الأقباط متحدون - «تراب الماس».. سلاح الضعفاء والأقوياء.. الجناة والضحايا!
  • ٠١:٠٢
  • الثلاثاء , ٢٨ اغسطس ٢٠١٨
English version

«تراب الماس».. سلاح الضعفاء والأقوياء.. الجناة والضحايا!

مقالات مختارة | طارق الشناوي

٤٩: ٠٣ م +02:00 EET

الثلاثاء ٢٨ اغسطس ٢٠١٨

طارق الشناوي
طارق الشناوي

 تتداخل عوامل متعددة عندما أستعيد شريط فيلم (تراب الماس).. القصة التى كتبها أحمد مراد وتولى كتابتها فى سيناريو، تلك الثنائية والامتزاج الفكرى الذى حققه مراد مع المخرج مروان حامد، وما الذى منحه المخرج من تفاصيل تبدأ بقدرته على تسكين ممثليه فى أدوارهم وحصوله على ذروة درجات المتعة فى فن الأداء، وهكذا شاهدت تألقا خاصا لماجد الكدوانى ومنة شلبى وآسر ياسين ومحمد ممدوح وأحمد كمال وشيرين رضا وإياد نصار، تعانى السينما المصرية من الأداء الصارخ فى التعبير وأيضا الزاعق فى الصوت، حتى لو كان مشهدا رومانسيا، فالكل يجهر وبكل ما أوتى من قوة بالحنجرة، مروان حامد استطاع أن يمنح لممثليه مفتاحا لضبط هارمونية الأداء، وهى من المرات القليلة التى يتمكن فيها مخرج من السيطرة على هذا المفتاح المنفلت دائما.

 
تفاصيل الشاشة من موسيقى هشام نزيه، وتصوير أحمد المرسى، ومونتاج أحمد حافظ، وإشراف فنى وديكور محمد عطية، وملابس ناهد نصرالله، حيث تتعدد الانتقالات النفسية والدرامية والتاريخية، يجب أن تضبط من خلال تلك المحددات، ومضة الموسيقى ولمحة اللون، المخرج يمتلك أدواته فى تكوين (الكادر)، محافظ على جمال التعبير، بكل هذا الثراء السينمائى الذى صرنا نادراً ما نراه فى زمن القحط الذى نعيشه.
 
حضور ليلى مراد فى هذا الزمن كان حتميا، إلا أن ليلى رغم جذورها اليهودية، فإنها فى الضمير المصرى الوجدانى تخطت حاجز الدين تماما، حتى لو كانت فى زمن أحداث الفيلم قد أشهرت إسلامها، الكاتب أخلص أكثر مما ينبغى لروايته، وكان ينبغى أن يتدخل المخرج لحذف جزء كبير من الأحداث التى تم تكرارها سواء فى السرد التاريخى أو اللحظة الآنية، مثل خط شيرين رضا وعادل كرم، المعلومة الدرامية تم تقديمها عدة مرات.
 
فى البدء كانت الكلمة، دعونا نُطل على أحمد مراد، هل من الممكن أن تعيش كذبة لمدة تتجاوز عشر سنوات؟ إجابتى هى قطعا لا، إنه الكاتب الأكثر تداولا طوال ما يزيد على عقد من الزمان، كما أن أعماله الروائية بداية من (فيرتيجو) يجد فيها صناع الدراما ما يُثير شهيتهم، أى أن هذا الجيل، أعنى من يتحلقون فى مدار العشرينيات من العمر وهم يشكلون القوة الشرائية والتسويقية الأولى فى التعاطى مع الكتاب أو السينما هم وقود الأدب والفن بكل أنماطه، هؤلاء وجدوا فيما يكتبه مراد نغمة تعبر عن مفرداتهم، فهو ينطق بلسانهم، فى صوته حروفهم، حتى المتعثر منها، يجب عدم الاستسلام لأرقام التوزيع، حقيقة يجب أخذها فى الاعتبار، فكم خدعتنا فى لحظات متعددة الأرقام.. ولدينا مئات الأمثلة.. ولكن أرجو أن تتأكدوا أننا نتحدث عن لحظات فى عمر الزمن، قد ينجح فيها صوت أو شاعر ويصبح الأعلى توزيعا، ولكن يخبو سريعا الوهج الكاذب. عرف جيلنا كاتب جنس اسمه خليل حنا تادرس، كانت أعماله التى لا يمكن اعتبارها روايات تتفوق على نجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس ويوسف إدريس ويوسف السباعى، إلا أن مراد لا يكتب روايات إثارة جنسية، كما أن زمن كتابات (تادرس) فى عصر (النت) ولّى ولن يعود.
 
مراد على موجة الشباب تماما يعلم أين هى (الشفرة) الصحيحة، لديه (باسوورد) الجيل، وتلك هى اللمحة الصحيحة التى يريد البعض تجاهلها، كما أن التجاهل نجده غالبا عن عمد، عندما نغفل حصوله أكثر من مرة على جوائز من جمعيات أدبية يحكمها فقط قانون التقييم الموضوعى الذى يطبقه الكبار من أساتذة النقد، روايات مراد بها هذا التلاقح بين اللمحة الروائية والسينمائية، وهو أيضا ما يمنحها خصوصية.
 
المأزق أن البعض يريد أن يُخضع هذا الجيل لنفس (الترمومتر) الذين كانوا يستخدمونه فى زمن الكبار، لا يمكن أن تستمع إلى نانسى عجرم بينما مشاعرك تتكئ على شاطئ أم كلثوم، كما أنك فى زمن عبدالحليم لا تعقد مقارنة بين صوته وعبده الحامولى، بل إن عبدالحليم فى بداية المشوار غنى وسخر من الغناء القديم.. أتحدث عن مونولوج (يا سيدى أمرك.. أمرك يا سيدى) ليدشن إبداعه الجديد.. يجب إدراك أنه لا أحد يظل يستخدم نفس المقياس لكل الأزمنة.
 
سألت نجيب محفوظ فى حوار نشرته قبل أكثر من 30 عاما فى مجلة (الوادى)- وهى مطبوعة مصرية سودانية كان الأستاذ الصحفى الكبير عادل حمودة مدير تحريرها- سألت أديبنا الكبير عن الزمن القادم، وهل تقفز أعماله الروائية فوق السور لتتطلع إلى زمن قادم بعيد؟، قال لى: سيأتى جيل جديد بمفردات أخرى، أنا أكتب لهذا الزمن، فى كل الأحوال الناس هى التى منحت نجيب محفوظ النجاح الاستثنائى فى الماضى، وهم الذين منحوه الصمود فى هذا الزمن والتطلع بقوة للزمن القادم، إلا أن مقولة نجيب محفوظ التى أكد من خلالها أنه يكتب لهذا الزمن يجب أن نتوقف عندها، كان أديبنا الكبير ينصح كُتاب الرواية بتعلم حرفة كتابة السيناريو، لا يعرف الكثيرون أنه فى استفتاء السينما المصرية الذى تولى الإشراف عليه الكاتب الكبير سعد الدين وهبة عام 1996 عن أفضل 100 فيلم وأفضل العناصر الفنية، احتل نجيب محفوظ المكانة الثانية كأفضل كاتب سيناريو، وجاء على الزرقانى فى المركز الأول، مع ملاحظة أن نجيب محفوظ كتب دراميا نحو 20 عملا فقط، بينما الزرقانى إنجازه يربو على المائة.
 
نجيب محفوظ كان يمتلك موهبة الكاتب الدرامى المتمكن، إلا أنه لم يكتب سيناريو لأى من رواياته، بينما كتب لكل الجيل من كبار الكتاب، فلقد كان يرى أن عينا أخرى غير كاتب الرواية من الممكن أن تضيف، ورغم ذلك فإن إحسان عبدالقدوس ويوسف إدريس كتب كل منهما مباشرة سيناريو وحواراً لبعض أعمالهما الروائية، وبالمناسبة لم تكن هى الأفضل، الأصح أن أقول إنها كانت الأضعف.
 
(تراب الماس) الفيلم به مشكلات متعلقة بالانتقال الزمانى والنفسى، الرواية تمتد نحو 70 عاما، وتتحرك فى زمن زجزاجى بين مطلع الخمسينيات حتى 2018، الكاتب منحاز لمحمد نجيب، باعتباره ضحية الديمقراطية، بينما عبدالناصر كان يريدها قبضة حديدية، تظل تلك مجرد وجهة نظر لا يجوز أن نطلب من الكاتب أن يتوافق سياسيا مع قناعتنا، ولا تنسَ أن الدولة أعادت الكثير من الاحترام والتوقير لمحمد نجيب، وما آلفنا على أن نردده بأن الرجل كان مجرد واجهة لرجال الثورة مقولة يعوزها الكثير من التوثيق، لا أصادر على من يرى عكس ذلك، ولكن يجب أن نمنح الآخرين حقهم فى اتخاذ الموقف السياسى الذى يقتنعون به.
 
بالطبع لا يرى العمل الفنى النور دون ضوء أخضر من الرقابة، لا تنس أن الرقابة فى كل العهود توصف بأنها تنفخ فى الزبادى، فكيف وافقت هذه المرة وبكل هذه الجرأة على (الشوربة الساخنة)؟!، يبدو ذلك ظاهريا أنها تجاوزت الخط المسموح عندما منحت الموافقة لفيلم ينتقد وزارة الداخلية بكل هذا الوضوح وبكل تلك الصراحة بل والمباشرة.. إحدى الشخصيات الرئيسية العقيد وليد سلطان التى يؤديها ماجد الكدوانى، ضابط فاسد فى جهاز الشرطة، كل شيء لديه مقابل منفعة مباشرة، صفقات تحت (الترابيزة) يحاول تحقيقها مع الجميع وبدون مواربة، كما أن أداء ماجد يمنح الشخصية ألقا وحضورا خاصا، السيناريو لم يلجأ لهذا الحل المباشر وهو قانون التوازى المباشر الذى يضع دائما ضابطا شريفا وبنفس الحجم الدرامى موازيا للفاسد.. نعم، أشار إلى وجود رُتب أعلى داخل جهاز الشرطة تراقب وترصد وتتخذ القرار المناسب ولا يعنيها التستر على منحرف، إلا أنه دراميا لم يضعها فى مقدمة (الكادر)، ولم يكتف بهذا القدر، بل أشار إلى سادية ضابط الشرطة بعد أن تم تجميده وظيفيا، فانهال ضربا على مواطنة تقود سيارتها، شاهدنا قبل نحو 30 عاما الفيلم الرائع (زوجة رجل مهم)، تأليف رؤوف توفيق وإخراج محمد خان، حيث أدى أحمد زكى باقتدار تلك الشخصية، ولكن بات هذا الأمر الآن غير مرحب به.
 
أول سؤال ستتوقف عنده: كيف تعاملت الرقابة بكل تلك البساطة مع الفيلم، بينما فى أفلام أخرى وفى مشاهد أقل تُظهر العين الحمراء؟.. تتحفظ الرقابة دائما فيما يتعلق بصورة رجال الشرطة، بدأ التوجس بقوة فى أعقاب فيلمى (حين ميسرة ) خالد يوسف و(هى فوضى) يوسف شاهين وخالد يوسف، وصارت ترفض التصريح بأى فيلم به عسكرى شرطة إلا بعد موافقة الداخلية أولا.
 
لا أحد قطعا صرح بأن الرقيب أرسل الشريط أولا لوزارة الداخلية، وبعد أن منحوه الضوء الأخضر أباح عرض الفيلم، دعونى أنا أقولها، لأن الأمور غالبا تسير على هذا النحو، ربما حدث تغيير حميد ومرونة أكثر فى تقبل الانتقاد، بعد أن باتت كل الدراما فى التليفزيون والسينما تسعى لكسب ود وزارة الداخلية، كان من المنطقى أن يُسمح بهامش يقف على الجانب الآخر، ربما!.
 
يتساءلون عن علاقة الفيلم بالرواية، وإلى أى مدى أخلص أحمد مراد لروايته التى أصدرها قبل نحو عشر سنوات؟.. الكاتب كان حريصا أكثر مما ينبغى على الالتزام بالحس الروائى، بل كان يبدو أنه صعبان عليه أن تغيب روح الرواية عن الشريط السينمائى، نعم.. مراد مثل أغلب كتاب هذا الجيل شكلت السينما جزءا من تكوينهم الأدبى، وبالتالى فإن الرواية تنطوى أيضا على روح سينمائية، بل أحمد مراد يكتب الرواية بقلم السينمائى وأحيانا يفعل العكس، يكتب السيناريو بروح الروائى، إلا أنه على الورق أكثر انطلاقا ككاتب روائى، كما أن الحوار فى الرواية أكثر مشاغبة وجرأة من الفيلم، الرواية طبقا للقانون لا تخضع لرقابة مسبقة، الكتابة الأدبية مسؤولية كل كاتب، بينما الفيلم السينمائى يظل يحمل أمام المشاهد موافقة ومسؤولية الدولة.
 
بطل الفيلم أحمد كمال، الذى يؤدى دور والد آسر ياسين، أقعده الشلل عن الحركة، فصار من خلال مقعده فى شقته يتابع حياة الجيران، القوة والسلطة والبلطجة وغياب القانون والانفلات بكل تفاصيله، تتعانق جميعا لتعلن عن نفسها من خلال السرد التاريخى الذى قدمه الفيلم لمصر، مع بدايات ثورة 52 وإجبار محمد نجيب على التنحى، وهجرة اليهود بعد 56 ثم 67، ثلاثة أجيال عايشناها، الرواية بالمقياس النقدى أكثر تماسكا فى بنائها من الفيلم، الانتقالات بل القفزات الزمنية وأيضا الشعورية استطاع مراد أن يجد لها حلا أدبيا أكثر انسيابا واتساقا، ولكنها فى المقابل كانت فى جزء منها بمثابة ثغرات على الشاشة، لم يستطع السيناريو خلق حل سينمائى موازٍ لها. كان من المستحيل التضحية بالماضى، عمق (تراب الماس) قائم على المزج الزمنى الدائم، هذا التراب هو ما يتبقى بعد تنظيف الذهب فى محل الجواهرجى اليهودى الذى يؤدى دوره بيومى فؤاد، وهو ما استطاع أحمد كمال الاحتفاظ به، منذ أن كان طفلا يعمل فى المحل اليهودى، تلك المادة تصيب من يتناولها بالموت البطىء، وأغلب من دُس لهم فى الشاى بالفعل كانوا

يستحقون القتل، وهذا هو السؤال المفتوح الذى يصدره لنا المخرج: «هل نطبق العدالة بأيدينا لو عجز القانون عن تحقيقها؟!»، البداية مع القطة التى دس لها اليهودى السم لأنها أصيبت بالسعار، بينما ابنته متمسكة بها، ثم يكتشف الطفل خيانة اليهودى من خلال إشارات يرسلها لطائرات إسرائيلية، فاستحق أن يُقتل أيضا بنفس الوسيلة تراب الماس، وهو ما كرره أحمد كمال بعد أن وصل لمرحلة الشباب فى صديقة زوجته عندما أراد إبعادها عنه، ومع عزت العلايلى الذى يبدو ظاهريا قد نال ثمن فساده السياسى المستحق، وتتعدد الجرائم حتى نصل للضابط المنحرف ماجد الكدوانى، الذى يدس له آسر ياسين السم بطريقة ذكية، فهو ضابط شرطة شديد الذكاء يجب أن يتم استدراجه، كما أن منة شلبى انتقمت من الإعلامى الأفاق المصاب بالسعار الجنسى، الذى قام بدوره (إياد نصار) بعد أن اكتشفت أنه يصور على (سى دى) كل من أقام معهن علاقة، يدّعى الوطنية وهو ينافق فى مشاعره على المستويين الشخصى والعام.. من أهم مشاهد الفيلم ما قدمته منة شلبى وهى تستحم وكأنها تمسح من جسدها أدران هذا الكاذب الذى تخلصت منه، وتبقى يد الدولة التى تضرب به كل من تختلف معه شخصية (سيرفيس) محمد ممدوح البلطجى المدمن ذراع الأجهزة، وهو يفعل كل شىء لمن يدفع، وجاءت أيضا نهايته مشتركة بتراب الماس من آسر ياسين ومن ضابط الشرطة الفاسد ماجد الكدوانى الذى أراد أن ينهى تماما حياته.
 
الفيلم يقدم كل شىء حتى الشذوذ الجنسى و(المازوخية)، لذة المتعة بالتعذيب، ورغم ذلك، كان مروان حامد حريصا على ألا يعبر الخط الفاصل بين التعبير الفنى والتجارية.
 
من أهم ميكانزمات الضحك فى الدراما ما يعرف بـ(اللزمة)، وهى ليست فقط الكلمة، ولكن أيضا تكرار الفعل يؤدى أيضا نفسيا إلى الضحك، وأغلب الشخصيات التى لاقت حتفها حرص المخرج على ألا تشعر كمتلقٍ معها بأى قدر من التعاطف، ولكن لا يصل قطعاً الأمر للضحك، وهذا ترمومتر نفسى آخر نجح فى ضبطه مروان حامد، فأنت تراقبها بعين بها الكثير من الحياد.
 
القتل لمن يستحق؟ كيف يُصبح كل منا هو الممثل الشرعى للعدالة؟، إنه تحذير عالى الصوت فى كل زمان ومكان عندما لا نجد أمامنا سوى (تراب الماس)، فهو مهما تعددت أشكاله سلاح الضعفاء والأقوياء، الجناة والضحايا، أنا وأنت!!.
نقلا عن المصري اليوم
الكلمات المتعلقة
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع