الأقباط متحدون - طوبَى لصُنّاع الفرح
  • ٠١:٠٩
  • الاثنين , ٢٧ اغسطس ٢٠١٨
English version

طوبَى لصُنّاع الفرح

مقالات مختارة | فاطمة ناعوت

١٥: ٠٩ ص +02:00 EET

الاثنين ٢٧ اغسطس ٢٠١٨

فاطمة ناعوت
فاطمة ناعوت

اجتمعتِ الأعيادُ الدينية هذا الأسبوع لتتأكد حقيقتان: الأولى أن الفرح ظاهرةٌ إنسانية، والثانية أن اللَه واحدٌ، نورٌ غامرٌ يُدثّرُ الكونَ، كلٌّ يراه من زاويته.

أما الحقيقة الثالثة فهى أن «صناعة الفرح فنٌّ». فى الموعظة فوق الجبل يقول السيد المسيح- عليه السلام- فى تطويباته التى بدأها بتطويب المساكين والحَزانى: «طوبَى لصانعى السلام».

وبما أن السلامَ يأتى بالفرح، ولا فرحَ بدون سلام، فبوسعنا أن نقول: «طوبى لصُنّاع الفرح». فصناعةُ الفرح فنٌّ رفيع. أن ترسم البسمة على وجه حزين. أن تلوّن عينين مكسورتين بريشة الحُبور.

أن تنقل قلبًا واجفًا راجفًا من خانة الوجع والقلق إلى خانة الدعَة والاطمئنان. تلك رسالةٌ لا يحملُها إلا أخيارُ العالم. وفى تقديرى هى «فرضُ عين» على كل بشرى يمرُّ فوق هذا الكوكب المُثقَل بأحزاننا. لا شك أنكم شاهدتم مثلى إحدى تلك الصور الفوتوغرافية البديعة التى تُخلّد لحظاتٍ وجوديةً بالغةَ الاستثناء فى الحنوّ والعذوبة، اختطفتها عدسةٌ ذكية من جعبة مدونة الزمان التى تعجُّ بمشاهد القتل والدمار والقسوة. طفلان فقيران نحيلان فى أسمالٍ ممزقة، عليهما سيماءُ العَوَز والجوع، الكبير فيهما فى الرابعة من عمره تقريبًا، يمد يده بكسرة خبز إلى الطفل الأصغر ذى العامين، فيمنحه الصغيرُ نظرة امتنان وحب، وتكسو عينيه لمحةٌ من الفرح. ها هنا حزينٌ، منح شيئًا من الفرح، لحزين آخر. مشهدُ قِطّة تحتضن عصفورًا جريحًا، وتلعقُ بلسانها نزفَه ليبرأ. مشهدُ طائر يحمل فى منقاره شربةَ ماء ليسقى ظبيًا مكسور الساق.

ذاك هو فنُّ صناعة الفرح والسلام الذى منحه اللهُ لمخلوقاته. فاستثمر البعضُ تلك النعمة، وملأ الكون جمالا، فى حين أهدرَ البعضُ الآخر مِنحتَه السماوية، فكان كمن «تأبط شرًّا» ومضى ينثر فى الأرض الخراب.

أما فنُّ تحويل المحنة إلى منحة، والعذاب إلى عذوبة، والحزن إلى فرح وجمال، فتلك عبقريةٌ أخرى لا يُتقنها إلا القليلون من البشر. قرأنا قبل سنوات فى جريدة «ديلى ميل» الإنجليزية عن البريطانى وينستون هويس، الذى توفيت زوجته بالسكتة القلبية المباغتة. ضربُه الحَزَنُ المُرُّ. وفى يوم جنازها قرّر أن يشيّد لجثمانها مكانًا للراحة الأبدية يختلف عما درج عليه البشرُ فى بناء الأضرحة والقبور. قرر أن يغزل لها ضريحًا، صناعة يد، Hand made، مثلما تغزلُ المرأةُ دثار تريكو لحبيبها. أىّ ضريح يليق بجميلته التى غافلته، وطارت إلى حيث يطير الأحبةُ ولا يعودون؟ أىّ قبر يناسب حبَّه لها، وهولَ الفقد الذى اعتصره بخسارتها. عشيةَ موتها، بذر آلاف البذور من أشجار السنديان، على محيط مساحة شاسعة من الأرض بلغت ستة فدادين. رسم البذور المنثورة على شكل قلب فارغ. ووضع فى منتصف القلب، مقعدًا وحيدًا، يواجه المنزل العتيق الذى قضت فيه زوجته الراحلةُ طفولتها وصباها وفجر شبابها حتى تزوجها.

ظل الأرملُ يذهب إلى حديقته/ الضريح كلَّ يوم، يسقى البذور ويحرث التربة، ثم يجلس وحيدًا على المقعد ينظر إلى شرفة الجميلة التى لم تعد هناك. يراقب بذوره التى أنبتت براعمَ طفلةً، ثم سيقانًا خُضرًا نحيلة. واشتدَّ عودُ السيقان مع الأيام، واكتست وريقاتٍ خضرًا دقيقات، لتتحول مع الأعوام إلى شجيرات. وظل الأمر سرًّا من أسرار العائلة لا يعرفه إلا الزوج الحزين، والابن الوحيد.

وحين بلغ الزوج السبعين من عمره، كان سبعة عشر عامًا قد مرّت على البذرة الأولى. وكانت الأشجار قد بلغت عنان السماء طولًا وأوراقًا وإشراقًا وعشقًا.

انكشف السرُّ الرومانسىّ للعالم، حين صوَّرَ القلبَ الشجرىّ الأخضرَ مِنطادٌ طائر، فانتشر خبرُ الزوج العاشق فى أرجاء العالم.

هنا فنٌّ جديد ابتكره عاشقٌ حزين. تحويل الوجع إلى بهجة وجمال. ومضة بارقة ألمحت فى عقله لحظة مواراة جثمانٍ حبيبٍ فى الثرى. ربما فكّر أن حبيبته هذه تشبه البذرة الخصبة التى ستنبتُ أوارقًا خُضرًا إن هى زُرعت فى الأرض. فكان أن قرر تحويل الفكرة الفانتازية إلى حقيقة بصرية يراها العالم، فيتعلمون درسَ الحب، ودرس الفرح. فطوبى لصناع الفرح، لأنهم ينثرون فى الأرض السلام.
نقلا عن المصري اليوم

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع