هل الكنيسة فى أزمة؟
مقالات مختارة | ياسر عبدالعزيز
الاثنين ١٠ سبتمبر ٢٠١٨
يوم الجمعة الماضى، نشرت صحيفة «الجارديان» البريطانية تقريراً مهماً بعنوان: «الكنيسة فى أزمة»، وهو تقرير خطير بكل تأكيد، إذ يشير، استناداً إلى نتائج «مسح التوجهات الاجتماعية فى بريطانيا» British Social Attitudes Survey، إلى أن 2% فقط من البالغين الشباب ينتمون إلى الكنيسة الإنجليكانية (كنيسة الدولة ومرتكزها الروحى)، وأن سبعة من كل عشرة من البالغين تحت سن 24 يقولون إنهم «بلا دين».
ليست تلك هى كل الأخبار المهمة، فقد واصل عدد المتدينين إجمالاً تراجعه، وفق نتائج هذا المسح الموثوق، لتبلغ نسبة السكان الذين يقولون إنهم «بلا دين» 52% من المجموع الكلى، فى نهاية العام 2017، مقارنة مع 41% فى العام 2002.
إن هؤلاء المُنَظّرين الذين يربطون بين قوة الدولة وكفاءتها من جانب، والاتساق الدينى بين المواطنين واستقرار الحالة الروحية من جانب آخر، سيجدون صعوبة إذن عندما يحاولون تفسير حالة الدولة البريطانية، التى لا تتراجع فيها مناعة الدولة ولا استقلالها ولا تماسكها الوطنى ولا ازدهارها، فى وقت يتراجع فيه توافق القوة الغالبة بين السكان دينياً وروحياً، عبر الابتعاد المنهجى المتواتر عن «الإيمان» بالمعتقد الجامع (الكنيسة الإنجليكانية).
ثمة بين رجال الدولة وعلماء الدين من يربط بين تماسك الدولة واستدامتها وبين حالة التدين العمومية، وقد حدث فى فترات تاريخية مختلفة أن بدأت الدول رحلتها نحو التمكين والتطور عبر إجراءات ذات طابع دينى، كما قام زعماء تاريخيون مشهورون بخوض حروب داخلية من أجل تسييد دين معين أو مذهب محدد بين مواطنيهم، بغرض بناء الدولة أو حمايتها.
ما زال فى عالمنا اليوم من يعتقد هذا الاعتقاد، ليس فقط بين بعض الخطباء والدعاة الذين يبررون الهزائم العسكرية أو تراجع المكانة أو تخلخل الدولة بالابتعاد عن تنفيذ التعاليم الدينية، ولكن أيضاً بين الزعماء والقادة الذين يعتقدون أن اتباع مذهبية دينية وتأويل محدد يمكن أن يحل مشكلات الدولة أو يحد من تفاقمها.
فى أبريل من العام 2004، ألقى العاهل المغربى خطاباً مهماً تحدث فيه عن أهمية «الأمن الروحى»، داعياً إلى إعادة هيكلة الحقل الدينى، بما يتواءم مع خطط الدولة لصيانة أمنها الاجتماعى، من خلال محاربة الإرهاب، والتطرف، ونزعات العنف، وغياب التفاهم.
لقد كان هذا الخطاب محركاً لأنشطة فكرية وإجرائية سعت إلى تعزيز مفهوم «الأمن الروحى» فى المغرب، عبر تمتين الوحدة، والسلام، والتفاهم الاجتماعى، استناداً إلى «السيادة المذهبية»، العائدة إلى اتساق المجتمع فى احترامه واعتقاده بـ«المذهب المالكى».
لم يكن ما حصل فى المغرب آنذاك، وامتدت مفاعيله إلى يومنا هذا، عبر إجراءات واضحة اتخذتها المؤسسات الدينية الرسمية، وأنشطة وفعاليات صبت فى تحقيق الهدف ذاته، بعيداً عما يجرى فى دول عربية وإسلامية عدة.
يمكننا رصد هذا المفهوم، وفعالياته، فى معظم دول منطقتنا، عندما نجد تصليباً وحرصاً على دور فاعل ودائم للمؤسسات الدينية الرسمية، فى تسييد مذهبية معينة، أو رؤية واحدة للفكر والخطاب الدينيين.
فى إيران، سيمكننا تاريخياً أن نرصد العلاقة بين استحقاقات إقامة الدولة، وتمتينها، وخوض معاركها، من جانب وبين التمترس المذهبى، عبر صياغة روحية واحدة، يجرى ترويجها، وتسويقها، وتسييدها، لتنهض بواجبات الوحدة الوطنية، والاتساق الوطنى، من جانب آخر.
وفى تركيا، لا يتوقف الرئيس أردوغان عن مقاربة مفهوم «الأمن الروحى»، وإن لم يذكره لفظاً، عبر سياساته الرامية إلى تعزيز دور التصور الدينى للإسلام السياسى الذى أنتج فكرة الخلافة، وما يمكن له أن يفعله فى طريق استعادتها، أو على الأقل حماية الدولة بنظامها القائم، وتعزيز صلابتها فى مواجهة خصوم الداخل والخارج.
وفى مصر، لا يكف الرئيس السيسى عن الإشارة إلى مفهوم منفتح للإسلام السنى، يحرص من خلاله على مواجهة نزعات التطرف والعنف، ويدعو باطراد إلى ضرورة تطوير الخطاب الدينى، لكى يكون مواكباً لأفكار حماية الدولة، عبر مخاطبة المؤسسات الدينية النافذة، وتشجيع وسائل الإعلام، وإطار التربية والتعليم.
إن هذه المقاربات ذات الطبيعة السلطوية تتفق فى ضرورة أن يكون هناك نسق روحى يؤطر طباع الأمة وسلوكها السياسى والاجتماعى، لكنها تريد هذا النسق ملتزماً بتصور دينى، وانتماء مذهبى، يفسره ويشرحه ويدعو إليه تأويل دينى محدد، يصدر عن مؤسسات دينية رسمية، لها قدر من التأثير والنفاذ فى قطاعات الجمهور.
ويقود ذلك، بطبيعة الحال، أحياناً إلى ممارسات خشنة ضد دعوات ذات طابع دينى، تأتى مخالفة للنسق الذى تراه السلطة مواتياً لفكرة «الأمن الروحى»، وهى ممارسات قد تنتج إجراءات تمييزية، عبر سن القوانين، أو سلوكيات القوى النافذة، تجاه أتباع الرؤى الأخرى، سواء كانوا من المنتمين لأديان أو مذاهب مغايرة، أو كانوا من الذين يعتمدون تأويلاً مختلفاً للتأويل الرسمى الذى يُراد له أن يسود.
يريد بعض القادة أن يكون هناك مرتكز روحى للأمة، ينعكس فى «دين رسمى» و«مذهب معتمد» و«تأويل محدد»، ليخدم تصوراتهم عن المصالح الوطنية.
لكن نتائج المسح البريطانى الأخير، ستنضم إلى نتائج مسوح أخرى فى بريطانيا، وأستراليا، وألمانيا، ودول أمريكا اللاتينية، وإشارات بالغة الدلالة فى الشرق الأوسط، عن تراجع هذا الاتساق المفترض.
وسيعجز أصحاب نظرية «الأمن الروحى» عن تفسير دلالة ما يجرى فى بريطانيا ودول متقدمة أخرى، والذى سيظهر فى السؤال: «لماذا يتراجع الإيمان بالتصور الدينى المحدد، ولا تتراجع الدولة، أو يهتز اليقين فيها؟».
هنا سنعود إلى نظريات الدولة التى ركزت على نجاعة فكرة «العقد الاجتماعى»، باعتبار أن مرتكز الدولة الأساس لا يكمن فى الوحدة المذهبية، بقدر ما يكمن فى حماية «الأمن الروحى»، باعتبار هذا الأخير ليس تسييداً لدين العموم، بقدر ما هو حماية فضاء المواطنين الروحى، وصيانته، واحترامه.
هل نحن فى حاجة فى مصر إلى مفهوم «الأمن الروحى»؟
بكل تأكيد، لا يمكن أن يتطور بلدنا، ولا أن يزدهر، من دون توافر «الأمن الروحى»، الذى يتمثل فى احترام ضمير الفرد، وحقه فى الاعتقاد، وممارسة الشعائر.
فالكنيسة التى يهجرها شعبها فى أزمة، والشعب الذى يُمنع من بناء كنيسته وإقامة صلاته فى أزمة، والدولة غير مسئولة عن الأزمة الأولى، لكنها مسئولة عن الأزمة الثانية، لأنها تمثل تقويضاً لمفهوم «الأمن الروحى».
نقلا عن الوطن