الأقباط متحدون - كمال الجنزورى.. فارسُ البسطاء
  • ١٥:٠٧
  • الخميس , ٢٠ سبتمبر ٢٠١٨
English version

كمال الجنزورى.. فارسُ البسطاء

مقالات مختارة | فاطمة ناعوت

٤٠: ٠٦ ص +02:00 EET

الخميس ٢٠ سبتمبر ٢٠١٨

فاطمة ناعوت
فاطمة ناعوت

«الفارسُ» يحتاجُ إلى دِرعٍٍ تحمى صدرَه، وتذودُ عنه السِّهام التى تُصوَّب نحوه من نِبال العِدَى. لكنّ ثمّة فارسًا، من نوع فريد، لا يمتشقُ سيفًا ولا يتدثّرُ بدرع؛ ذاك أنه بلا أعداء. يتدرّعُ بالحبِّ والهتاف والتصفيق يحوط به من كلّ جانب، أينما ترجّل وحيثما جال. أعرفُ فارسًا من ذلك النمط الفريد. التقيتُ به فى مكتبه البسيط الأنيق، الذى فى بساطة قلبه وأناقة عقله. فسجّلَ التاريخُ لى أن القدرَ الطيب قد منحنى مصافحة رمز إنسانى وقيمة علمية وسياسية من نسيج خاص، لا يُمنحُ للأوطان إلا كلّ دهور، بشقّ الأنفس.

ولماذا بشقّ الأنفس؟ لأن شجرةَ الأقدار الكريمةَ قد تجودُ أحيانًا بالدُهاة ذوى العقول الجبارة، وقد تجودُ أحيانًا بالطيبين المتحضرين ذوى القلوب الرؤوفة. لكنها تغدو شحيحةً حين تقرّرُ أن تصنعَ المعادلةَ الفريدة، فيقترنُ الدهاءُ الفكرى والسياسى مع التحضر والسموّ والطفولة القلبية. مثل ذلك النموذج البشرى النادر، لا يعرفُ الدروعَ ولا الحراسات المشدّدة فى الترحال، رغم ما يفرضُه بروتوكولُ المنصب الرفيع. وكيف يحتاجُ ذلك الفارسُ إلى درع، وهو يمنح زهورَ عقله لصالح خير الوطن، ويمنحُ زهورَ قلبه لصالح بسطاء الوطن؟! لهذا يُجمعُ الناسُ على حبّه. وحتى الخصومُ الذين تتعارض مصالحُهم الانتهازية مع زهور العقل الذكى والقلب النظيف، لا يملكون إلا أن يحترموه، وإن خسِروا بسببه، وبارت بضاعتُهم الفاسدةُ أمام فروسيته.

فى لقائى الأخير بذلك الفارس العظيم، فى مكتبه بالدور الثانى من الهيئة العامة للاستثمار، سألنى عن آخر كتبى وعن أحوال الدنيا والثقافة. وتشعّبَ بنا الحديثُ حول بسطاء الناس وهمومهم. وتذكّرتُ دورَه المشرّف مع طوائف الشعب المهمّشة، منذ كان وزيرًا للتخطيط ومرورًا بترؤسه لوزارات مصر وتنقله بين المناصب الرفيعة، وصولا لأن أصبح أيقونة مصرية غالية مُتوّجًا بلقب (وزير الغلابة). قلتُ له إن البسطاء فى بلادى لا ينسون أنهم كانوا فى بؤره فكره، على مدار عقود طوال تنقّل فيها بين رفيع المناصب السيادية، ولم يتحوّل نظره يومًا عن هموم الفقراء والمُعوزين.

وأخبرته أن مرافقى الشخصى من فريق عملى، حين علم أننى على موعد معك، ظلّ طوال الطريق يتحدث عنك وعن مواقفك الكريمة مع بسطاء مصر. وأنه شدّد على فى أن أنقل لك حبَّه واحترامه، لأنه لا يحلُم أن يلتقى به شخصيًّا فى يوم من الأيام. فما كان من الفارس الكريم إلا أن ضغط الزرَّ وطلب من مدير مكتبه أ. خالد العدوى، أن يأمر بصعود «جورج» الذى كان ينتظرنى بالأسفل، إلى مكتبه. ولَم يصدِّق «جورج» وقد وجد نفسَه فجأةً أمام هذا الهرم المصرى الشاهق، الذى نهض من مقعده وصافحه ثم عانقه وقبّله قُبلةً الصديق للصديق. ثم سمح بأن نلتقط له صورة معه. بعدما خرج جورج من المكتب قلتُ: «أشكرك كثيرًا يا دكتور كمال. تلك القُبلة سوف تدومُ ذكراها فى حياة ذلك الرجل، وسوف تُخلّد فى ذاكرة أبنائه. فقال لى: تلك القُبلة وذلك الحبُّ هما زادى وثروتى، وليس المناصب الرفيعة».

ذلك الرجلُ النبيل الذى كان يسرد، ويشرح ميزانية الدولة بكل دقّة، دون أن ينظرَ فى أوراق، لأن اقتصاد مصر وصالحها كان، ويظلُّ همًّه الشخصىّ، المحفورَ فى عقله، مثل أسماء أبنائه، هو ذاته الرجلُ الذى إن خرج من مكتبه مشغولَ البال، فتذكّر فجأة أنه قد نسى أن يُصافح مديرى مكتبه وطاقم السكرتارية وموظفيه، عاد أدراجه معتذرًا، وألقى عليهم سلام الوداع، ولا ينتظر إلى صباح الغد ليفعل.

فى عام ١٩١٧، أنشأ الملك «جورج الخامس» وسامًا رفيعًا يُكرّم به الرموز الوطنية التى ساهمت فى منح بريطانيا مجدَها. «وسام الفارس» الذى منحته الملكة إليزابيث عام ١٩٦٦ للسير د. مجدى يعقوب الأيقونة المصرية الفريدة وملك القلوب. وأما شعبُ مصرَ العظيم، فقد منح الدكتور كمال الجنزورى «وسام الفارس النبيل» من الطبقة الإنسانية الأولى، ليصبح «فارس البسطاء»، وحامى حماهم.

د. كمال الجنزورى، أحبُّك وأحترمُك. وأعتزُّ كثيرًا بأن بعض كتبى لها مكانٌ فى مكتبتك، ومكانةٌ فِى عقلك المثقف، وفى قلبك الاستثنائى الجميل. دمتَ هرمًا من أهرامات مصر الفكرية والسياسية والمجتمعية والإنسانية، وهذا أبقَى وأخلد.
نقلا عن المصري اليوم

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع