الأقباط متحدون | موقف المسيح من الدولة الدينية (الثيوقراطية)
ستظهر الصفحة بشكل مختلف لآنك تستخدم نسخة قديمة من متصفح أنترنت أكسبلورر، استخدم نسخة حديثة من انترنت اكسبلورر او أى متصفح أخر مثل فايرفوكس لمشاهدة الصفحة بشكل أفضل.
أخر تحديث ٠٧:٠٠ | الجمعة ١٥ يوليو ٢٠١١ | ٨ أبيب ١٧٢٧ ش | العدد ٢٤٥٥ السنة السادسة
الأرشيف
شريط الأخبار

موقف المسيح من الدولة الدينية (الثيوقراطية)

بقلم: د. جورج عوض إبراهيم | الجمعة ١٥ يوليو ٢٠١١ - ٠٠: ١٢ ص +02:00 EET
حجم الخط : - +
 

بقلم: د. جورج عوض إبراهيم

التيارات السياسية الدينية زمن المسيح

لقد وُلد المسيح وعاش في مناخ سياسي حاد ومتوتر بكل نتائجه السيئة على الشعب، منذ احتلال الرومان لـ"فلسطين" سنة 36 ق.م، وكانت مشكلة الظلم والقهر تجاه المحتلين هي المشكلة الكبرى من بين بقية مشكلات الشعب. أحكم الرومان قبضتهم على "فلسطين" ابتداءًا من سنة 38 ق.م. ومن هذا الوقت أصبحت "فلسطين" لها حكم ذاتي تحت قبضة الرومان.

 

كان "هيرودس" الكبير هو رئيسهم وملكهم (37- 4 ق.م)، ولأنه كان غير يهودي فقد كرهه الشعب كراهية شديدة. وتشهد جرائمه على حكمه القاسي. فهو الذي أمر بقتل أطفال "بيت لحم" من عمر سنتين فما دون (مت16:2). واعتلى بعد موته الكرسي اليهودي ابنه "أرخيلاوس"، وأيضًا حكم بطريقة صارمة، وكان قاسيًا حتى نُفى سنة 6 ب.م بأوامر من أغسطس قيصر "روما"، إثر شكاوى متعددة من اليهود والسامريين. ومن ذلك الوقت صارت الدولة اليهودية مجرد إيبارشية يهودية، تشرف عليها "روما" مباشرة، والإدارة كانت لرئيس روماني كرسيه في قيصرية. أما في الأعياد اليهودية والمواسم، كانت تجري ترتيبات أمنية مشدَّدة، ويذهب الرئيس نفسه إلى "أورشليم" في قصر خاص ليشرف على الأمن هو وحراسه.

 

كان "بيلاطس" البنطي (26- 36 ب.م) رئيس إيبارشية "فلسطين"، والمسئول الأساسي لصلب المسيح. وكان "هيرودس أنتيباس" ابن هيرودس الكبير رئيس ربع على الجليل والمنطقة المجاورة، وهو الذي أمر بقطع رأس "يوحنا المعمدان"، وهو الذي تعاون مع رؤساء الكتبة والفريسيين للحكم على المسيح بالموت. المشكلة الكبرى في زمن المسيح كان الجهاد والصراع ضد قوات الرومان. وهذه المشكلة كانت سياسية ودينية. و"حركة الغيوريين" كانت بمثابة التنظيم الديني السياسي المضاد للرومان. واسم الحركة يرجع لكلمة "ζηλος" باللغة اليونانية، وهي تعني الغيرة للناموس. وأتباع هذه الحركة كانوا يُسمون اسخاريوطيين، وهذه التسمية تأتي من الكلمة اللاتينية "sica" والتي تعني سيف صغير أو سكين، وهذه التسمية من قٍبَل الرومان تعني أن هؤلاء بلطجية ولصوص. لقد تكون هذا التنظيم الأصولي من الكتبة والفريسيين، وكانوا مجموعة معارضة قوية في "فلسطين"، لقد نادى الغيوريون بالحرب المقدسة، والتي لها ثلاثة أهداف:

1- تطبيق الشريعة الإلهية ( الناموس).

2- الحكم بما أنزله اللهθεοκρατια ، وعلى ذلك ينبغي طرد الرومان واستعادة السيطرة القومية والتحرُّر السياسي.

3- تحقيق العدل الاجتماعي على أساس الشريعة الإلهية.

وهكذا كانت حركة الغيوريين مثل أي حركة أصولية لها ملامح دينية وسياسية واجتماعية.

 

المسيح يرفض أن يكون محرِّرًا سياسيًا

إن الغالبية العظمى من اليهود- زمن المسيح– قد انتظروا المسيا على أساس تفسيرهم السياسي لنبوات العهد القديم بخصوص المسيا المنتظر، بكونه سوف يحرِّر مملكة "إسرائيل" من المستعمرين الأجانب، ويستعيد السيادة اليهودية على العالم أجمع. هكذا رأى اليهود– في هذا الإطار السياسي– المسيح على أنه المسيا المحرِّر السياسي. لقد أكَّد المسيح نفسه بأنه هو المسيا المنتظر حين قالت له السامرية: "أنا أعلم أن مسيّا الذي يقال له المسيح يأتي"، أجاب المسيح، قائلًا: "أنا الذي أكلمك هو" (يو 25:4 -26)، لكن الفكر الماسياني الذي كان يعتقده المسيح نفسه يختلف اختلافًا جذريًا عن الفكر اليهودي المعاصر له. لقد رفض المسيح أن يكون "المسيا" بالمعنى السياسي المباشر، خاصةً كان يدرك عن وعي شديد أنه ليس المسيا القومي لليهود بل مسيا العالم أجمع كفادي، كما تنبأ عنه النبي "أشعياء" (أنظر أش 9). وهكذا كان المسيح ضد الماسيانية السياسية، وهذا الأمر يظهر جليًا في التجربة على الجبل (مت 1:4-11، مر 12:1، لو 1:5-13) "5ثُمَّ أَصْعَدَهُ إِبْلِيسُ إِلَى جَبَلٍ عَالٍ وَأَرَاهُ جَمِيعَ مَمَالِكِ الْمَسْكُونَةِ فِي لَحْظَةٍ مِنَ الزَّمَانِ. 6وَقَالَ لَهُ إِبْلِيسُ: «لَكَ أُعْطِي هَذَا السُّلْطَانَ كُلَّهُ وَمَجْدَهُنَّ لأَنَّهُ إِلَيَّ قَدْ دُفِعَ وَأَنَا أُعْطِيهِ لِمَنْ أُرِيدُ. 7فَإِنْ سَجَدْتَ أَمَامِي يَكُونُ لَكَ الْجَمِيعُ». 8فَأَجَابَهُ يَسُوعُ: «ﭐإذْهَبْ يَا شَيْطَانُ! إِنَّهُ مَكْتُوبٌ: لِلرَّبِّ إِلَهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ».(لو5:4-8). واضح أن المسيح لم يرفض فقط هذا العرض بل وصفه بأنه شيطاني. ففي قيصرية فيلبس عندما سأل التلاميذ "مَنْ يقول الناس إني أنا" (مر27:8) كانت إجابات التلاميذ: "يوحنا المعمدان، وآخرون إيليا وآخرون نبي من الأنبياء" (أنظر مر 28:8) عند هذا المستوى يسألهم ثانيةً "وأنتم مَنْ تقولون إني أنا" (مر28:8) يجيب بطرس: "أنت هو المسيح" (مر 29:8) فابتدأ المسيح يعلم التلاميذ أن ابن الإنسان ينبغي أن يتألم كثيرًا ويُرفض من الشيوخ ورؤساء الكهنة ويُقتل. وبعد ثلاثة أيام يقوم" (مر 31:8). هذا الكلام الذي ينبىء عن آلام وصلب وموت وقيامة المسيح قد استفز "بطرس". فأخذه "بطرس" إليه وابتدأ ينتهره (مر32:8). وقد رد المسيح عليه، قائلاً: "اذهب عني يا شيطان لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس" (مر 8: 33).

 

السؤال الذي يفرض نفسه هنا: ما هو سبب هذا التصادم الذي حدث بين المسيح وبطرس؟ بلا شك أن التصادم يرجع إلى الاختلاف الجذري بين فكر "بطرس" عن المسيا وبين فكر المسيح نفسه. لقد اعترف "بطرس" بأنه المسيا، لكنه فُوجىء وصُدم بما سمعه من المسيح، أنه يجب أن يتألم ويُصلب ويقوم. وسر دهشة "بطرس" كانت بالتأكيد مرجعها أنه كان يفهم المسيا مثلما فهمه اليهود وقتذاك. لقد انتظره كمرسل من الله لكى يحرِّر الشعب من سيطرة الرومان، وسيمنحه حرية مطلقة وسلام وسعادة. لذلك أخذ "بطرس" المسيح بعيدًا وانتهره، محاولًا أن يثنيه عن السير في طريق الجلجثة ويقوده إلى الطريق المضاد الذي تبناه الغيوريون، قائلاً: "حاشاك يارب. لا يكون لك هذا" (مت 22:16). لقد كان للمسيح فكر ماسياني مختلف، والذي تجاوز الأُطر القومية والسياسية، لذا أعلن ذاتة كـ"ابن الإنسان" الذي سوف يُقبض عليه من رؤساء "إسرائيل" و"الرومان"، وسيتألم ويُصلب، وسوف لا يقابل الشر بالشر.. إنها إرادة الله أن يسير في طريق الجلجثة "يجب- ينبغي"، وهو متأكد أن المنتصر الأخير لن يكون الشر والموت، ولكن المحبة والقيامة سوف تهزم الموت، القيامة التي فتحت للبشرية المعذبة باب الفداء كما تنبأ "أشعياء" (أش 1:42- 9). وهكذا لم يكن عند المسيح أي تطلع سياسي قومي كأتباع حركة الغيوريين، لذلك وصف رد "بطرس" على أنه شيطاني "ابعد عني يا شيطان".. لقد رفض المسيح بوضوح شديد الماسيانية القومية في اللحظات المأسوية الدرامية للحكم عليه أمام اليهود والرومان، عندما سأله "قيافا": "أستحلفك بالله الحي أن تقول لنا هل أنت المسيح ابن الله" (مت 63:26)، أجاب المسيح: "أنت قلت" (مت 64:26)، أي أنت تقول هذا الأمر وليست هناك ضرورة أن أؤكد لك ذلك، فمزَّق رئيس الكهنة ثيابه، قائلًا: "قد جدَّف. ما حاجتنا إلى شهود، ها قد سمعتم تجديفه" (مت 65:26). هذا يدل على أن إجابة المسيح كانت "نعم". وبحسب إنجيل لوقا (70:22) أجاب المسيح على قول اليهود له "أفأنت ابن الله" قائلًا: "أنتم تقولون أني أنا هو". وهذه الإجابة تعادل قوله في إنجيل متى "أنت قلت". وهذا واضح من رد فعل أعضاء مجمع السنهدريم في (لو 71: 22 )، وفي حديث المسيح مع "يهوذا" (مت 25:26) أثناء العشاء الأخير "أنت قلت" تعني "نعم".

 

مما سبق، نجد أن المسيح قد قَبل من أعضاء المجمع اليهودي أن يكون المسيا، ولكن ينقلهم إلى نبؤة دانيال "منذ الآن يكون ابن الإنسان جالسًا عن يمين قوة الله" (لو 69:22). هذه النبؤة مذكورة في (دا 13:7-14، مز1:109) على المسيا الفادي الإلهي للعالم أجمع وليس على المسيا القومي. وإجابة المسيح على سؤال بيلاطس "أأنت ملك اليهود؟" أجاب "مملكتي ليست من هذا العالم، لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكي لا أسلم إلى اليهود. ولكن الآن ليست مملكتي من هنا" (يو 36:18). إن مملكة المسيح لها طبيعة روحية ولم يأت لكي يؤسس مملكة عالمية ودنيوية، لقد رفض تأسيس حكومة إلهية يهودية. هذا ما يفسِّر تحفظ المسيح على لقب المسيا حتى أوصى التلاميذ في مواقف معينة أن لا يقولوا لأحد عن هويته: "حينئذٍ أوصى تلاميذه أن لا يقولوا لأحد أنه يسوع المسيح" (مر 30:8، لو 21:9).

 

المسيح والدولة

لقد رفض المسيح، كما رأينا، أن يكون المسيا السياسي. وهذا لا يعني أنه لم يأخذ موقفًا تجاه السلطة السياسية في عصره. على العكس- الأناجيل الإزائيةـ رغم أنها كتبت في وقت كان هناك بيئة سياسية عدوانية ضد المسيحية، الأمر الذي يقتضي أن لا يتكلموا عن سياسات الدولةـ قد سجلوا كلمات ليست بقليلة قد قالها المسيح تُغطي موقفه تجاه الدولة. كلمات المسيح عن يوحنا المعمدان: "لكن ماذا خرجتم لتنظروا؟ أإنسانًا لابسًا ثيابًا ناعمة. هوذا الذين يلبسون الثياب الناعمة هم في بيوت الملوك" (مت 8:11)، هذا الكلام عن "الثياب الناعمة" و"بيوت الملوك" يخص رؤساء الرومان والمشتغلين معهم والهيرودسيين الذين يستغلون ويقهرون الشعب اليهودي. وهكذا استنكروا وأدان المسيح السلطة السياسية التي كانت في عصره. أيضًا عندما أخبره بعض الفريسيين أن "هيرودس" طالب بأن يقتله، أجاب: "أمضوا وقولوا لهذا الثعلب ها أنا أخرج شياطين وأشفي اليوم وغدًا وفي اليوم الثالث أكمل" (لو32:13). الكلام هنا عن "هيرودس انتيباس" ابن "هيرودس" العظيم، رئيس ربع الجليل (4 ق.م ـ 39ق.م) الذي قطع رأس "يوحنا المعمدان".

 

عندما علم "هيرودس" عن المسيح ونشاطه وتعاليمه، قال: "يوحنا أنا قطعت رأسه. فمن هو هذا الذي أسمع عنه مثل هذا. وكان يطلب أن يراه" (لو9:9). لقد توقَّع أن القضية هي أن "يوحنا المعمدان" قد قام من الأموات: "هذا هو يوحنا الذي قطعت أنا رأسه. أنه قام من الأموات" (مر 16:6). لقد أرسل كلامه إلي "هيرودس" هذا: "قولوا لهذا الثعلب"، لقد وصفه على أنه "ثعلب"، وهذا الوصف يعتبر من النوع النقدي الثقيل ويعبِّر عن مدى فكر المسيح تجاه السلطة السياسية. أيضًا استنكر المسيح تصرُّف رؤساء اليهود والرومان عند القبض عليه، قائلاً لرؤساء الكهنة والجنود الرومان في جثيماني: "إذ كنت معكم كل يوم في الهيكل لم تمدوا عليَّ الأيادي ولكن هذه ساعتكم وسلطة الظلمة" ( لو53:22). هذا يعني أن المسيح وصف الرئاسة اليهودية وقيادات الجيش الروماني كسلطة مظلمة، هذا الوصف يكشف التضاد الشديد تجاه الرياسات. المسيح يرفض روح التسلط والسيطرة من قبل الدولة ويفضل أن تكون أعمالهم منقادة بروح الخدمة أي خدمة الإنسان: "أنتم تعلمون أن الذين يُحسبون رؤساء الأمم يسودونهم وأن عظماءهم يتسلطون عليهم. فلا يكون هذا فيكم بل من أراد أن يصير فيكم عظيمًا يكون لكم خادمًا. ومن أراد أن يصير فيكم أولًا يكون للجميع عبدًا لأن ابن الإنسان أيضًا لم يأت ليُخدم بل ليخدم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين" (مر42:10ـ45).

 

وهكذا المسيح رفض التسلط والقهر من قبل الدولة تجاه المواطن، مستندًا على أن الدولة يجب أن تكون لخير المواطنين، أي بدلًا من أن تنقاد الدولة بروح التسلط تنقاد بروح الخدمة.. هذا لا يعني أن المسيح رفض الدولة وكان يريد مجتمع بلا دولة، والدليل على ذلك عندما أرسل الفريسيون والهيرودسيون أناس لكي يسألوا المسيح سؤال المصيدة: "قالوا له يا معلم نعلم أنك صادق ولا تبالي بأحد لأنك لا تنظر إلي وجوه الناس بل بالحق تعلم طريق الله.. أيجوز أن يعطي جزية لقيصر أم لا تعطي" (مر13:12ـ14). واضح أنهم قد نصبوا الشباك له- فلو كانت إجابة المسيح سلبية وسيتهمونه عند رؤساء الرومان وهذا الشيء قد فعلوا فيما بعد... (لو2:23). إنه أوصى الشعب أن لا يعطون جزية لـ"قيصر" ولو العكس أعطى إجابة إيجابية، سوف يتهمونه على أنه مساند ومتعاون مع الرومان. لقد أدهشهم المسيح برده، قائلاً لهم: "لماذا تجربونني. إيتوني بدينار لأنظره فأتوا به، فقال لهم: لمن هذه الصورة والكتابة؟ فقالوا لقيصر. فأجاب يسوع وقال لهم: أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله. فتعجبوا منه" (مر15:12ـ17). بهذه الإجابة لم يتجنب المسيح فقط سؤال المصيدة، ولكن لها دلالة إذ عبّرت بوضوح عن موقفه تجاه الدولة. وبكلامه هذا "اعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله" لم يضع المسيح قيصر والله في كفة واحدة. هذه العبارة تعني: أعطي لكل واحد ما ينتمي إليه فإلي قيصر تنتمي العملة (الدينار) المرسوم عليها صورته. أما أنتم فإلي الله تنتمون إذ أنتم صورة الله. المسيح يعرف جيدًا كيف أن الدولة لها حقوق معينة على المواطن مثل حق دفع الضرائب. لكن توجد حدود لا يمكن للدولة أن تتعداها. فهي ليست لها حق علي حياة الإنسان، ليس لها الحق أن تنتهك الحقوق المقدسة؛ لأن الإنسان نفسه وجسده وروحه ينتمون إلي الله. وهكذا كلمات المسيح: "أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله" تحتوي على موقف إيجابي وموقف سلبي. الإيجابي: نقدم لقيصر (الدولة) كل ما ينتمي إليه. السلبي: أن يرفض أن يقدم للدولة ما ينتمي لله، كل شيء مقدس. لا تقبلوا أن تصيروا عبيد للدولة. ويسوع حينما قال "اعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله" لم يقصد بهذا أن قيصر له اختصاص منفصل أو مستقل عن الله، وإنما قصد أن لقيصر اختصاصاته في ضوء محبة الله، نفس الموقف قد أخذه المسيح مع (الرئاسة الدينية) عندما تحدث مع تلاميذه ناقدًا الكتبة والفريسيين: "وأما أنتم فلا تدعوا سيدي لأن معلمكم واحد المسيح وأنتم جميعًا إخوة. ولا تدعوا لكم أبًا علي الأرض لأن أباكم واجد المسيح. وأكبركم يكون خادمًا لكم. فمن يرفع نفسه يتضع ومن يضع نفسه يرتفع" (مت 8:23ـ12). كانت هناك عادة أن يطلب الكتبة والفريسيون أن يدعي من الشعب "ραββί" يا معلم وأب "αββα πατῆρ" ، وهذا يعرفه المسيح جيدًا (أنظر مثلاً متي 6:23ـ7) ولذلك يوصي تلاميذه وشعبه أن لا يدعوا أحد لا معلم ولا أب. المسيح هذا لا يصادر أن يصير أحد معلمًا أو أبًا لكن يرفض أن يفرض أحد نفسه علي الناس أن يكون معلمًا لهم ويجبرهم علي أن يتبعوه كمعلم حقيقي. المسيح على العكس يطالب الإنسان أن يفتش عن الحقيقة "وتعرفون الحق والحق يحرركم" (يو32:8) إنه يرفض على أي حال أن يُنصِّب أحد نفسه معلمًا مدعيًا أنه يملك الحقيقة، خصوصًا الحقيقة التي تحمل معنى أو مفهوم الوجود. هذه الحقيقة الأخيرة تتطابق مع الله نفسه: "أنا هو الطريق والحق والحياة" (يو6:14). أيضًا يرفض المسيح أن يقحم أحد نفسه كـ"مسيا" أو مخلص للبشر: "ولا تدع لك أبًا على الأرض". هذا الكلام يمثل إدانة أساسية لكل ماسيانية وكل محاولة.

 

المسيح من كل ما سبق لم يرفض الدولة، ولكن في نفس الوقت أزال أسطوريتها، وأي محاولة لتأليها. وذلك بأخذه موقفًا نقديًا تجاهها. لقد اعترف بها كمؤسسة هامة للمجتمع البشري، ومن جهة أخرى وضع حدودًا لحقوقها حتى لا تكون أداة قهر وانتهاك لحقوق الإنسان لكن عامل ضمان لاحترام الإنسان. لقد كان المسيح ضد أشمال القهر والظلم وقد أكَّد ذلك بنفسه للكتبة والفريسيين: "أنا عالم أنكم ذرية إبراهيم لكنكم تطلبون أن تقتلوني لأن كلامي لا موضع له فيكم" (يو37:8). يظن البعض أن هناك تضاد بين رأي المسيح عن الدولة كرؤساء وسلاطين، وبين رأي "بولس الرسول" في رومية (ص 13)، إذ أوصي "بولس" الرسول أن تخضع للرؤساء والسلاطين فهم من الله، لكن هذه الطاعة مرهونة بأن تكون الدولة "خادم الله للصلاح" (رو 4:13). وهذا يعني أن الدولة إن لم تخدم الصالح والبار وصارت أداة للشر والظلم على المسيحي- كواجب مقدس- أن يرفض أن يطيع لها، وهذا ما صاغه "بطرس الرسول" أمام المجمع اليهودي: "ينبغي أن يُطاع الله أكثر من الناس" (أع 39:5). إذن لا يوجد تعارض بين موقف المسيح وموقف "بولس الرسول" تجاه الدولة.




كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها



تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :
تقييم الموضوع :