العظيمات.
 
هذا مقال لا ينتهى وتمتدُّ كلماتُه فى مجلدات لأحكى ما شاهدتُه من أبهاء وعظمة فى خمس ساعات مضيئة من نهار الأحد الماضى، فإلامَ تمتدُّ كلماتٌ تحكى حكايةَ مصر التى سنقرأها ويقرأها العالمُ فى هذا الصرح العملاق الذى هو بمثابة هدية مصر للدنيا؟! أشكرُ د. خالد العنانى على يومٍ من عمرى لا يُنسى، وأشكر د. طارق توفيق على ما منحنى من ثراء علمه ووقته، كما أشكره لأنه وعدنى بأن يكون «ضيف الشرف» فى صالونى الشهرى ليحكى لنا عن هذا المتحف العظيم. والشكر موصول لكل يدٍ مصرية شريفة وضعت حجرًا لتُشيّد الآن ذلك الصرح الخالد.
نقلا عن المصرى اليوم

 

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع