الراهب «الفصامي»
مقالات مختارة | عاطف بشاي
٥٦:
٠٣
م +02:00 EET
الثلاثاء ٢٨ اغسطس ٢٠١٨
وأنا أتابع تفاصيل القرارات الإصلاحية ذات النهج التنويرى التى يتخذها البابا تواضروس لتصحيح المسار المعوج داخل الأديرة.. فقد جاءت تصريحاته حاسمه باترة فى كثير من الأمور.. فإعلانه مثلاً أنه لا تستر على جريمة وإسراعه بإبلاغ الأمن عن واقعة مقتل رئيس الدير.. هى جملة تبدو بديهية ولكنها تعنى الكثير.. إنه منذ هذه اللحظة يقرر نسف المفهوم السابق الذى كان يفرض أن ما يحدث للكنيسة والأقباط إنما هو شأن داخلى خاص.. ذلك حفاظاً على هيبة الكنيسة.. تلك الهيبة التى تخلط بين ما هو دينى.. وما هو اجتماعى أو سياسى.. أو فنى.. وبين ما هو مقدس.. وما هو غير مقدس.. وبين ما هو عقائدى.. وما هو دنيوى.
وهو مفهوم خطير ظل مسيطراً ومازال على عقول سلاطين الكاتدرائية من المطارنة والأساقفه وأتباعهم من القساوسة والرهبان من الحرس القديم.. وتنسحب تلك السيطرة بالتبعية على عقول الرعية.. وخطورة هذا الأمر أنه يكرس لدولة دينية لأنه يعلى من «الطائفية» فوق «المواطنة» ويفرض وصاية الكهنة على حياة الناس.. ويحصر الأقباط.. ويعزلهم ويختصرهم فى وصايا الطاعة والامتثال والسلبية.. ويبعدهم عن المشاركة الاجتماعية فى شؤون وهموم الوطن..
لذلك فإن القرارات الإصلاحية لا ينبغى أن تتوقف عند ترتيب وإصلاح أوضاع خاطئة..
لابد أن تعبر تلك الإصلاحات عن ثورة حقيقية ضد الجمود.. ونسف التقاليد والطقوس والتعاليم البالية لأباطرة العصور الوسطى وكتبهم القديمة.. فالرهبان الذين ينص قانون الرهبنة على أنهم «ملائكة أرضيون» أو «بشر سمائيون».. وهم حماة الإيمان والمسؤولون أمام الله عن عقائد وأسرار الكنيسة وسيأتى وقت يطلب فيه الله الحساب من كل مسؤول عن النفوس البشرية.
يتناقض ذلك المفهوم تماماً مع كون هؤلاء الرهبان بشر من لحم ودم يعيشون على الأرض.. والملائكة لا تسكن الأرض.. وفكرة الحماية لا تختلف عن الفكر السلفى.. فالإيمان تحميه الصلاة لا الأشخاص الذين ينصبون من أنفسهم مطوعون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.. بل إن بعضهم يسرق ويزور ويرتكب المعاصى.. بل إنه يقتل وبوحشية الآخر الذى اختلف معه.. كما حدث فى تلك الجريمة البشعة.
وليس غريباً.. بل إنه من البديهى أن المتطرف فكرياً وعقائدياً يعانى من مشكلات سيكولوجية عميقة تخلق منه شخصية سيكوباتية عدوانية مختلة متبلدة المشاعر.. منغلقة التفكير وانعكاس التأثير النفسى المرضى على شخصية وسلوك وأفكار المتطرف التى تقوده إلى ازدراء وكراهية ومحاولة إقصاء الآخر هى المقدمة المنطقية إلى الإرهاب والقتل.. يغذى ذلك تلك الحياة القاسية المفروضة عليه داخل الدير.. وتناقض القدرة على التكيف.. والعزلة الاجتماعية والفكرية والتصلب المذهبى هى أمور كلها تشى باعتلال الصحة النفسية وبزوغ المرض النفسى.
إن الازدواجية أوالصراع بين «بارانويا الذات» المتفوقة بروحانيات محلقة فوق سقطات وخطايا البشر وإلحاحات الواقع الأرضى المادية.. ورغبات الجسد الملحة.. وبين «بارانويا الاضطهاد» تحت وطأة العزلة (سواء الإجبارية أو الاختيارية).. والصمت.. والسكون.. والفراغ.. والإحساس بالغربة فى ذلك الوجود الإنسانى المدنس وسيطرة وهيمنة الرتب الكهنوتية.. تخلق هذه الازدواجية فصاماً حاداً.. والفصامى يستجيب لأصوات هلاوسه التى تؤكد له هنا (فى جريمة الدير) إن اتهام الأنبا أبيفانيوس رئيس الدير للراهب القاتل بعدم الالتزام بقواعد الرهبنة هو نوع من الاضطهاد بسبب الخلاف المذهبى.. وهذا يدعوه للاستجابة لتلك الهلاوس التى تصور خصمه (مهرطقاً) كافراً ينبغى التخلص منه لخدمة العقيدة وتطهيرها من الشياطين طلباً لملكوت السماوات.. إنه يقتل هنا «الفكرة» أو «الرمز» الذى يتلخص فى أن الضحية يقف حجر عثرة ضد الإيمان الحقيقى إنه هنا يقتل «متى المسكين».. فالفصامى يبدأ تكفير الآخر عنده بتجريده من الإنسانية ووصمه بصفات شيطانية.. وتحدث عمليات إحلال وتبديل داخل عقل المعتدى بين الضحية والجلاد حيث يتحول الضحية إلى جلاد والجلاد إلى ضحية.
وذلك يفسر ما أكدته المصادر ونشرته بعض الصحف أن أشعياء القاتل كان فى حالة نفسية جيدة خلال تمثيل الجريمة وكان يطلق الضحكات وطلب بنفسه إحضار «الفراجية السوداء» ليرتديها أثناء التمثيل.. وقال مشاهد للواقعة إنه قام من على كرسى فى غرفة الاستقبال ورحب بضباط المباحث وقوات الأمن والنيابة قائلاً: تشربوا إيه يا بشاوات؟! وفتح لهم الثلاجة وقدم لهم مياها غازية وعصائر وشيكولاته.. وكان يضحك فى مرح وحبور واستخفاف كأنه قتل أسامة بن لادن مثلاً.
والحقيقة أن أشعياء قد تصور بعقله المريض أن قتل «الطاغوت» بصفته المقدسة كحارس للإيمان ففرح بذلك فرحاً هستيرياً طاغياً.. فهو فى طريقه إلى الفردوس وليس إلى حبل المشنقة.. لقد قرر بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن بقية الملائكة تطهير البشرية من أدرانها.. أليسوا ملائكة أرضيين..؟!.
لابد إذاً أن تتحول القرارات الإصلاحية المحدودة لتعديل التجاوزات إلى ثورة شاملة وتصحيح كامل للخطاب الدينى.. وأزعم أن الاتجاه إلى إعادة الانضباط والصرامة فى التعامل مع الرهبان– كما نصت عليه تلك القرارات الإصلاحية – بمزيد من إغلاق الأبواب والعودة إلى المفاهيم القديمة حيث كان الراهب يتخذ طريقه إلى كهف فى أعماق الصحراء ويعتزل العالم الأرضى نادراً نفسه لدنيا الرب.. ليس هذا هو الحل لأن الدنيا تغيرت والعصر– شئنا أو لم نشأ يفرض وجود قوانينه.
إنى أرى العكس.. افتحوا النوافذ.. واتركوا التواصل بين الرهبان والناس يتنامى فى حميمية وداخل إطار خدمى.. وبدلاً من الفحص النفسى للمتقدم للرهبنة حتى يتسنى معرفة قدرة المتقدم على تحمل صعوبات الحياة فى الأديرة التى تقوم على العزلة بعيداً عن صخب المجتمع الخارجى.. قلصوا تلك العزلة.. حماية للصحة النفسية للراهب من الاعتلال.. واخلقوا تفاعلاً إيجابياً بين الراهب والمجتمع.. بين الأرض والسماء.
نقلا عن المصري اليوم
نقلا عن المصري اليوم
الكلمات المتعلقة