الأقباط متحدون - 31 ـ طريق الرهبنة مخاطر وخبرات ) (جزء2)
  • ٠٠:٠٠
  • الجمعة , ٣١ اغسطس ٢٠١٨
English version

31 ـ طريق الرهبنة مخاطر وخبرات ) (جزء2)

كمال زاخر موسى

مساحة رأي

٥١: ٠٤ م +02:00 EET

الجمعة ٣١ اغسطس ٢٠١٨

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية
سٌلَّم القديس يوحنا الدرجى واسقاطاتنا !!ـ
بقلم :كمال زاخر
توقفت كثيراً أمام حالة الإستقطاب الحادة لدينا فى تناولنا للرهبنة خاصة بعد مصرع أسقف دير أنبا مقار، حتى من غير المهتمين بهذ المنظومة، وكثيرهم لا تتجاوز علاقتهم بالكنيسة هامش العادية والمناسباتية، فإذا استثنينا الفرقاء المحتربين من المشهد الصاخب نجدنا أمام فريق ثالث ذهب إلى اسقاط كل اخفاقاته وأحلامه المثالية الحياتية والروحية غير المحققة على الرهبنة والأديرة، يطالبها بأن تكون هى البديل الذى يترجمها ويحققها، فتراه حاداً فى تقييم واقعها ومغرقاً فى استحضار النموذج التاريخى الآبائى، ومقارنته بما هو حادث ـ أو بالقدر الذى يعرفه عنه ـ فيجد لنفسه تبريراً وأنه أفضل كثيراً من كل هؤلاء.
فيما يذهب البعض إلى التعامل معها باعتبارها مجتمع بشرى شأن كل التجمعات البشرية النوعية ويبرر ما اعتراها من ترهل ومفارقة لضوابطها الأساسية بأنه متسق مع التغيرات الإجتماعية ومعطيات الحياة المعاصرة، وفقاً لنظرية الأوانى المستطرقة.
بينما يطالب أخرون بمراجعة التزامات وأسس تلك المنظومة بالقدر الذى يحولها إلى خدمة المجتمع خارج اسوارها، فما الفائدة التى تعود علينا ـ كنيسة ومجتمع ـ من وجود نفر من الناس انقطعوا عن العالم ولديهم امكانات وقدرات تبقى حكراً عليهم بينما البقية يهلكون جوعاً روحياً ومادياً؟.
ولا يتنازل فريق أخر عن المطالبة أن يعيد انتاج رهبنة القرن الرابع كما هى، دون أن يعترف بما اعترى الحياة من متغيرات سواء فى الشكل أو المضمون، وبغير أن ينتبه إلى أن "قلاية" ذاك الزمان لم تكن بعيدة كثيراً عن مسكن المصرى البسيط آنذاك، فى هندستها ومبناها، بغير زخرف المدينة، وفى هذا نذكر ما قاله الأب متى المسكين حين انتهى من تجديد دير أنبا مقار رداً على منتقديه لتوفيره "قلاية معاصرة" لرهبان الدير، تتوافر فيها مستلزمات المعيشة الأساسية، ومرافقها الحيوية، المياه النظيفة والكهرباء، وسرير ومكتب وبضع ارفف لكتبه وأوراقه، ومكان للجلوس، فكان رده أنه لا يعاقب الراهب على رهبنته ولا يسلمه لصراع يشتهى فيه هذه الاحتياجات بلا مبرر، وأن تصميم القلاية يضم الى جانب هذه الغرفة مكان لا يزيد عن كونه جدران وأرضية تسمى فى العرف الديرى "محبسة" يمارس فيها الراهب عباداته وقوانينه ونسكه، وكانت تعليماته لكل الرهبان واضحة ألا يضيف الى غرفتى قلايته شئ أو يدق فى حوائطها مسماراً فهو مجرد نزيل يقضى فيها أيامه، ثم تؤول إلى قادم جديد، امعاناً فى تأكيد قيمة "عدم القنية" و "التجرد". واللافت أن نموذج هذه القلاية انتقل إلى بقية الأديرة بدرجات متفاوتة.
والرهبنة بالضرورة مسار ينتهى إلى التعرف على شخص المسيح والحياة فيه، لكونه "الطريق والحق والحياة"، والتيقن أنه ليس بأحد غيره الخلاص، ولكونها "مسار" اختيارى فيتوازى معها مسارات أخرى تتحقق وتوجد وسط الناس، دون أن نجد انفسنا أمام مفاضلة بينهم، أو أن يفتخر مسار على آخر، "واما من افتخر فليفتخر بالرب، لانه ليس من مدح نفسه هو المزكى بل من يمدحه الرب" (2 كو 10 : 17).ـ
وقد واجهت رهبانيات عديدة فى كنائس تقليدية أخرى ما استجد فى الحياة خارج وداخل الكنيسة، وتطور انماط الخدمة الكنسية وتشابكها، واستطاعت أن تعظم الإستفادة من طاقات الرهبنة السوية، والتى فيها استطاع الراهب ـ والراهبة ـ أن ينتصر على الذات والطموحات والشهوات ومغازلات الإمتلاك وتداعياته، وثلاثية "شهوة العين، شهوة الجسد، تعظم المعيشة"، بحسب كلمات القديس يوحنا، التلميذ الذى كان يسوع يحبه، "لا تحبوا العالم ولا الاشياء التي في العالم. ان احب احد العالم فليست فيه محبة الاب، لان كل ما في العالم: شهوة الجسد، وشهوة العيون، وتعظم المعيشة، ليس من الاب بل من العالم، والعالم يمضي وشهوته، واما الذي يصنع مشيئة الله فيثبت الى الابد" ( 1يو 2 : 15ـ 17).ـ
 
خبرات وجهادات مواجهة هذه التحديات منحت هؤلاء طاقات وقدرات روحية هائلة، رأت تلك الرهبانيات أن توظفها فى خدمة النفوس فى العالم، وحتى تحافظ على النسق التقليدى للرهبنة، اتجهت إلى تأسيس نسق موازى يلتزم بمحاور الرهبنة فى ثلاثة منها، دون العزلة أو التوحد، فكانت حركة التكريس فى العالم، أو كما يسميها البعض "الرهبنة الخادمة"، ووضعت لها ما يناسبها من قواعد وضوابط، لتنطلق إلى العالم تخدم وتقدم المسيح للكل، على غرار السامرى الصالح الذى أشار إليه المسيح فى أمثاله التى كان يضربها للناس، ونجحوا فى أن يقدموه هو للفقير والمريض والحزين، وكل من هم فى ضيقة، تحت أصعب الظروف فى مجاهل القارات وفى وسط اهوال الحروب والكوارث الطبيعية.
 
ونحن هنا في مصر لنا تجارب فى طرق ابواب التكريس، بدأت علي استحياء بشكل فردي. ولعل ابرز هذه الخبرات الارشيدياكون حبيب جرجس وكان مناضلاً فذاً ومثابراً وهو بحق باعث اليقظة القبطية المعاصرة، وقد اقرته الكنيسة واحداً من قديسيها. 
وكذلك الارشيدياكون رمسيس نجيب الذى انتبه إلى خدمة الشباب الجامعى، فأسس بيت الشمامسة بالجيزة، وعنه يقول "وضع حجر أساس هذا البيت فى عام 1955 وسكنت أول مجموعة به عام 1960 وفى عام 1965 أنشئ الدور الثانى، وفى أوائل السبعينيات تم البناء.. وكان فى البداية اسمه “بيت الشباب الجامعى” وفكرة إنشاء البيت جاءت من خدمة المغتربين للدراسة بجامعة القاهرة فكان هناك خمس شقق لكل شقة فى أحد الأحياء بها مجموعة من المغتربين وهذا البيت جاء من قلب الخادم القدير الأب القمص صليب سوريال صاحب كتاب “نظم الخدمة” أو الكتاب الأحمر نسبة إلى غلافه وكان هذا الكتاب بمثابة دستور للخدمة والعمل الروحى وفى عام 1975 وله بيت آخر للشمامسة بمدينة 6 أكتوبر للمغتربين هناك حيث كان وقتها بسبب –خلو المدينة من السكان- منتشر الفساد والدعارة والإدمان، لذلك كان لابد من وجود حصن للمغتربين من الطلبة وبالفعل تم بناؤه فى 9 أشهر". (من حوار معه أجرته جريدة وطنى المصرية ونشر على موقعها قى 2مارس 2014) 
وافتتح نسق الكتابة للشباب باسلوب يناسب طبيعتهم، فاصدر العديد من الكتب التى اقتحمت وقتها تابوهات الحب والجنس ليطرح من خلالها الرؤية المسيحية فيهما، وكيف يتعامل الشباب مع قضاياهما، وفى هذا يقول "اتخذت أسلوباً بسيطاً فى الاصدارات التى ينشرا “بيت الشمامسة” وهى أن تضع للقارئ المعلومة من خلال قصة تدخل “قلبه” وبهذا المنهج تجد سلسلة “فضائل فى حياة القديسين” التى منها كتب “المحبة والعفة” وهناك أسلوب التساؤلات الشبابية فالقارئ اليوم يحتاج إلى “سندوتش” ومن خلال خدمة الشباب طوال هذه السنوات تكررت عندى الأسئلة التى يطرحونها فالموضوعات تدرس عشرات المرات، مما يعطى خبرة كبيرة فى مجال الأمور الاجتماعية… ويظهر ذلك فى كتب “طهارتى-الاختلاط”… وإلى جانب ذلك هناك كتب عامة مثل: “معاملات المسيح مع الخطاة”… والمهم فى الكاتب أن يحترم بالأساس ثقافة الاختلاف.. وأذكر عبارة جميلة تقول: “كان عندى 5 أولاد ربيتهم بالأحرى تربيت على أيديهم، وهذا هو الأب والخادم والقسيس الناجح فالذى يعلمه هو نفسه يتعلمه." (المصدر السابق)
وتخرج فى هذا البيت اجيال من الشباب انخرطوا فى الحياة العامة فى ربوع مصر وخارجها فكانوا سفراء للمسيح والكنيسة والوطن يقدمون صورة حية فاعلة ومؤثرة فى تلاحم وسلام المجتمع.
وثالث نموذج هو الدكتور نصحى عبد الشهيد مؤسس مركز دراسات الآباء، وأحد أهم مؤسسى بيت التكريس والذى حمل شعلته وأصر على استمرار رسالته التنويرية وأعاد التواصل بشكل اكاديمى مع تراث الآباء وقاد تيار الترجمة والدراسات العلمية لكتاباتهم، وقد تناولنا دوره فى فصل سابق من هذا الكتاب. [راجع فصل : ضوء فى نهاية النفق (البناء الصامت).]
وشهدت الكنيسة محاولات لبعث حركة تكريس الفتيات، لكنها ظلت مرتهنة برؤية الأسقف المتبنى لها، وتنتهى التجربة أو تذبل برحيل الأسقف، وإن كانت هناك ارهاصات لتنظيم هذا التكريس لكنها مازالت مجرد محاولات تعانى من ارتباكات كثيرة.
فهل تنتبه الكنيسة لهذا، وتخطو خطوات جادة فى دراسة واطلاق "التكريس والرهبنة الخادمة"؟
 
نعود لطرحنا لنجد الرهبنة، فى صورتيها؛ الحبيسة والخادمة، قائمة على القواعد النسكية التى استقرت من خبرات الآباء المؤسسين ومن تتابعوا عليها من معلمين ورموز عبر القرون المتعاقبة، وهى قواعد لم تقع فى أسر التنظير بل قدمت خبرات عملية على الأرض.
 
واتوقف مع اثنين منهم، أحدهما من مؤسسى الرهبنة فى مصر من تلاميذ القديس انطونيوس الكبير، هو القديس مقاريوس، (القرن الرابع)، بينما الثانى هو القديس يوحنا الدرجى السينائى (من منتصف القرن السادس إلى منتصف القرن السابع)، من أعلام الروم، وتولى فى شيخوخته رئاسة ديرسانت كاترين بسيناء، ترك لنا ق. مقار رسالة كان قد أرسلها لأولاده الرهبان (سنخصص لها الفصل القادم)، بينما ترك لنا ق. يوحنا كتاب "سلم السماء"، وكلاهما يرسم خارطة طريق للرهبنة بعمق. ويرى البعض أن خبرات سيناء المتشبعة بالزخم المصرى انطلقت إلى اليونان، هاربة بها إلى جبل آثوس، على غرار هروب العائلة المقدسة إلى مصر من بطش هيرودس الذى كان يطلب نفس الصبى، لتحميها من بطش القادمون من الشرق، فتتكامل رهبنة الإسقيط والبحر الأحمر مع رهبنة اليونان، وتزدهر منها الى الغرب. ويبدو أن ترتيباً إلهياً كان يرسم خطوط حفظ التراث الآبائى فى حاضنة يونانية بعيداً عن تأثيرات الإنقطاعات المعرفية التى ترتبت على الإنتقال القسرى عندنا إلى العربية فيما بعد بشكل تعسفى.
يقدم كتاب "سلم السماء" خطة حياة لمن قصد طريق النسك، بتدرج محسوب يرتقى بالمرء لينقله من الأرض إلى السماء، "وهو خير دليل للسير فى طريق أفضل لمن يرومون كتابة اسمائهم فى سفر الحياة ... إنه يمثل لنا سُلّماً قائماً على الأرض ويبلغ السموات ويقف على قمته الله"، "ويبدو أن هذا السلم قد عاينه أيضاً يعقوب ناخس الشهوات فيما كان مستريحاً على سرير النسك، وعلينا أن نتسلق بإيمان وشوق هذا المصعد العقلى الذى يبدأ بالزهد فى الأرضيات وينتهى بإله المحبة" (ق. يوحنا السَّلمى؛ كتاب سلم السماء ـ دير سانت كاترين طبعة أولى 1985 ص 47).ـ
ويقسم الكاتب السلم إلى ثلاثين درجة، سنى يسوع الثلاثين قبل ظهوره للعالم، مقسمة إلى ثلاثة أقسام:
• القسم الأول: يضم ثلاث دراجات تتناول كيفية الزهد فى العالم وعدم التعليق بمقتنياته ثم "التغرب عن العالم من أجل الرب، بحيث لا تبقى له ارتباطات كى لا يبدو تائهاً حباً فى اشباع أوائه" (المرجع السابق ص 71)ـ
القسم الأوسط : ويضم ثلاثة وعشرين درجة تدور حول اقتناء الفضائل؛ وتبدأ بالفضائل الداعمة : الطاعة والتوبة وذكر الموت، عبر الجهاد والعمل الدؤوب لمجاهدة الذات، ومجاهدة الأهواء (من الغيظ إلى الضجر)، ومجاهدة الرغبات (من الشره إلى الزنى وحب المقتنيات)، ومجاهدة الجسد، ومجاهدة البلادة والكبرياء، ثم ينتهى إلى بيان ثمرة الجهاد باقتناء الوداعة والتواضع والتمييز. ليدرك الساعى أن ما كان فى البداية جهادا متعباً يصبح فى النهاية نعمة تؤول إلى حضور الروح. 
القسم الأخير : ويضم ثلاث درجات تتناول السكون أو الهدوء (الداخلى والخارجى) ـ الصلاة ـ اللاهوى ـ المحبة، والتى تصل به إلى الإتحاد بالله.
ولا يتوقف الكاتب عن التنبيه المتكرر على أن الكمال المسيحى يقاس بحسب نقاوة حبنا لله وتشبهنا بمحبته، وأن الرهبنة هى مسيرة شوق، والرهبان هم بمثابة الملح للأرض (السماد) الذى يخصب الكنيسة وهذا يفرض عليهم أن لا يتركوا الملح يفسد، وأن لا يتوقفوا عن السعى الى الاستنارة (فضيلة التمييز) والتعرف او اكتشاف مشيئة الله فى حياتهم، وأن يؤمنوا أن الصليب هو الطريق الوحيد بين الارض والسماء.
وينبه أن هناك مخاطر تهدد مسيرة الراهب وتعد من أخطر المزالق التى يهوى فيها النساك؛ التزييف العقلى، التزييف النفسى، الطموح الروحى، لذلك على الراهب أن يخضع لمشورة الشيوخ وتدبير الأب الروحى المختبر، ويعتبر أن الرهبنة مطر فى زمان الجفاف.
وقد تحول هذا الكتاب إلى جدارية كبيرة من الفسيفساء تتصدر بهو دير القديس ديونيسيوس فى جبل آثوس باليونان، تصور الرهبان وهم يصعدون درجات السلم ، منهم من خار فى الطريق فجلس ليستريح ومنهم من سقط منه فى درجات متفاوتة ومنهم من يجاهد ليواصل الصعود، وعلى الدرجة الرابعة والعشرين يُلاحظ راهب يجره شيطان ويرميه فى اللجة، وراهب آخر أيضاً على ذات الدرجة ممسكاً بطرف السلم بشكل محكم لشدة خوفه، بينما شيطان قد صعد على ظهره يبذل كل ما فى وسعه ليطرحه على التنين الشاغر فاه الذى يرمز إلى الجحيم.
بينما على قمة السلم يوجد راهب شيخ يمد يده ليأخذ إكليل النصر من المسيح الواقف هناك وتوتسم شارات الفرح والسرور على وجهه ووجه الملاك الباسط يديه نحو المسيح وهو مفتوح الجناحين دلالة الغلبة والإنتصار. (المرجع السابق ص 12)ـ
ويصبح علينا والأمر هكذا أن نتعامل مع منظومة الرهبنة بما تستحقه من توقير واحترام وندعم كل جهد رسمى كنسى مؤسسى لردها إلى مسارها، وألا نقحمها كطرف فى أزماتنا واختلافاتنا، وندعها تدير أمورها وفق ما استقر فيها من قواعد آبائية لتبقى المخزون الحيوى للكنيسة لاهوتاً وتعليماً ودعماً، فتقويض الكنيسة واضعافها يبدأ بخلخلة منظومة الرهبنة وهدمها.
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
حمل تطبيق الأقباط متحدون علي أندرويد