يوم أحرقوا الكنيسة.. قصة شعبان
مقالات مختارة | ماهر فرغلي
الخميس ٩ اغسطس ٢٠١٨
مكتوب على الجدران في كلّ شوارع مدينتنا: "إسلامية إسلامية.. قاطعوا النصارى"، جاري شعبان رأيته بعيني وهو يمسك الفرشاة، ومعه جمع، يلفّون بكل صلف، ليكتبوا تلك العبارات، شيء مريب ومشين في الوقت ذاته؛ الأفكار المقيتة الساذجة بعينها تقاوم الغبار، وما تزال، حتى الآن، على الجدران رغم مرور السنين.
شعبان قال: "المسيحيون رائحتهم كريهة"، و"الأديرة تعجّ بالأسود والنمور لتأديب المرتدين عن المسيحية"، صدّقه المراهقون الصغار، نعم صدّقوه، صدّقوا أنّ "الأقباط خونة"، و"أنّ الكنائس صارت مخازن أسلحة وذخيرة"، و"أنّ رجال الدين المسيحيّ يلبسون ملابس الحداد السوداء حزناً على وجود المسلمين"!
يمكننا أن نختلف في الدين أو المذهب أو العرق لكن ذلك لا يبيح لأحد أن يريق دماء الآخر
في ليلة شمّ النسيم، خرجوا صفوفاً يقودهم شعبان، الذي كان أميراً للجماعة، ليقفوا دقائق أمام محالّ الأقباط وكنائسهم، بحجة الضغط على الحكومة للإفراج عن الشيخ حسن الغرباوي (مات منذ شهر)، الدنيا انقلبت في بلدنا، وضابط الأمن وهو يركب سيارة الشرطة، كان يقول: "وكتاب ربنا هذا حرام."
بعد أعوام طوال؛ تاب شعبان عما يفعل، وحكى لي: "تصوّرنا أنّ الدولة ضعيفة، وذهبنا بجمعنا إلى شرق المحطة لنقتحم كنيسة يتم بناؤها، يحيى ومصطفى وجمال قفزوا إلى الدور الثاني، وكبّروا (قالوا الله أكبر)، ثم أقاموا الصلاة، القوات أحاطت بنا، والجماهير التفّت حول العساكر، واضطر الضباط للإفراج عنا، انتصرنا ساعتها ومن يومها أصبحت كلمتنا مسموعة في البلد، بلدنا وكبار عائلاتها ومواطنيها أصبحت تخشانا".
مهما اختصرت وأوجزت وقلصت مفرداتي؛ فإنّ الدماء هي الخط الأحمر الذي ينبغي على الجميع التوقف عندها، يمكننا أن نختلف في الدين أو المذهب أو العرق، لكن ذلك لا يبيح لأحد أن يريق دماء الآخر... قتلوا عماد خلة صاحب محل مجوهرات وسرقوا أمواله في وضح النهار بحجة أنه قبطي حربي!
آه تذكرت الآن مهني ملك، لا أعرف ما الذي ضايق الطالب عماد من زميله مهني؟ أبلغ الجماعة أنّ ابن ملك يقود تجمعاً تبشيرياً لدعوة الطلاب المسلمين للمسيحية، يكمل شعبان: ذهبنا بأقتابنا وأحلاسنا نبحث عنه في شقق سكن الطلبة، لم نجده، لكنّنا ساعتها ضربنا كلّ من وجدناه من الطلاب الأقباط.
بعد الثورة، وعقب عزل الرئيس الإخواني عن السلطة بمصر، رأيت شعبان يمسك في يده ورقات مكتوب عليها "قطع النياط في وجوب قتل الأقباط"، كأنّ ما تاب عنه سحابة صيف مرت سريعاً، وذاكرته ورفاقه من ماء.
خرجت العشائر والعائلات بسلاحها تحمي المحال والكنائس والمتحف بوجوه خائفة حزينة
في اليوم نفسه الذي عزل فيه الإخوان، حطم الإخوانيون بابنا، واخترقوا المنزل بالقوة هرباً من أعدائهم، وقفت في وجه الباب، لكنّهم أوقعوني أرضاً، فصمدت دقائق على الدرج الأول من السلم، وأنا أمنعهم من الصعود، لكنني لم أملك المقاومة فهم كثرة وجحافل تفر من الموت المحقق، فصرت طريح الأرض، اكتشفت أنّ لكنة عناصر الإخوان من وجه بحري؛ أي إنهم تركوا بلدانهم وجاؤوا إلى مدينتنا في صعيد مصر، ليهاجموا الكنائس ومقرات الشرطة.
العناصر المعادية للإخوان حاصرت المنزل بالكامل، وبدأت بإطلاق النار، للمرة الأولى تمنّيت أن تتدخل الشرطة وتحمينا وتحمي منزلنا، المعرَّض للحريق بمن فيه، لكن لا حل. كانوا يتفرجون، فاضطررت أن أقفز من فوق السطح إلى أرض زراعية تفصل منزلنا عن المعهد الأزهري، ونجحت في الفرار، وذهبت إلى منزل والدي، فتحت التلفاز، فظهر بالشاشة جنود وضباط مصابون وسيارة تسقط من أعلى كوبري في مدينة نصر، فيسارع محتجون لضرب الجنود المصابين بداخلها، وهم يكبّرون. المذيع يتحدّث عن هجمات منظمة على الكنائس وأقسام الشرطة، وحرقها، مجزرة في قسم كرداسة، اشتباكات عنيفة في المحافظات، سقوط عشرات القتلى ومئات الجرحى، الداخلية تعلن رصد تعليمات من قيادات الإخوان لأعضاء الجماعة بتنفيذ هذه الهجمات، واتباع سياسة الأرض المحروقة، إعلان حالة الطوارئ وحظر التجوال، ونزول الجيش والشرطة للشوارع، تواصل الهجمات على الشرطة والمسيحيين في المحافظات، والمواطنون يشكلون لجاناً شعبية لحماية الكنائس والأقسام من "الإخوان".
قابلت شعبان صدفة هارباً فقال: كنتُ مجنوناً لا أعرف لماذا عدت للإخوان فكيف أهرب؟
ثمة أشياء كنت لا أفهمها، لكنّني سمعت عنها من شعبان، كان يتحدث عن الحراك المسلح، لن أنسى أبداً كيف كانت وجوههم وكلماتهم تنضح بالنار، غلالات الحقد والغضب التي تخرج من بعضهم، النصر المأمول على المرتدين، الذي يتحدثون عنه.
خرجت من منزلي في وضح النهار، فرأيت الكنيسة الإنجيلية بشارع العرفاني وصيدلية فارس، ومنزل عائلة جرس، وهي من كبار عائلات المسيحيين الأقباط في بلدنا، محروقين بالكامل.
خرجت العشائر والعائلات بسلاحها تحمي المحالّ والكنائس، ومتحف المدينة، التي أصبحت صامتة كئيبة، يكسو وجوه أهلها الخوف والحزن.
حكوا لي كيف أنّ شعبان أخذته الحماسة، فقبض بيديه على شرطي يسير في الشارع، وسكب عليه البنزين وأراد حرقه، لولا أنّ بعض الأهالي أغاثوه.
قابلت شعبان صدفة، وهو هارب، فقال لي إنني كنت مجنوناً، لا أعرف لماذا عدت لهؤلاء؟ كنت أتصوّر أنّ الإخوان سيحكمون إلى ما لا نهاية، كيف أهرب؟ وكيف أتوب مرة أخرى؟!
قبض عليه بعد شهر من تلك الأحداث المريرة ولقائي به، وتم اتهامه بحرق الكنيسة والشروع في قتل الشرطي، وحكم عليه بالإعدام، لم يتحمل شعبان الحكم فمات حزيناً في زنزانته، قبل الاستئناف والمحاكمة من جديد، ولم يخرج أحد في جنازته سوى زوجته، ووالدته الذي هو وحيدها، وبعض رجال الأمن.
نقلا عن حفريات