بيريسترويكا كنسية (8) - الرهبنة القبطية بين التكريس والشعوذة
ماهر عزيز بدروس
الجمعة ٢٤ اغسطس ٢٠١٨
دكتور مهندس/ ماهر عزيز
استشارى الطاقة والبيئة وتغير المناخ
شاع بين الكثيرين أن "الرهبنة أيقونة الكنيسة"، وكان ذلك صحيحاً فى العصور الغابرة حين صَدَّرَت الكنيسة القبطية الرهبنة للعالم كمفرخة للتجرد المسيحى وباعثة لانطلاق الروح، لكنها فى العصور الحديثة كادت أن تتحول إلى خنجر فى ظهر الكنيسة يسرى سُمُّه الزعاف ببطء فى جسدها العليل!!
فالرهبنة القبطية الأرثوذكسية تحيط بها الآن شكوك كبرى من جراء انفجارات الفساد السلوكى والمالى والجنسى التى حدثت فى أديرة عديدة خلال السنوات الأربعين الماضية، والتى صارت تلقى بظلال كثيفة على ماهيتها وجوهرها ودورها وجدواها.. مما يترجح بنا على نحو ملتبس بين النظر إليها بوصفها تكريساً حقيقياً أو القبض عليها متلبسة بالشعوذة!!
الحق إن الرهبنة لا تكون رهبنة حقاً إلا لقلة نادرة من البشر قال عنهم يسوع: "خِصْيَانٌ وُلِدُوا
هكَذَا مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ" أو " خِصْيَانٌ خَصَوْا أَنْفُسَهُمْ لأَجْلِ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. مَنِ اسْتَطَاعَ
أَنْ يَقْبَلَ فَلْيَقْبَلْ" (مت 9 : 10-12).
فماذا إذن لو أن الراهب كان دخيلاً على الديرية وليس له "هبة" (1 كو 7: 7) أن يكون ممن "أُعْطِىَ لهم"؟
هؤلاء قد امتلأت بهم الأديرة فى السنوات الأربعين الأخيرة.. فانتشر الفساد بسببهم فيها، وفقدت الديرية التقليدية معه فضائلها التايخية وطابعها الروحى الذى طُبِعَتْ عليه، وجعلها فى وقت من الأوقات "ضمير الكنيسة" القبطية فى مصر.
بَيْدَ أن هذا العصر قد ولّى وراح إلى غير رجعة.. ووضعية جديدة الآن للديرية تفرض نفسها لرسالة جديدة وعهد جديد.
والشواهد على ذلك كثيرة..
ففى أكثر من مناسبة نشرت جريدة وطنى فى هذا الزمن الردئ منذ سنوات فى أوائل الألفية الثالثة تقريباً تهانى تملأ الصفحة الأخيرة كلها لراهب التحق حديثاً بالدير والكتابة كلها تنتظر رسامته أسقفاً.. وكل التهانى تهلل بفجور مروع ورقاعة غير مسبوقة: "أيها الأسقف القادم" ، وكانت تلك إحدى علامات الأيام الأخيرة، فدخول الدير صار هو القفزة الأخيرة على كرسى الغنى الفاحش، والسلطان الرهيب، والمجد العالمى الزائل.. ومركز القوة الذى يعيث فساداً فى كل شئ بلا حسيب أو رقيب!!
وفى ليلة ظلماء حالكة السواد أمسك ثلاثة رهبان أسوياء بأيديهم معاً وخرجوا فى الثانية صباحاً ليلاً من باب الدير الكبير.. أحد أشهر الأديرة فى مصر – بل لعله أشهرها على الإطلاق – تاركين إياه بغير رجعة، وقصدوا طريقهم سيراً على الأقدام إلى القاهرة على بعد مائة كيلومتر!!
لماذا فعلوا ذلك؟
لأن رب الدير طرد واحداً آخر فى اليوم السابق فى جوف الليل من الدير وخشوا أن يأتى عليهم الدور يوماً ففعلوها بيدهم حتى لا تأتيهم "بيد عمرو"!!
هل ذلك وحده هو السبب وحسب؟
لا.. فلقد كان "الهروب الكبير" هو الخطوة الأخيرة فى قرار تراكمى ظل ينمو على السنين منذ دخلوا الدير..
لقد اكتشفوا أنهم مثل كل الأقباط المغيبين العائشين فى الخرافة.. دخلوا إلى الدير ظانين أنه "مجتمع اللـه المقدس".. فإذا بهم يكتشفون أنه "مجتمع البشر الشواذ" (المقصود الذين لم يسلكوا طريق الحياة الطبيعى فى العالم).. الذين قهروا أنفسهم على حياة غير مؤهلين لها.. فَصَيَّرُوا الدير مكاناً ملتصقاً بالعالم.. ملتصقاً بالفعل البشرى.. بعيداً عن الفعل السماوى.. ملتصقاً بالتراب والخطايا والآثام..
اكتشفوا أن أسطورة الديرية الراجعة للقرن الرابع هى أسطورة خواء.. لكن الرهبان فوق هذا الخواء يتسربلون بالقداسة المزعومة للحفاظ على الصورة الخرافية التى يمنحهم الناس بمقتضاها السجود تحت الأقدام، والتبرك بالأسمال، والدفع بعطايا هائلة بين يديهم كى تُسْتَدَام الأسطورة بغش استلاب القداسة التى للـه.
أحد هؤلاء الهاربين من الدير فى جوف الليل كانت تربطنى به صداقة.. وهو الذى حكى لى ذلك.. وتلك كانت كلماته هو!!
... ...
فهل آن الأوان أن يكتشف عالم الأقباط الأرثوذكس المغيب العائش فى الخرافة أين يكمن التكريس الحقيقى للـه؟
هل آن الأوان أن تسقط الكرامة الزائفة، ويسقط الغش المقدس الذى بمقتضاه يُنْظَر لهؤلاء بوصفهم قديسين.. بينما الخديعة تقبع كلها خلف هذه القداسة الموهومة؟
وينكشف ذلك على نحو أفضح فى معترك هذه الأيام.. ففى حادثة قتل مهولة بأحد الأديرة الكبرى ذات التاريخ الضارب إلى فجر الرهبنة القبطية بمصر انكشفت للجميع خيوط معقدة متشابكة لصراعات الأساقفة، ومؤامرات يحيكها الإكليروس ورؤساؤهم الذين تربوا أصلاً فى الأديرة وجاءوا منها.. مؤامرات حافلة بالغش والمناورات الخسيسة، التى وظفت كتائب إلكترونية مأجورة، وقنوات إعلامية مخاتلة، دون وازع من دين أو ضمير.. ودون أدنى اعتبار لحق اللـه وحق الإنجيل وحق الشعب وحق الكنيسة!!!
ونسأل : كم من الرهبان على طول التاريخ الكنسى منذ بدء الرهبنة كانوا مدعوين حقاً؟
ستة عشر قرناً من القرن الرابع حتى الآن تطوى داخلها ثمانية وأربعين جيلاً - بمتوسط الجيل ثلاثين سنة- التحق بالرهبنة فيها بضعة آلاف فى كل جيل يقارب عددهم عدة ملايين حتى الآن.. فكم من هؤلاء كانوا هم حقاً المدعوين "الذين أُعْطِىَ لهم" وكم هم الدخلاء؟ خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار أنه فى أحلك عصور الذمية ظلاماً وظلما هرب الأقباط جلهم إلى الصحارى والأديرة مُخلِّفِين وراءهم أرضهم المزروعة للبوار جَرَّاء إِغلاظ الجزية إلى حدٍ هائل لا يحتمل.. واكتظت بهم الأديرة دون أن يقصدوها أصلاً ودون أن يكونوا "مدعوين" (مت 9: 10-12) أو "موهوبين" (1 كو 7: 7) لها.
ولعل ذلك يفسر بجلاء لماذا تاريخ الكنيسة يكاد يكون هو تاريخ دسائس الرهبان وصراعاتهم وخيانتهم وغدرهم ويؤس أفعالهم.. فضلاً عن أنه تاريخ عبودية الأقباط للإكليروس.. وعبودية الإكليروس للحكام الظالمين الباطشين القساة.. الذين فرضوا بِحَد السيف وتهديدات الفناء الذمية والإنكسار وأخلاق العبيد على الرهبان والإكليروس والشعب الذليل.
ثم يسجلون بعد ذلك فى الفلكلور الكنسى قصصاً سنكسارية خرافية حافلة بكرامات العبث والشعوذة لتخطف قلوب وعقول المغيبين بخيالات القداسة الزائفة فيقترفون بذلك أكبر افتئات على اللـه والرسالة المقدسة تم على طول التاريخ وعرضه.
لكننا إذا بحثنا فى جذور هذا التقديس العجيب للرهبان فى أفئدة القبط الأرثوذكس.. سنجد العجب العجاب!!!
المكانة القَدَاسية العظمى للرهبنة فى قلوب وعقول الأرثوذكس الأقباط تنبع من اعتقادهم الخطأ أن البتولية أسمى من الزواج !!
لكن البتولية ليست أسمى من الزواج..
البتولية ليست أسمى أبداً من الزواج..
ولا أفضلية مطلقاً للبتولية على الزواج..
وإلا لتقوَّض العالم واندثرت الحياة وسقطت إلى غير رجعة إمكانية البقاء واختفت نهائياً كل إمكانية لوجود شعبٍ مقدسٍ للـه!!
ذلك هو الجذع الذى تنبت منه القداسة المزعومة التى يعتقدها الأقباط للرهبنة.. وتسيطر على أفئدتهم وعقولهم.. وتتحكم فى كل حياتهم..
ماداموا رهباناً بتوليون.. وياللهول.. ياللهول.. فإنهم لأسمى عندئذ بما لا يقاس من المتزوجين الذين يمارسون الجنس ويتنجسوا به ، بينما الرهبان لا يمارسون الجنس فلا يتنجسون!!
هم إذن مقدســون!!
فلننسحق أمامهم إذن لننال القبول أمام الأعتاب الإلهية..
ونتمسح بقداستهم لتتبارك حياتنا..
وهذه هى الخديعة الكبرى التى سرت كالنار فى الهشيم على مدى ما يقرب من ستة عشر قرناً من الزمان حتى الآن..
لكن هذه الخديعة تنكشف حتماً لو أعملنا العقل فى هذه المقولات الغاشّة!!
لعل القياسات التغييبية الخرافية التى يروجون بها لأفضلية البتولية على الزواج تتهاوى وتسقط إلى غير رجعة..
... ...
وبادئ ذى بدء.. يسوع المسيح.. اللـه الظاهر فى الجسد.. لا يقارن به أحد مطلقاً.. لأنه "أَخْلَى نَفْسَهُ،
آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ
مَوْتَ الصَّلِيبِ"(فى 2: 7 و 8) ، فلا يقاس ببتوليته بشر، ولا تؤخذ بتوليته عَلماً على الأفضلية لبشر يفعل ذلك.. فالقياس ينعدم مع "اللـه الظاهر فى الجسد"!!!
والسيدة العذراء مريم.. أرفع النماذج البشرية قاطبة.. لم تكن رفعتها هذه لأجل بتوليتها بل لأجل اختيارها السماوى لتكون شريكاً بالروح القدس فى "اللـه الظاهر فى الجسد"، وتكون وعاء التجسد المختار من السماء.. وهى "يَنْبُوعٌ مَخْتُومٌ" (نش 2 : 12) أو "بَابِ مُغْلَقٌ" (حز 44 : 2)، بحسب النبوة.. خارج القياس تماماً.
... ...
تبقى بعد ذلك كل النماذج البشرية قابلة للقياس..
فإذا نظرنا أفضلية البتولية المزعومة فى مقابل الزواج تتهاوى هذه الفكرة الخبيثة سريعاً ويظهر جلياً تهافتها المفضوح.
كان آدم أول البشر.. ولو كانت البتولية أرفع من الزواج ما خلق اللـه لآدم حواء أبداً.. ولما أوجدها نظيراً متحداً به.. منه وإليه.. فى إعجاز الخلق الإلهى المجيد!!
وكان إبراهيم أبو الآباء متزوجاً.. ولو كانت البتولية أرفع من الزواج لما وعده اللـه بنسل "كرمل البحر ونجوم السماء" (تك 12 : 32) و (عب 11 : 12).
وكان موسى متزوجاً.. قائدَ شَعبٍ ونبياً للـه.. ولو كان الزواج أدنى من البتولية ما رفعه اللـه إلى هذه المرتبة الأسمى التى تحدث إليه فيها – جل جلاله – وسلمه فى يديه لوحى الشريعة مكتوبين من اللـه -سبحانه- ليوصِّل شريعة أحكام وصايا اللـه وسموها للبشر أجمعين.
وكان داوود متزوجاً.. ملكاً ونبياً للـه.. ولو كان الزواج أقل درجة من البتولية لما شهد له اللـه: "وَجَدْتُ دَاوُدَ بْنَ يَسَّى رَجُلاً حَسَبَ قَلْبِي"(أع 13 : 22).
وجميع الرسل الذين تتلمذوا على يدى يسوع كانوا متزوجين.. ولو كانت البتولية أرفع من الزواج لاختارهم يسوع من بين الذين لم يكونوا قد تزوجوا بعد.
بولس وبرنابا وحدهما ممن تتلمذوا بعد الصعود فَضَّلا أن يخدما بتوليين لثقل الخدمة ذاتها وليس لأفضلية البتولية على الزواج، حتى إن بولس الرسول يقول فى معرض الرد على الذين احتجوا على سيرته: " هذَا هُوَ احْتِجَاجِي عِنْدَ الَّذِينَ يَفْحَصُونَنِي... أَلَعَلَّنَا لَيْسَ لَنَا سُلْطَانٌ أَنْ نَجُولَ بِأُخْتٍ زَوْجَةً كَبَاقِي الرُّسُلِ... أَمْ أَنَا وَبَرْنَابَا وَحْدَنَا لَيْسَ لَنَا سُلْطَانٌ"(1 كو 9 :3 - 6).. وهذا دليل قوى على تساوى المرتبة بين الزواج والبتولية.. ولا أفضلية مطلقاً للبتولية على الزواج..
الأصل فى الوجود هو الزواج.. وهو الكمال البشرى.. وهو السواء..
الاستثناء هو انعدام الزواج.. وهو الشذوذ البشرى.. الذى لا يُعْفِى منه ويُسَوِّغ قبوله إلا أن يكون هبة سماوية، وعطية من اللـه، وقدرة استثنائية تجعل هذا الشذوذ (أى غير طبيعى)، مقبولاً بالكاد إذا اختاره الذين يؤثرونه لأنفسهم بحسب قول يسوع حين ظن تلاميذه بأفضلية عدم الزواج: "لَيْسَ الْجَمِيعُ يَقْبَلُونَ هذَا الْكَلاَمَ بَلِ الَّذِينَ أُعْطِيَ لَهُم (على سبيل الهبة). لأَنَّهُ يُوجَدُ خِصْيَانٌ وُلِدُوا هكَذَا مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ، وَيُوجَدُ خِصْيَانٌ خَصَاهُمُ النَّاسُ، وَيُوجَدُ خِصْيَانٌ خَصَوْا أَنْفُسَهُمْ لأَجْلِ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَقْبَلَ فَلْيَقْبَلْ"(مت 9: 10-12).
ذلك هو مبدأ التبتل الوحيد للَّذِينَ أُعْطِيَ لَهُم (على سبيل الهبة الشخصية مثل أية هبة أخرى تعطى لآخرين، كقول الرسول بولس: " كُلَّ وَاحِدٍ لَهُ مَوْهِبَتُهُ الْخَاصَّةُ مِنَ اللهِ. الْوَاحِدُ هكَذَا وَالآخَرُ هكَذَا"(1 كو 7 : 7))، الذين ولدوا هكذا من بطون أمهاتهم، والذين خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السموات، وهؤلاء لا يكرمون أبداً لأنهم هكذا قد طُبِعُوا على البتولية أو طَبَعُوا أنفسهم عليها ولكن يكرمون –إذا كُرِّمُوا- لأجل الرسالة التى ينذرون أنفسهم لأجَلها..
فالكرامة ليست أبداً للبتولية.. بل للرسالة..
لأنه لو أراد الجميع أن يبلغوا الأفضلية المزعومة، وقرروا معاً أن ينسحبوا من الحياة لما كانت هنالك حياة..
ولاندثرت الحياة نهائياً فى لحظة..
ولعاندوا جميعاً إرادة اللـه العلية فى الخليقة كلها..
هذا التصور المخبول بأفضلية البتولية على الزواج يجب أن يزول فوراً..
انسفوا هذا التعليم السقيم جملة واحدة وإلى الأبد..
أحرقوا كل كتابات الأسلاف حول هذه الأفضلية الكاذبة.. وطهروا منها التاريخ المكتوب كله..
لأن البتولية ليست شيئاً أبداً يُفَاخِر به أَحَدٌ على الزواج..
وليست شيئاً يسمو أبداً على الزواج..
الزواج هو الأصل.. وله كل الكرامة..
البتولية هى الشذوذ.. ولا كرامة لها إلا إذا كانت مشروطة "بهبة الطبع" وبشرف الرسالة..
عالجوا هذا الظن السَّئِ فى سلوككم اليومى فلا يعود الرهبان ومن على شاكلتهم من الإكليروس مكرمين فى نظر الناس لأنهم أطهر من الناس لأنهم بتوليون..
لا.. فالأطهر بالقلب وليس بالهبة الطبيعية..
والأطهر بالروح وليس بالانتقاص من مناقبية الجنس فى الزواج..
لتسقط إلى الأبد فَرِيَّة البتولية الموظفة جهلاً وافتئاتاً للعلو على السذج المساكين الذين لأجل الجنس الذى يقوم عليه الزواج وَقَرَ فى قلوبهم أن البتوليين أطهر منهم وهم وحدهم المقدسون!!!
ليزول مرة واحدة وإلى الأبد هذا التصور الخبيث الذى أعمل الفساد الدينى فى الكنيسة الآن ومنح الرهبان ومن على شاكلتهم من الإكليروس قداسة خرافية جهول مكنت لسيطرتهم الزمنية والروحية على البؤساء مهما بلغوا من ارتحال مُفْجِع عن مقاصد اللـه.
ولعلنا فى مقابل هذا الزعم الخبيث نكشف عن "مناقبية الجنس" فى الزواج وشرفه وسموه وقدسيته..
ليس الجنس حاجة "جسدية" مستقلة فسيولوجيا لدى الإنسان.. فالوظيفة الجنسية ترتبط صميمياً بالشعور والخيال والشخصية ككل.. ولذا فالجنس مندمج بالتالى فى الحركة التى تدفع الشخصية إلى تحقيق ذاتها على أكمل وجه فى إطار علاقتها بالكون والمجتمع والناس فيحمل فى طياته بذلك معنى إنسانياً واسعاً..
والجنس بحد ذاته ينزع إلى اتصال صميمى بالآخر، وذلك هو معناه الإنسانى الجوهرى الذى يتحول عند الصوفى (أو المكرس للـه) فيصير طاقة حب للاتصال الصميمى باللـه.. فالإنسان لابد أن يخرج أبداً من العزلة.. والجنس وسيلته إلى كسر هذه العزلة بالاتحاد الكامل بكائن نظيره يكمل نقصه.. كائن على صورته لكى يتاح له الإندماج به، ومختلفاً عنه كى يستطيع أن يكتمل به.. كائن هو بالضرورة جنسه الآخر.. وإلا ففى الحالات النادرة الاستثنائية (الشاذة) يستحيل الجنس إلى طاقة للتوجه إلى كائن أعلى لا يُرى ويستحيل الاتحاد به. لأن اللـه العلى القدوس لا يمكن لأحد أن يرى وجهه ويعيش:" لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَرَى وَجْهِي، لأَنَّ الإِنْسَانَ لاَ يَرَانِي وَيَعِيشُ"(خر 33 : 20).
لقد أدرك عالم النفس الفذ "فرويد" ذلك فاضطر على ضوء اكتشافاته إلى تجاوز المفهوم الضيق للجنس إلى مفهومه الحقيقى الشامل بوصفه "غريزة الحياة".. التى يبلغ الجنس غايته فيها بوصفة "طاقة اتحادية" تتجه إلى الحب الذى وصفه الرسول بولس فى رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس (1 كو 13: 1-8)، فتتجاوز الجنسية الظاهرة إلى الإنصهار الذى لا يُرَد إلى حاجة جسدية بل إلى اتحاد بالآخر المُكمِّل.. ليبلغ قسطاً من الملء الذى يصبو إليه بكل جوارحه.
فى مناقبية الجنس.. أى سموه وأخلاقيته.. تتكشف آفاق بعيدة..
فليس من قبيل الصدفة أن تتكلم النصوص الدينية الكبرى لغة الحب.. لأن التوق الدينى ما هو إلا إعلاء للطاقة الجنسية من الصعيد البيولوجى إلى قمم الخبرة الصوفية.. وهو ارتقاء لا يكون إن لم يحمل الجنس فى ذاته طاقة تدفعه إلى تجاوز ذاته إلى ما لانهاية.. وإذا لم يكن المطلق مستقطباً له فى الصميم.. فيتجلى فى الحب ذاته طابع قدسى يهيئه للتعبير عن وقائع تتجاوز مجريات الحياة اليومية..
النزعة إلى المطلق هى تعبير عن الجنس، كما أن فى الجنس تهجئة للسعى البشرى المطلق أى رمزاً للمطلق..
إن السعى الجنسى عند الإنسان يستهدف بلوغ ملء يتجاوز ما يحصل عليه الإنسان عادة من خبرات الوجود، حتى لكأن الإنسان ينشد من وراء الممارسة الجنسية تحقيقاً مطلقاً للذات، وهذا ما تعبر عنه اللغة الشعبية الفرنسية – مثلاً – حين تطلق على "النشوة الجنسية" عبارة "السماء السابعة" التى هى فى اللغة الصوفية "ذروة الاتحاد بالألوهة".
وما يتجلى فى الخبرة الجنسية بشكل عام يتضح جلياً فى الحب الذى يتبلور فيه الجنس ويتسامى. فالحب خبرة بشرية يستقطبها المطلق على نحو صارخ حتى ليشعر المحبان أنهما يبلغان ذروة الوجود، ويرتقيان عالم الخلود، فيبدو الحب كأنه طريق الاتصال بالكون لإنسان يَقُضُّ مضجعه الموت.
ولقد عَبَّرت المفكرة المعاصرة "سيمون فايل" عن ذلك بقول مدهش: "إن ما يستقطب الحب الجنسى إنما هو السعى إلى الاتصال بجمال الكون ومن خلاله بالحكمة الإلهية".
فالجنس فى نزوعه للمطلق لا يستقطبه إلا الملطلق ذاته.. إلا اللـه. فاللـه هو "المُشْتَهَى بالحقيقة"، كما يقول طقس بيزنطى فى الصلاة.. إليه تسعى فى آخر المطاف حركة الجنس عند الإنسان: "العشق هو اشتهاء الأبدية".. إنه "سعى إلى اللـه من خلال المخلوق".. وهذا ما أدركه المتصوفون الكبار: "اللـه يتجلى بنظر كل محب فى محبوبه.. ذلك لأنه من المستحيل أن يعشق المرء كائناً ما إن لم يتصور فيه الألوهة".. حتى لقد كتبت "سيمون دى بوفوار" فى كتابها "الجنس الثانى": "لقد حُدِّد الحبُّ للمرأة كدعوتها الأسمى.. فعندما توجهه إلى رجل تفتش عن اللـه فيه.. الحب البشرى والحب الإلهى يختلطان.. ليس لأن الحب الإلهى إعلاء للحب البشرى.. بل لأن الحب البشرى هو أيضاً حركة تجاه ما يتجاوز الإنسان نحو المطلق".
وهكذا تتألق مناقبية الجنس.. ويتكشف سموه وأخلاقيته:
فاللـه متعال على الجنس: "أنا الكائن الذى يكون" أو "أنا من أنا".. أى أن "جوهرى لا يمكن أن يُدْرَك" (الكتاب المقدس).
والجنس فى أصالته مكان حضور إلهى: "فعندما يتحد الزوج والزوجة فى الزواج لا يظهران بعد كشئ أرضى.. بل كصورة اللـه نفسه" (ذهبى الفم).
وفى سفر التكوين يؤكد: "ذَكَرًا وَأُنْثَى خَلَقَهُ"(تك 5 : 1 و 2).. خَلَقَه.. خَلَقَه.. باستعمال مدهش للضمير بصيغة المفرد فيما هو يتكلم عن اثنين.. ذكراً وأنثى.. "لأنه فى كلامه عن الاثنين يتحدث اللـه عن واحد" (ذهبى الفم) كأنما الوحى الإلهى يؤكد أن ذلك المخلوق على صورة اللـه ليس الإنسان الفرد، إنما هو الشركة الإنسانية التى يشكل اتحاد الرجل بالمرأة أسمى تعبير عنها. إذ اتحاد الرجل والمرأة يشكل هذا الإنسان الكامل، هذا "الآدم" (بمعنى إنسان) – كما ورد فى النص الإلهى – الذى هو على صورة اللـه..
... ...
ثم يأتى مخبول ليقول بأن البتولية أرفع من الزواج؟؟
"الجنس البشرى فى اكتماله بالحب مكان للحضور الإلهى".
... ...
الحق إن فى "البتولية" غير المعطاة وغير الموهوبة يخفق الجنس إخفاقاً مروعاً..
ولذا يتخذ إخفاق الجنس لدى الرهبان صور شتى:
أولها: العفة الزائفة: التى تنطوى على تصرفات غريبة عن العفة الأصيلة.. تصرفات تعبر عن خوف من الجنس أو تصدر عن الكبت نتيجة اصطدام الراهب بمجتمع الديرية الضاغط الذى قد يسلمه إلى صراع خفى بينه وبين نفسه، وهذه الازدواجية تجاه الحياة الجنسية للراهب يعبر عنها التعايش بين قمع الجنس والرغبة العنيفة فيه، وهو ما درجوا علي تسميته الحروب الشيطانية الروحية بينما هى لا حروب ولا شيطانية ولا يحزنون.
ثانيها: الكبت بمعنى الإنفصام بين الفكر والسلوك: وبمقتضى هذا الكبت يراود هاجس الجنس الراهب فيمتلئ خياله بالصور الجنسية، ويصبو بملء جوارحه إلى تحقيق الاتحاد الجنسى، إلا أنه لايجرؤ على الإقدام عليه بسبب الضغط الروحى والاجتماعى للحياة الديرية، فيتراجع بدافع الخجل أو خوفاً من العواقب من فقدان أهليته وما شابه ذلك..
والكبت هكذا يكون هو سقوط للعفة المفتعلة.. لأن الامتناع عن الجنس هكذا ليس حفاظاً على أصالة الجنس الإنسانى إنما هو نتاج القصور عن تحقيق الرغبة.
وينتهى الأمر بالراهب إلى الإباحية بفكره وإن كان عفيفاً فى تصرفه الظاهرى.. وهو ما درجوا على تسميته بحروب الفكر التى تعصف بالراهب، ويصورون حولها بطولات زائفة يصنعها الرهبان دونها سائر البشر، ويدللون على نحو مخاتل على سمو الرهبان المجاهدين ضد حروب الشيطان على البشر الآخرين الذين لا يواجهون هذه الحروب، بينما لا هى حرب ولا يحزنون!!
عفته خارجية ليس إلا ، لأنها ليست عفة الفكر والقلب والنية..
لكن مجتمع الدير يفسح المجال بطبيعته لظهور هذا النوع من العفة المنهارة.. وذلك بحرصه فيما يخص المظاهر.. وخداعه فى تربية نقاوة القلب التى تعطى وحدها للعفة أصالتها.. وهذا هو الرياء الذى شاع فى الأديرة والكنيسة فى السنوات الأربعين الأخيرة.
ثالثها: الكبت بمعنى التعامى عن واقع النزعة الجنسية: وهو عملية لا شعورية مقتضاها منع الميول والدوافع الكائنة فى اللاشعور من أن تظهر فى حَيِّز الشعور..
وبدلاً من أن يقوم صراع شعورى بين الرغبة والذات.. تهرب الذات بينما تظل الرغبة قائمة بكامل عنفوانها ولكن بعيداً عن دائرة الشعور.
ويكون الكبت بهذا الحال هو صراع نفسى تعجز "الأنا" عن مواجهته.. فتتعامى عنه وتلوذ بأعماق "اللاشعور". وبالتالى يحاول الراهب أن يبعد الرغبة الجنسية عن نطاق الوعى (أو الشعور) إلى نطاق اللاوعى (أو اللاشعور) فى محاولة للتهرب من مواجهة شفافة وصريحة لذاته.
فعندما يحس الراهب بأن نزوعه الجنسى يشكل خطراً عليه يثير نزوعه ذلك الجزع لاصطدامه بنزعاته الرهبانية التى يتصور أو يقهر نفسه عليها، فلا يجرؤ على اعتماد الحل المنطقى الوحيد، ألا وهو مجابهة تلك النزعة بشجاعة لاتخاذ موقف محدد تجاهها: فإما الإنسلاخ من حياة الديرية والعودة إلى العالم لإشباعها، وإما شجبها نهائياً عند الاقتضاء..
غير أنه فى الواقع يحاول أن يهرب منها بأن يجعل مسافة بينه وبينها.. ولكن هيهات فكيف له أن يبتعد عن خطر يكمن داخله؟ وتكون النتيجة هى اللجوء إلى حل وسط بين الهروب والمواجهة بالتعامى عن وجود هذا النزوع الخطير داخله.. ويظل يخدع نفسه بالإحالة إلى شيطان الحروب.. والشيطان منه براء!!
والكبت بهذا المعنى بعيد تماماً عن العفة.. لأن النزعة الجنسية تبقى فيه على حالها غير مهذبة ، غير مصقولة ، لأنها تم إبعادها عن مركز الشخصية ولم يعد بوسعها أن تتفاعل مع الطاقات الإيجابية الكامنة فيها.. مما يؤول بها إلى أن تصبح جسماً غريباً له استقلاله يتصرف بموجب نواميسه الخاصة بمعزل عن الملكات الإنسانية العليا فى شخص الراهب.
وينتهى الأمر بأن يسلم هذا الإخفاق الجنسى الراهب إلى سبل ثلاثة ليس غير:
أولها: الإغراق فى الجنسية الذاتية
وثانيها: الإنحراف إلى الجنسية المثلية
وقد تسلحت الكنيسة الكاثوليكية بشجاعة مذهلة حين أدانت المثلية الجنسية فيمن ثبت عليهم من رهبانها من ممارسة للجنسية المثلية تم فيها استغلال الأطفال الذكور استغلالاً بشعاً!!
يقول الوحى الإلهى فى الكتاب المقدس صريحاً بلا مواربة: " إنَّ غَضَبَ اللهِ مُعْلَنٌ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى جَمِيعِ فُجُورِ النَّاسِ وَإِثْمِهِمِ"(رو 1 : 18) ، الذين استبدلوا "الاسْتِعْمَالَ الطَّبِيعِيَّ بِالَّذِي عَلَى خِلاَفِ الطَّبِيعَةِ"(رو 1 : 26)، و"اشْتَعَلُوا بِشَهْوَتِهِمْ"(رو 1 : 27) ذُكُورًا بِذُكُورٍ وإناثاً بإناث.
فالجنسية المثلية على ذلك هى إنحراف فاجر أثيم تدفع إليه حياة الرهبنة للذين لم يوهبوا أن يكونوا بتوليين، أى لم يُعْطَوْا هبة أن يخرجوا على ناموس الطبيعة الذى أسسه اللـه حين خلق البشر جميعاً فى آدم وحواء.
وثالثها: الإغراق فى علاقات نسائية عديدة خارج الدير
فوضعية الدير لدى الأقباط كمكمن للبتولية المكرسة والقداسة التاريخية تغذت على مرّ التاريخ بأقاصيص لا تنتهى عن قداسة الرهبان وكراماتهم وقدسية الديرية.. وهى أقاصيص بها ندرة من الحقيقة وغالبية من التأليف والشعوذة وتغييب الوعى التى تم حبكها ببراعة ليستمر نهر العطايا.. ولتتضخم صورة القداسة الزائفة.. فيعمى الناس عن حقيقة الضعف والإنهيار فى الداخل.
على أن هذه الأخيلة الجبارة عن البتولية والتكريس والقداسة والمعجزات والبركة تأتى للدير بجحافل من الفتيات والنساء حاملات الآمال الكبار فى النجاح أو الزواج أو الشفاء أو الخروج من العثرات.. فتتخذن من الرهبان آباء اعتراف أو مرشدين روحيين مما يُمَكِّن الذين يتحرقون منهم من توثيق علاقات لا حصر لها حافلة بالتحرش والغرام والجنس والشهوة، تخفياً فى هالات البركة والقداسة الخداعية المزعومة!!
... ...
ونسأل: ماذا إذن عن أولئك الذين "وُهِبُوا الرهبنة" و"المدعوين لها"؟
ما وضعية هؤلاء الموهوبين المدعوين للبتولية بالنسبة للديرية والرهبنة؟
لعل الأصل فى الرهبنة الحقيقية.. الرهبنة التى هى رسالة فناء للذات (أى الحالة الرهبانية التى فيها الرهبان مدعوين).. أنها رسالة الذين "وُهِبُوا" القضاء على الذات الفردية، والتحرر من أسر الشخصية، من أجل الاندماج فى حقيقة عليا، والفناء فى الذات الإلهية نفسها. وهذه الرسالة تجعل من الحب "طاقة مُوَحِّدة" (بكسر الحاء) فتهيب بالذات الفردية للراهب أن تتنكر لنفسها لكى تتحد بالكل التى هى جزء منه..
لكن هؤلاء حينما يتصورون الحب الصوفى على أنه تحطيم مطلق للشخصية، فإنهم يتناسون أن من شروط الحب توافر التبادل بين المحب والمحبوب.
فيفضى موضوع الحب لديهم فى خاتمة المطاف إلى حالة "عدم اكتراث" مطلق يكون من شأنها أن تستوعب فرديتهم الإنسانية بأسرها.
وهنا لا يلغى الحب الأنانية الشخصية بل يكون استغراق الفرد فى الحب الصوفى كاستغراق النائم فى وسن عميق.. ولكن نظراً لإنعدام كل تجانس بين الموجود البشرى من جهة والهاوية الصوفية من جهة أخرى، فإنه لا يمكن أن تقوم بينهما مشاركة حيوية أو تبادل حقيقى.. وتبعاً لذلك يجد الحب الصوفى موضوعاً للحب دون أن تكون هناك ذاتٌ تُحِب، مادامت هذه الذات قد اختفت وفقدت إنيتها وكأنما هى قد استغرقت فى سُبَات عميق!!
فإذا ما عادت هذه الذات (للراهب أو الراهبة) إلى نفسها فإن موضوع حبها هو الذى يكون قد اختفى عندئذ يحل محل حالة "عدم الاكتراث" المطلق شعور أليم بما فى الحياة اليومية من تعدد مع أنانية شخصية تمتزج بضرب من "الكبرياء الروحية".. عندئذ.. وعندئذ فقط.. يبدأ الراهب فيما اصطلح على تسميته "الجهاد الروحى" ليحاول طوال حياته أن يعود للحظة الأولى للاتحاد بالكل.. لكنها تكون قد انفلتت من الزمن ومن الجهاد.. ويعيش على أثرها يحاول أن يجاهد كل يوم من جديد.. ذلك هو حال الراهب إذا كان مدعواً حقاً..
لكن ذلك يضع الرهبنة – إذا حقت حقاً بالموهوبين والمدعوين لها – على المحك أمام تساؤلات كبرى:
ما جدوى هذا التكريس حقاً إن لم يكن التكريس لأجل إنفاذ الحب فى العالم كدعوة يسوع: " أَحِبُّوا.. بَارِكُوا.. أَحْسِنُوا.. صَلُّوا" (مت 5 : 44).
هل نتعلم من تكريس "الأم تريزة".. ملاك كلكتا.. التى قدمت يسوع لفقراء الهنود وفعلت بكل إخوته الأصاغر ما بلَّغَهم أفاق افتدائه؟
هل يكون للرهبنة القبطية تكريس "الأم عمانوئيل" التى تركت أوربا وسكنت حى الزبالين فى المقطم بالقاهرة لتبذل الحب والخدمة لإخوة يسوع؟
هل نتعلم من تكريس "ليليان تراشر" التى تركت الثراء والمجد والدعة والراحة فى أمريكا ونزلت إلى صعيد مصر حيث المعوزين والمعذبين تقدم الحب للأطفال فى التعليم والفضيلة؟
ألعل ذلك هو التكريس الخالى من شرور الأرض داخل أسوار الأديرة؟..
التكريس الخالى من مطامع الأسقفية وسلطانها وثرائها.. الخالى من تطاحن قلة من "الشواذ" داخل الأسوار على ذاتية منتفخة مدججة يبقى البسطاء تحت بريقها أسرى صورة خداعية للقداسة التى تقودهم للهلاك ..
التكريس الخالى من مجاهدة الفراغ واللامعنى واللاجدوى للفضلاء منهم تحت زعم "الجهاد الروحى" وما هو بجهاد!!
ويبقى السؤال: كيف نميزهم إذن؟
أولئك المدعوين الموهوبين للبتولية والرهبنة.. كيف نتعرف عليهم ونفرزهم من بين الناس؟
للإجابة عن هذا السؤال تحضرنى هذه الواقعة الحقيقية البسيطة:
حكت لى زميلتى فى مدرج المحاضرات بهندسة القاهرة فى نهاية الستينيات، أن أخاها الذى كان قد أنهى الثانوية العامة واحداً من العشرة الأوائل على الجمهورية، قد طلب من والدها الأستاذ بقسم الجغرافيا آداب القاهرة أن يتوقف عند هذا الحد ويذهب إلى الدير لينخرط فى سلك الرهبنة، لكن الأب الحكيم أجابه: "أنت لم تجرب بعد الحياة الجامعية".. فاضطر إلى إنهاء مرحلة البكالوريوس بامتياز مع مرتبة الشرف وتم تعيينه معيداً بقسم الهندسة المدنية، غير أنه ذهب إلى والده يرجوه أن يتوقف عند هذا الحد ويذهب إلى الدير.. لكن الأب الحكيم أجابه: "لم تَعْرَك بعد الحياة العملية ولم تقبض راتباً شهرياً ولم تجرب حياتك كموظف يسعى ويتفوق".. فقبل تعيينه معيداً بكلية الهندسة لمدة سنتين وفى نهايتهما ذهب لأبيه يسأله: "ها أنذا قد جربت كل شئ لكن اشتياقى يتزايد رغم ذلك إلى حياة الزهد والتقشف والرهبنة".. عندئذ قال أبوه: "إذهب يا بنى.. فأنت موهوب لها.. وتلك رسالتك التى قد دعاك اللـه لتؤديها".. وكأن الدير العريق الذى ذهب إليه ليترهبن كان على موعد معه ومع القدر.. فإذا به يُقْبِل على الديرية محافظاً على كل قيمها التاريخية والروحية ويصير فى وقت قصير ذاك المكرس العظيم الذى تطورت أبنية الدير على يديه (كهندس مدنى) تطوراً كبيراً.. ووظّف رب الدير مواهبه البحثية القديرة وإتقانه لسبع لغات منها اللاتينية واليونانية فى مؤلفات كبرى فى البحث الكتابى العميق.. كان فيها الساعد الأيمن لرب الدير الذى صدرت المؤلفات باسمه وبلغت ترجماتها أركان الأرض كلها دون أن يكون له ذكر فيها!!!
وتسألوننى بعد ذلك: "كيف يمكننا التعرف على المكرسين الموهوبين للديرية وحياة الرهبنة؟" فلا أجد إجابة سوى أن تعيدوا قراءة هذا الجزء السابق من المقال مرَّات ومرَّات.
لا يعود أحد يفاخر بتعبيرات مثل: "الرهبنة ضمير الكنيسة"..
وإلا فإن ضمير الكنيسة الآن فسدان!! وحاشا أن يكون ضمير الكنيسة فسداناً هكذا!!
ليبقى ضمير الكنيسة هو يسوع المسيح وحده ولا ضمير آخر غيره..
... ...
هَلاّ أوجزت فى الختام معالم الثورة المنتظرة للخلاص:
لقد آن الأوان لنفحص منظومة الرهبنة ونمتحن ملاءمتها لزماننا المعاصر..
لا مناص من النظر مجدداً فى قيم الرهبنة المتوارثة على ضوء الأغلاط والتشوهات التاريخية، وعلى ضوء تطورات الحياة الحاضرة.. ولا مندوحة من مراجعة التاريخ العريض للسلوكيات الرهبانية لتحديد نطاق القداسة وأساطير الشعوذة..
لابد من التمحيص التاريخى لفرز ما هو مبجل مما هو خسيس..
ولتنقوا السنكسار من قصص الشعوذة الرهبانية التى وُضِعَت لتخطف عقول البسطاء وتوطِّن لسلطان الغيبية القاهر الذى يصور لهم المُشَعْوِذِين كأنهم قديسين..
فى حالات غير قليلة امتزجت الحقيقة بالأسطورة واختلط الفولكلور بالتاريخ وتوارت الواقعة الاستشهادية أو الروحية خلف ركامات من الرغبة الشعبوية فى التمجيد والمسوحات.. وذلك لا يصب أبداً فى مجد الكنيسة بل يقتطع من كرامتها وسمو وجودها..
... ...
غَيَّروا قيادات الكنيسة فوراً..
وانظروا نظرة جديدة لما يسمى بالقوانين الكنسية.. فلقد وضعها أيضاً باباوات بشر وإكليروس..
وبدلاً من أن يقود الكنيسة مجموعة من الشواذ "الذين لم يُعْطَ لهم" ولم "يُوهَبُوا" البتولية فيتخذونها قهراً ستاراً للخزى.. ويتسربلونها زيفاً قداسة خادعة.. فتكون لهم حجابهم الصفيق الذى خلفه ينهبون العطايا والأموال ويتغطون بكرامات هائلة يلقيها عليهم البسطاء وطالبى البركة.
إفك البتولية الخادعة يأخذ برقاب الأقباط الأرثوذكس.. فهل تُتْرَك البتولية عنواناً للتدليس بخديعة القداسة بينما الحياة الجنسية للرهبان "خربانة" و"مشوهة" و"شاذة"؟
لم يُسْمَع أبداً أن رجال الدين فى اليهودية كانوا بتوليين.. و"عالى" الكاهن فى العهد القديم كان رئيساً للكهنة متزوجاً وله ولدان..
هل لأجل ذلك جاء يسوع؟
هل جاء لِيُمَكِّنْ فئة من البشر أن تُدَلِّس وتخدع باسمه بقية البشر فيتخفون فى البتولية الكاذبة ليحكموا سطوتهم تحت إفك القداسة وهم عاطلون عن أى فعل لصالح الرعية!!
هل لأجل ذلك جاء يسوع؟
ليس مهماً أبداً أن يكونوا ممن "أُعْطِّى لهم".. أو "وهبوا" البتولية.. لن يعود ذلك هو معيار الاختيار..
فليكونوا ممن وهبوا أو ممن تزوجوا.. والأفضل ممن تزوجوا.. لا يهم أبداً..
المهم فقط أن يكونوا أسوياء.. أسوياء وليسوا شواذاً.. أسوياء لحمل الأمانة للناس من "قَلْبٍ طَاهِرٍ بِشِدَّةٍ" (1 بط 1 : 22).
... ...
لن يعود بعد يسمى "المجمع المقدس"..
وليطلق عليه منذ الآن "مجمع الأساقفة"..
تفعل الألقاب والمسميات الهولامية فعلاً تخريبياً فى الكنيسة كلها..
فكيف لمجلس أعضاؤه الأساقفة المسئولون عن القطاعات الجغرافية للخدمة ويرأسهم جناب البابا أن يختطف القداسة التى للـه وحده؟
كيف لمجمع البشر الأساقفة أن يحتكر ألقاب القداسة بما يروج لمفاهيم مغلوطة مفادها الضلال والتضليل..
لكن يسوع أتى من وراء القبر بكهنوت الخدمة مقابل كهنوت السلطان.. كهنوت الشيوع مقابل كهنوت الحصرية.. كهنوت الامتزاج بالمستضعفين وتقديم الرحمة المفقودة لهم مقابل كهنوت الافتراق والتعالى.. مؤكداً فى كل دعوته وخدمته أن البشر جميعاً إخوة وفرقاء وأن القداسة فقط للـه.. لأن لا مقدس إلا اللـه.
... ...
عظموا مناقبية الجنس للناس واشرحوه للعامة على نحو بسيط وسديد..
انحتوا خطابكم الجديد للبسطاء والبؤساء والمغرر بهم بأن الزواج مكرم جداً عند اللـه وهو الأصل ودونه الشذوذ..
كرموا الجنس فى الزواج ليأخذ ذات المكانة المعظمة ختلاً وخداعاً للبتولية.. وهى المكانة التى رفعت البتولية افتراءً وكذباً على الزواج؟
بيِّنوا للناس كافة أن الزواج لا يمكن أبداً أن يتدنى عن البتولية.. بل ربما يفوقها سمواً وعلواً إذا انحرفت وفسدت..
عرفوهم أن المعنى الإنسانى العميق للجنس هو معنى سماوى.. واللـه – جل جلاله – قد أراده هكذا للبشر أجمعين.. ولا يخرج عن المبدأ الكونى للخليقة سوى الشواذ وهم قلة لاعتبارات خاصة..
لا أفضلية للبتولية على الزواج..
لا أفضلية للبتولية على الزواج..
أعيدوا النظر فى تنصيب بابا متزوج وأسقف متزوج كما القساوسة تماماً.. فذلك هو السواء الذى كرمه اللـه بعيداً عن الشذوذ فى الحياة الذى لم تُجْعَل له سوى قلة قليلة ممن أعطى لهم..
فالبطاركة الكبار.. إبراهيم واسحق ويعقوب كانوا متزوجين.. وكانوا أسوياء..
والكنيسة عند تأسيسها تَعَيَّن فيها أن " يَكُونَ الأُسْقُفُ بِلاَ لَوْمٍ، بَعْلَ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، صَاحِيًا، عَاقِلاً، مُحْتَشِمًا.. صَالِحًا لِلتَّعْلِيمِ" (1 تيمو 3 : 2) ليكون إنساناً سوياً منزهاً عن شذوذ البتوليين غير المدعوين.
إرجعوا إلى الجذور الآبائية والرسولية لتصح الكنيسة وتعود منارة للملكوت..
اخرجوا من شعوذة البتولية الخادعة غير المؤهلة..
وأسقطوا إلى غير رجعة أسطورة أفضليتها ضد نواميس اللـه..
... ...
طهروا الرهبنة من كل الدخلاء..
اقصروها على "المعطى لهم" فقط..
الذين "خصوا أنفسهم" كقول يسوع و"وُهِبُوا" الرهبنة كقول بولس الرسول..
اختبروهم بنظام وترتيب وعمق كى لا يقترب من الرهبنة سوى المدعوين فقط..
نظموا الرهبنة على قواعد جديدة.. واجعلوا لها وظيفة مختلفة تناسب مقاليد العهد الجديد..
لا تصدقوا كل من يقول: "أنا ذاهب إلى الرهبنة".. اختبروهم ومحِّصُوهم وتأكدوا أولاً أنهم مدعوين.. واعلموا أن هؤلاء المدعوين لن يكونوا سوى أقل القليل بين البشر وليس بالأعداد الغفيرة التى تخفت فى العباءة السوداء وعاثت فساداً دمّر هيبة الديرية والكنيسة.
... ...
جددوا الرهبنة على الأسس القويمة إن كنتم لا تزالون ترون أن بها مجداً تاريخياً محفوظاً للكنيسة..
نقوها من الأدران التى لحقت بها فى الضعف والانهيار..
طهروها من المفاسد المالية والشخصية والهواجس والخزعبلات..
نظموا لها قواعد جديدة..
رهبنة متعبدة.. أم رهبنة كارزة..
اقصوها عن خلافات الفُرْقَة والتطاحن..
نزهوها عن الاستقطاب والصراع..
عندئذ فقط تعود الأرثوذكسية القبطية عن اغترابها فى العالم الحاضر لتحفظ الاستقامة التى جُعلت لها عبر الدهور!!