الأقباط متحدون - سلسلة مقالات: الكنيسة صراع أم مخاض ميلاد؟ 29 ـ عندما تفقد الرهبنة أسوارها !
  • ٠٥:١٨
  • الاربعاء , ٢٢ اغسطس ٢٠١٨
English version

سلسلة مقالات: الكنيسة صراع أم مخاض ميلاد؟ 29 ـ عندما تفقد الرهبنة أسوارها !

كمال زاخر موسى

مساحة رأي

٣٥: ١٠ ص +02:00 EET

الاربعاء ٢٢ اغسطس ٢٠١٨

عندما تفقد الرهبنة أسوارها
عندما تفقد الرهبنة أسوارها

كمال زاخر
كان السطر الأخير فى الفصل السابق يحمل السؤال الذى احتل عنوان الكتاب وتردد عبر كل فصوله، الكنيسة صراع أم مخاض ميلاد؟، وحسبته آنئذ السطر الأخير في الكتاب، ورحت ارتب لطباعته وطرحه للقارئ، وأقر أننى طوفت حول السؤال وتأرجحت بين الفرضيتين اللتين حملهما، ولم يكن ترجيح "ارهاصات الميلاد" من الأمور المتيقنة عندى، ربما لاقترابى من تفاعلات الشارع الكنسى بقدر، وتتبعى لمنحنى ادارة الكنيسة وخاصة فى سنوات حبرية قداسة البابا شنودة الأخيرة واحتراب الدائرة القريبة منه المكتوم، وقد ناء كاهله بأعباء المواجهات العاتية داخل الكنيسة وخارجها، فضلاً عن انهاك الجسد وهو يخوض غمار الشيخوخة التى تضافرت عليه فيها قائمة أمراضها، لكن ظل مخاض الميلاد هاجساً يشاغلنى وأنا اتابع شتلات التنوير تزرع بغير ضجيج أو افتعال فى ارضها وقد أشرت الى بعضها بامتداد صفحاتى، وكان التاريخ يدعمنى، حتى فى عصورنا الوسيطة، فالليتورجيا التى تحمل جينات الإيمان وسر حياة الكنيسة وجدت لها مستقراً لدى الأجيال الواعدة وصارت مكوناً راسخاً فى ذهنيتهم. ربما لذلك لم اقطع باجابة على السؤال وتركتها مفتوحة فكل الإحتمالات مطروحة.

وفيما الأمر كذلك تصدمنا أنباء مقتل الأنبا ابيفانيوس رئيس دير الأنبا مقار بوادى النطرون، داخل ديره وهو فى طريقه إلى الكنيسة فجر يوم الأحد ـ 29 يوليو 2018 ـ للصلاة، وتتوالى الأنباء عن تورط راهبين وربما أكثر فى الجريمة، وبحسب ما تواتر نقلاً عن ما نسب الى الفاعل الأساسى قوله أن ثمة خلافات عقائدية ومالية دفعته لقتله، ثم نكتشف أن الراهبين كانا ضمن مجموعة من الرهبان الجدد الذين تمت رسامتهم بعد رحيل الأب متى المسكين وشكلوا جناحاً مناوءاً لفكره ومنهجه.

ولست هنا بصدد تناول هذه الواقعة فى دائرتها الجنائية، أو حتى طرح محاولات تفسيرها المختلفة والمتباينة إلى حد التضاد، أو الإقتراب من ردود فعل الفرقاء التى لا تقل فى حدتها عن محاولات التفسير تلك، لكن الواقعة وتداعياتها كانت بطعم الصدمة، ولا تبتعد كثيراً عن سؤالنا المحورى المطروح، وتنقل مسئولية إجابته إلى القائمين على تدبير الكنيسة.

كانت الواقعة كافية لرفع الغطاء عن واقع يئن من الخلافات عند القاع والقمة على السواء، وجاء المعلن عن وقائع الأحداث على قلته متجاوزاً لكل التوقعات، وصادماً للصورة الذهنية الجمعية الطوباوية التى تشكلت عندنا عن الرهبنة ككيان إنسانى يصح ويمرض، ويعبر بقمم وقيعان.

لكن ردود الفعل تكشف ما لهذه المنظومة من ثقل عند من يقبل بها أو يرفضها، والتى تراوحت بين رفض أن يكون الجانى من بين الرهبان فهم بحسب الصورة الذهنية "ملائكة ارضيين وبشر سمائيين"، بفعل الإلحاح الذى تحمله مرويات الرهبنة، الكيان والشخوص والتاريخ، وبين من يُحمِّلها كل اخفاقات الكنيسة فى رسالتها ويراها عبئاً يعوقها ويذهب إلى حتمية التخلص منها، ويختطف البعض الرهبنة ليعيد انتاج مواقف تاريخية رافضة للكنيسة بجملتها ويطرح الصراع المذهبى تحت غطاء مناقشة ماهية الرهبنة وكتابيتها، فيما يذهب أخرون إلى شخصنة القضية ليصفى حسابات عالقة مع شخوص بعينهم، فيما كان للبعض فيها مآرب أخرى.

ورغم ذلك كان هناك من يقرأ المشهد بعقل بارد يحلل ويناقش ويطرح مخارج على الأرض تعيد للمنظومة الديرية تماسكها وللكنيسة سلامها.

وإذا تخلينا عن انفعالات الصدمة ربما نكتشف أن عوامل كثيرة تضافرت لتصل بهذه المنظومة إلى واحدة من اختلالاتها، تتقدمها الإشتباك بينها كمنظومة علمانية (شعبية) وبين المنظومة الإكليروسية، حتى صارت تجلس على قمتها وتنفرد بها، وبعد أن كان من الممكن أن تختار قيادات الكنيسة من اطياف متنوعة وفئات متعددة صار الإختيار محصوراً فى الرهبان، وصار، تأسيساً على ذلك، حال الكنيسة مرتهناً بحال الرهبنة صعوداً وهبوطاً، وبفعل عوامل عديدة انتقلت أمراض المجتمع العام إلى بعض من المجتمع الديرى بقدر يُختلف على مساحته. وصار الفعل الثقافى السائد خارج اسواره أكثر تأثيراً داخل المجتمع الرهبانى من الفعل الثقافى الكنسى التقليدى، الذى خفُت بفعل تراجع التلمذة واختفاء الشيوخ.
ومن يرجع إلى التكوين الديرى القبطى يستطيع أن يلحظ بغير عناء التمايز النوعى بين الأديرة، رغم اتفاقهم على محاور ونذور الرهبنة الأساسية، البتولية والفقر الإختيارى والعزلة والطاعة، فثمة أديرة لها سمت طقسى وأخرى تجد عندها هوى تاريخى وثالثة تذخر بالبحوث اللاهوتية ورابعة تبحر فى محيطات الليتورجية، وهكذا يمكن أن تلمس التعدد والتنوع قى كل جماعة رهبانية الأمر الذى يكشف لك سر غنى الكنيسة، لذلك كانت "القولبة" و "التنميط" حتى فى الشكل الرهبانى الخارجى أحد الأخطار التى عرقلت تطورها ونموها، وكان دير الأنبا مقار أحد القلاع التى اربكها سعى القولبة والتنميط والذى انتهى بنا الى صدمته الأخيرة.
وكانت الجماعة الرهبانية تدرك هذا، لذلك استقر فيها لقرون أن لا يتجاوز من يقودها ـ على مستوى الدير ـ أحد رهبانها، أحياناً بغير رتبة كهنوتية، وغالباً ممن لا تتجاوز رتبته "الإيغومانس" ـ المدبر ـ والذى يمكن الإتفاق فى اطار الجماعة على تنحيه، أو تنحيته، واختيار غيره، بحسب احتياج الدير وحفاظاً على توافقه وسلامه، وهو الأمر الذى لا يمكن حدوثه حال كون رئيس الدير أسقفاً. إذ يقف العرف الكنسى الذى استقر، وقفز الى مصاف القانون، حائلاً دون تغييره.

لكن منظومة الرهبنة شأن كل كائن حى تتأثر بما يعترى الإنسان ـ قوامها الأساسى ـ من تغيرات وتفاعلات، فتراها تتراوح بين صعود وهبوط، وبقدر التزامها بمحاورها تكون قوتها، وبقدر انتباهها لخصوصيتها وقدرتها على مراجعة واقعها قياساً على هدفها الذى تأسست وقامت لتحقيقه، تأتى إمكانية خروجها من أزماتها وانتصارها فى حروبها التى لا تتوقف، من داخلها ومن خارجها.

ولا شك أن الرهبنة المعاصرة تحتاج إلى وقفة جادة، مع نفسها أولاً، ومن الكنيسة معها ثانية، لكونها أحد أهم الأرقام فى معادلة الكنيسة الفكرية واللاهوتية، بل ومن المجتمع العام خارجها، خاصة بعد أن صارت رقماً مهماً فى الناتج القومى، بعد أن انتقلت من الصورة البدائية البسيطة "لعمل اليدين" التى كان أنطونيوس الأب المؤسس قد وضعها لأبنائه بعد أن هاحمه الضجر فى يومه الطويل، المنقطع فيه للصلاة والهذيذ والتأمل فى كلمة الله، لتنتقل إلى انماط العمل المكثف بفعل توفر خبرات متقدمة فى رهبانها بتعدد تخصصاتهم، فى استصلاح الصحارى والزراعة الحديثة وما استتبعهما من تصنيع زراعى ودوائر الثروة الحيوانية والداجنة، والتحول من التسويق المباشر البسيط إلى شبكات التسويق الأكثر تعقيداً.
وقد أسهمت التراجعات المتتالية والضغوط والإرتباكات السياسية والإقتصادية التى اصابت المجتمع العام، والإستهدافات الطائفية التى حاصرت المجتمع القبطى، وقصور الكنائس المحلية فى أغلبها عن تقديم رسالتها لرعيتها خارج الأديرة، بفعل اختلالات آليات إعداد القائمين على التعليم والرعاية والخدمة، والإتجاه الى تقزيم دور الأراخنة ومن ثم افتقاد التوازن لحساب الإكليروس، اسهم كل هذا فى ان تتجه الأنظار الى الأديرة ملاذاً وبديلاً وحلاً، لأزمات واحتياجات المجتمع القبطى.

وتجد الأديرة نفسها أمام التزامات جديدة؛ تبدأ بتوفير ما تتطلبه مهمة استقبال وضيافة الزائرين، إقامة وخدمة، بل وبناء كنائس جديدة داخل الأديرة ـ صارت فى بعضها كاتدرائيات ـ تستوعب الأعداد الغفيرة، وتخصيص آباء رهبان للقيام بهذه المسئولية، وتتمدد الإحتياجات فتظهر الإستراحات على مداخل الأديرة وأماكن الضيافة داخلها، وتضيق المسافات بين الزائرين والرهبان، وتسقط الحواجز وتفتر الضوابط، فترتبك التزامات الرهبنة وتتهدد فى عفتها ووحدتها وسكينتها، وتتنوع حروب الفكر على الراهب، ويشاغله حنين متنام للتعليم والإرشاد فتضيق عليه جدران قلايته وأسوار ديره ويتلمس الأعذار للنزول إلى العالم، حتى يجول معلماً ومرشداً، أو هكذا يتصور، بينما فى الخارج خطايا رابضة، لم يشر اليها أحد فقد توارى الشيوخ والمدبرين، وغابت التلمذة، ولم يعد للمرشد الروحى المختبِر مكاناً.
وعلى صعيد مواز تتخفف بعض الأديرة من بعض شروط القبول، فى طالبى الرهبنة، وفى المقبولين منهم لها، لتزايد الحاجة الى من يغطى احتياجات الدير المتنامية، فيتسلل إليها أنماط متباينة يسعون إلى تحقيق أهداف لم تتحقق فى صراعات وشروط مجتمعاتهم خارج اسوار الأديرة، وتتضافر عوامل عديدة لتختفى مسحة الروح فتظهر أمراض المجتمعات أحادية النوع والمغلقة، ويقفز الإنسان العتيق ليفرض صراعاته وأمراضه وانحرافاته على المشهد فيئن الدير ويضج ساكنيه ويسقط بعضهم، ويصدم من يتابعه عندما يرفع الغطاء عن واقعه، وتفرض العملة الرديئة نفسها وتكاد تبتلع العملات الجيدة.

نحن، فى سياق تناول الرهبنة، أمام أزمة حقيقية تتجاوز واقعة مقتل الأب الأسقف، وتتجاوز احتراب الفرقاء، وصراعاتهم الضيقة، والتى تحتاج قراءة أعمق من ردها إلى شخوص بعينهم، فالرهبنة ليست مجرد منظومة لنفر من الناس توافقوا على قواعدها، ويعانون من اختلالاتها، فى أزمنة الضعف، فقد تجاوز تأثيرها أسوار اديرتها بعد أن صارت ولقرون هى المصدر الوحيد الذى يمد الكنيسة بقياداتها، من اساقفة وبطاركة، وقد شهدت العقود الأخيرة حراكاً ممنهجاً لتحويلها إلى منظومة اكليروسية، سواء فى وضعها تحت السيطرة الكاملة برسامة اساقفة لتدبيرها، أو برسامة رهبانها كهنة وفق جداول زمنية صارت نسقاً مستقراً فيها، لتفقد سمة أساسية فيها وهى طبيعتها المدنية الشعبية (العلمانية مجازاً)، وتعمق فقدان الكنيسة القبطية الأرثوذكسية لتمايزها بالتوازن بين مكونيها الأساسيين الإكليروس والعلمانيين.

ولم يعد أمامهما، الرهبنة والكنيسة، إلا رد الإعتبار، والحياة، إلى محاورها الأساسية التى قامت عليها، وإلى انساق الحياة التى استقرت فيها عبر تاريخها الطويل، وهو ما سوف نعرض له فى الفصل القادم باستعراض رؤية أحد مؤسسيها الأوائل، القديس أنبا مقار، عبر بحث تحليلى قدمه باحث غربى تناول فيه رسالة لهذا الأب إلى أولاده الرهبان ـ وسنضع الرسالة والبحث بجملته أمام القارئ فى ملحق خاص ـ بنهاية الكتاب.

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
حمل تطبيق الأقباط متحدون علي أندرويد