الفنانة حلا وحجابها ومأساة تراجع الفنون فى مصر
مقالات مختارة | إقبال بركة
٠٤:
٠٥
م +02:00 EET
الأحد ١٦ سبتمبر ٢٠١٨
منذ أن أعلنت الفنانة الجميلة حلا شيحا تخلصها من الحجاب وهى محط أنظار الصحافة المصرية والأجنبية حتى يكاد المرء أن يظن أنها أهم مشكلة تواجه مصر فى وقتنا الحالى. عندما أعلنت حلا منذ عشر سنوات تحجبها واعتزالها الفن ثم ارتدت النقاب قوبل قرارها بفرحة غامرة ومباركة من أنصار الحجاب، أما معارضوه فقد صمتوا كعادتهم. وبعد مرور أكثر من عشر سنوات قررت الفنانة أن تعود إلى فنها ومعجبيها، فإذا بأنصار الحجاب يرجمونها ومعارضيه ينثرون عليها الزهور.
ارتدت حلا ثوب الخوف فى قرارها الأول ثم نزعته عنها بقرارها الثانى. وفى كلتا الحالتين تحملت عواقب قراراتها بشجاعة، فالحكم فى النهاية لرب الكون وحده «هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين». لم تكن حلا أول من لبست الحجاب ثم خلعته، فقد سبقتها إلى ذلك كثيرات، ولكن تمردها على الحجاب تجاوب مع اتجاه بدأ ينتشر بين الفتيات وكأنها تدشن هذه الثورة وتتزعمها.
وقد ذكرتنى حملة الهجوم عليها بالضجة التى قوبل بها كتابى «الحجاب: رؤية عصرية» (الطبعة الأولى 11 سبتمبر 2002 من المتطرفين والهجوم الضارى على شخصى الضعيف من صبيانهم على المواقع الخاصة بهم الذى وصل إلى حد اتهامى بالكفر لخروجى «عما هو معروف من الدين بالضرورة». وللأمانة لم أكن أول من رفض تقديس الحجاب وإضافته عنوة وبلا أى دليل من قرآن أو سنة إلى الفروض الخمسة للإسلام. فرفض الحجاب ودحض حجج المؤيدين له بدأ بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، وتأسيس جمعية «السفوريين» التى طالبت النساء بخلع حجابهن والبروز إلى الحياة العامة بكل مافيها من نشاط فنى وفكرى وسياسى.. إلخ ثم نشرت شابة لبنانية تدعى نظيرة زين الدين كتابين «السفور والحجاب» عام 1928و «الفتاة والشيوخ» (1929) وكان منطقها «إذا كان الرجل مصدر خوف وخشية، فهذا دليل على أنّه غير مهذّب وغير راقٍ، فيتحوّل الحجاب حينئذٍ إلى حجّة ضدّه، فهو يعنى هروب المرأة من الرجل ومجابهتها إياه بسدل النقاب على وجهها وتحويلها ظهرها إليه. وهذا يعنى، وهو قوّام، أنّه خائن، سارق أعراض لا يجوز أن يؤمن شره، بل يجدر بالمرأة أن تهرب منه هربًا».
ثم نشرت عالمة الاجتماع المغربية الدكتورة فاطمة مرنيسى كتابين «ماوراء الحجاب» ثم «الحريم السياسى» وكتب المستشار الراحل سعيد العشماوى مقالات فى مجلة روزاليوسف أعلن فيها أن الحجاب ليس فريضة. ومن قبلهم جميعا المستشار قاسم أمين الذى صدم الرأى العام بكتابه الذى افتتح القرن العشرين «تحرير المرأة» وأعلن بشجاعة «أن المرأة التى تلزم بستر أطرافها والأعضاء الظاهرة من بدنها بحيث لا تتمكن من المشى ولا من الركوب، بل لا تتنفس ولا تنظر ولا تتكلم إلا بمشقة، تعد «رقيقة» لأن تكليفها بالاندراج فى قطعة من القماش إنما يقصد منه أن تمسخ هيئتها وتفقد الشكل الإنسانى الطبيعى فى نظر «كل رجل» ماعدا «سيدها» و«مولاها».
ورغم كل هذا مازلنا نلف وندور حول السؤال العبثى: نفتح الشباك أم نغلقه؟. ويبدو أن المجتمع العربى المقصى من النشاط السياسى يبحث عما يشغل وقته ويلهيه فلا يجد سوى قضية المرأة ولباسها. أما قضية تحجب الفنانات فقد قفزت للسطح بعد انتشار سحابة التطرف السوداء فى سماء مصر بتأثير ثورة الخمينى مطلع الثمانينيات، ولكنها حسمت بعودة أغلبهن إلى الفن بالحجاب أو بدونه.
والواقع أن القضية لم تكن أبدا فى الحجاب وإنما فيما يرمز إليه كعلامة تميز الإناث عن الذكور، والنساء المسلمات عن غيرهن، وفيما يرافقه من تداعيات وأخطرها العداء لكل الفنون. لقد ازدهرت الفنون فى مصر عندما كان المصريون يحترمون الفنانين ولا يتدخلون فى حريتهم الشخصية. ومازلنا نرى فى أفلام الأبيض والأسود الفنانات تحية كاريوكا وهند رستم وفاتن حمامة وشادية وماجدة وغيرهن ممن نكن لهن كل الحب والاحترام يرتدين ما يقتضيه الدور من أزياء ويؤدين كل الأدوار بدون قيد أو شرط.
ووصلت الفنون إلى قمة الازدهار عندما كان المصريون يتغنون بالفنانين المبدعين ويرون الدنيا ليلا بدونهم والنجوم فى السماء يغيرون من حسن منظرهم وبالفنون تصبح الدنيا خميلة والفنانون أزهارها كما شدا موسيقار مصر الخالد محمد عبدالوهاب فى أغنيته من تأليف صالح جودت: الدنيا ليل والنجوم طالعة تنورها/ نجوم تغير النجوم من حسن منظرها/ ياللى بدعتوا الفنون وعرفتوا أسرارها/ دنيا الفنون دى خميلة وإنتو أزهارها/ والفن لحن القلوب يلعب بأوتارها/ والفن دنيا جميلة وإنتو أنوارها/ الفن مين يوصفه إلا اللى عاش فى حماه/ والفن مين يعرفه إلا اللى هام فى سماه/ الفن جنة بتسحرنا بألوانها/ نعيش على بدرها ونغنى ألحانها..
حرمتنا الاذاعة من هذه الأغنية الجميلة بسبب أبيات فيها تمجد الملك السابق فاروق فيخاطبه الشاعر: إحنا تاج البلاد الجنة سكانها/ وانت راعيها وحارسها ورضوانها/ والفن مين أنصفه غير كلمة من مولاه/ والفن مين شرفه غير الفاروق ورعاه/ انت اللى أكرمت الفنان ورعيت فنه/ ورديت له عزه بعد ما كان محروم منه/ ورويت فؤاده بالألحان برضاك عنه.
وبدأت مأساة تراجع الفنون المصرية بعد أن حكمها من وصف نفسه «بالرئيس المؤمن» وأعلن أنه «حاكم مسلم لدولة مسلمة»، كما لو كان سابقوه حكام «كفرة» لدولة «كافرة»!!!..
نقلا عن المصري اليوم