لماذا لا نستطيع الاختلاف مثلهم؟!!
يوسف سيدهم
٤٢:
٠٨
م +02:00 EET
السبت ٦ اكتوبر ٢٠١٨
كتب : يوسف سيدهم
قراءة في ملف الأمور المسكوت عنها 703
العالم لايستطيع أن ينفصل عن مجريات الأحداث السياسية في الولايات المتحدة, ولا أقصد هنا ما يخص السياسة الخارجية التي يتأثر بها الجميع خارج أمريكا بطبيعة الحال, لكني أقصد السياسة الداخلية التي تنال أحداثها اهتمام الإعلام الأمريكي والأوروبي والعالمي علي السواء,وذلك يتيح متابعتها والتفاعل معها لكل من يهتم بذلك… ولعل من أبرز القضايا التي طغت علي الأنباء في الفترة الأخيرة قيام الرئيس الأمريكي ترامب بترشيح القاضي الأمريكي برت كافانو لشغل مقعد شاغر في هيئة المحكمة العليا الأمريكية-أعليا سلطة قضائية في الولايات المتحدة- وهو منصب مرموق يتيح لمن يشغله البقاء فيه مدي الحياة كما يتمتع بحصانة مطلقة ضد العزل… لكن فور إعلان البيت الأبيض عن هذا الترشيح انفجرت الأنباء بخبر صادم عن اتهام سيدة اسمها كريستين فورد للقاضي المرشح بالتحرش بها والاعتداء عليها منذ نحو أربعين عاما.
في البداية لم أهتم بما حملته الأنباء في هذه القضية واعتبرتها حلقة في سلسلة مماثلة عشنا معها بين الحين والآخر طوال العامين الماضيين حول راقصات وفتيات ليل تتهمن الرئيس ترامب نفسه بالتحرش بهن وما صاحب ذلك من فضائح ابتزازهن له أثناء حملته الانتخابية للفوز بالرئاسة وما تردد عن قيام محاميه بدفع مبالغ مالية لشراء صمتهن,وهو الأمر الذي أدانه القضاء الأمريكي مؤخرا, ليس لما ينطوي عليه من السلوك اللا أخلاقي أو ما تبعه من الرشوة فتلك أمور يصعب إثباتها أو تندرج تحت الحرية الشخصية!!!, إنما جاءت الإدانة بعدما ثبت للمحققين أن مبالغ شراء الصمت تم دفعها من ميزانية الحملة الانتخابية لترامب وهو ما يجرمه القانون الأمريكي.
لكن الحقيقة أن الأمر اختلف في حالة السيدة كريستين فورد والقاضي برت كافانو, فالاثنان مواطنان أمريكيان لهما قدر لايستهان به من السمعة الطيبة حتي أن تسرب أخبار فضيحة اعتداء القاضي عليها إعلاميا لم يكن بالأمر الذي قصدته أو سعت إليه لأنها إنما أثارت ذلك في رسالة أرسلتها للسلطات المعنية عقب ترشيح القاضي للمحكمة العليا للحيلولة دون فوزه بالمنصب الذي قالت إنه غير جدير به ولا يمتلك كل مقومات الشرف والكرامة التي تؤهله له.
لست هنا في معرض تحليل القضية أو إصدار حكم شخصي فيها لإدانة القاضي أو تبرئته,إنما ما أتعرض له في هذا السياق هو حصيلة متابعتي لتعامل الكونجرس الأمريكي بشأنها باعتباره السلطة التشريعية المناط بها اعتماد أو رفض ترشيحات الرئيس الأمريكي لكافة المناصب السياسية والقضائية المتصلة بمؤسسات الدولة, ومن أجل ذلك عادة ما يعقد الكونجرس لجان استماع تلتقي بالشخصيات المرشحة وتتحدث إليها وتناقشها في قدرتها علي الاضطلاع بالمسئوليات الملقاة علي عاتقها تمهيدا لقبول أو رفض ترشيح الرئيس لها… أما في حالتنا هذه وبعدما انفجرت أنباء اتهام كريستين فورد للقاضي فقد تجاوزت مهمة لجنة الاستماع مجرد استيفاء صلاحيته المهنية للمنصب إلي الخوض في التحقيق في شكوي السيدة والتنقيب في ماضي كل منهما لإخلاء ساحته وتبرئته أو لإدانته ورفض ترشيحه.
ولأن الأمر بات الشغل الشاغل للإعلام الإمريكي وبالتبعية تم تصديره بكثافة للرأي العام, أصبح الموضوع مرتبطا بحتمية إجلاء الحقيقة لطمأنة الشعب الأمريكي نحو أمرين في غاية الحساسية والخطورة نزاهة ونقاء القضاء من ناحية, وحقوق المرأة والانتفاض لدرء ما يشوبها من ناحية أخري… لذلك كانت هناك تغطيات حية لجميع وقائع جلسات الاستماع والتحقيق التي عقدتها اللجنة القانونية في مجلس الشيوخ الأمريكي وذلك هو ما تابعته بكل اهتمام وشغف وخرجت منه لا أخفي انبهاري بالتقاليد الصارمة الراقية وآداب الحوار وثقافة الاختلاف واحترام الرأي الآخر التي سادت تلك الجلسات, الأمر الذي لم أستطع معه منع نفسي من عقد المقارنة بين ما تابعت وبين ما نعايشه من خلال حياتنا البرلمانية هنا في مصر, وكم أتمني أن ننضج ونرتقي في أدائنا السياسي والبرلماني وفي التعامل مع خلافاتنا للمستوي الذي تابعته في هذه القضية … ودعوني أسجل بعض الملامح التي وقفت عندها خلال متابعتي:
** موضوع المناقشات شائك وتفاصيله ترقي إلي مستوي الفضيحة والرذيلة ومع ذلك تم طرح جميع الحقائق بطريقة تتسم بالاحترام واللياقة وتبعد عن التجريح وتحرص كل الحرص علي مشاعر طرفي القضية وسمعتهما ومشاعر أسرتيهما.
** الحرص الشديد علي إجلاء الحقيقة وعدم الارتفاع إلي نتائج متعجلة سواء من جانب فريق الجمهوريين-حزب الرئيس وحزب الأغلبية-المؤيدين للترشيح أو من جانب فريق الديمقراطيين- حزب الأقلية-المعارضين للترشيح.
** الأدب الجم والاحترام المتبادل في التعامل مع اختلاف الرؤي الناتج عن اختلاف الانتماء الحزبي والذي يتم التمسك الشديد به حتي في أمس ظروف الاتهامات بتوظيف القضية لخدمة أغراض سياسية أو الاتهامات بالتهوين من شأنها لتمرير ترشيح الرئيس … كل ذلك حدث لكن دون حدة أو انفعال أو تشنجه أو التعريض بالآخر أو اتهامه بالفساد, بل كان الحرص شديدا علي إعلاء مصالح الأمة الأمريكية التي وصفها البعض بأنها مجروحة ومنقسمة بسبب القضية.
** الالتزام التام باحترام مباديء الدستور الأمريكي والقانون علاوة علي عدم التفريط في استقلال السلطة التشريعية-التي يمثلها الكونجرس-عن سلطة الرئيس الأمريكي والتمسك بالمسافة التي تفصل بينهما دون الإساءة للرئيس أو التعريض به.
** الترفع عن الانحياز للانتماء الحزبي والسعي للعمل معا بالرغم من الخصومة السياسية وتعارض المصالح من أجل حسم القضية ولم شمل الأمة وطمأنة الرأي العام… ولعل هذا ما أسفر عن تضافر الجهود المخلصة للتوافق في النهاية نحو إتاحة مهلة زمنية لا تتجاوز الأسبوع قبل حسم التصويت يطلب فيها الرئيس الأمريكي من مكتب التحقيقات الفيدرالي مباشرة التحقيق مع طرفي القضية والشهود المتصلين بها لوضع كل ما يمكن الوصول إليه من أدلة دامغة في متناول مجلس الشيوخ قبل حسم التصويت النهائي حول ترشيح القاضي كافانو.
*** لا أستطيع إخفاء إعجابي الشديد بكل ما تابعت من بث حي للمناقشات التي جرت في لجنة الشئون القانونية بمجلس الشيوخ الأمريكي… ولا أستطيع إخفاء تطلعي إلي أن تسود تلك التقاليد والأخلاقيات وثقافات التعامل مع الاختلاف في حياتنا البرلمانية والحزبية والسياسية.