الاقباط والدولة الطولونبة
فاروق عطية
٣٥:
٠٩
ص +02:00 EET
الخميس ١١ اكتوبر ٢٠١٨
كتب:فاروق عطية
الدولة الطولونية هي إمارة إسلاميَّة أسَّسها أحمد بن طولون التغزغزي التركي (كنيته أبو العباس) في مصر وتمددت لاحقا تجاه بلاد الشام، لِتكون بِذلك أول دُويلة تنفصل سياسيًّا عن دولة الخلافة العباسية، وتتفرَّد سُلالتها بِحُكم الديار المصريَّة والشَّاميَّة. فامت خلال تعاظم قوة الترك في الخلافة العباسية وسيطرة الحرس التُركي على مقاليد الأُمور، نفس العصر الذي كان يشهد نموا متعاظما للنزعة الانفصالية واستقلال الشعوب عن دولة الخلافة العباسية مترامية الأطراف، واستمر تواجدها لقرابة 38 عاما.
حين عين الخليفة أبوعبد الله المعتز بالله الأمير بايكباك التُركي واليًا على مصر ونواحيها في سنة 868م/ 254هـ، يبدو أنه خشي مُغادرة عاصمة الخِلافة حتَّى لا يتعرَّض للعزل، وآثر أن يبق قريبًا من مركز السُلطة ليُشارك في اتخاذ القرارات، وقع اختيار بايكباك علي ابن زوجته أحمد بن طولون لِيكون نائبًا عنهُ في حُكم الولاية. ومُنذُ أن قدم ابن طولون مصر، عمل على ترسيخ حُكمه فيها. وكان يتخلَّص من سُلطة الوالي الأصلي بِإغرائه بالمال والهدايا التي كان يُرسلها إليه. عندما طلب إليه الخليفة أبو إسحٰق مُحمَّد المُهتدي بالله أن يتولَّى إخضاع عامل فلسطين المُتمرِّد على الدولة، سنحت لهُ الفُرصة التي كان ينتظرُها، وأنشأ جيشا كبيرا من المماليك الترك والروم والزنوج ودعّم حكمه به. وأخذ من الناس والجند البيعة لِنفسه على أن يُعادوا من عاداه ويُوالوا من والاه. وبِفضل هذا الجيش استطاع أن يقضي على الفتن الداخليَّة التي قامت ضدَّه، واستطاع أن يرفض طلب وليُ عهد الخليفة أبا أحمد طلحة بن جعفر المُوفَّق بالله الذي كان يستعجله ارسال المال لِيستعين به على القضاء على ثورة الزنج بالبصرة. ومنذ ذلك الوقت أصبحت دولة ابن طولون مستقلّة عن الخلافة العباسية. وعندما طلب الخليفة من ابن طولون أن يترك منصبه إلي «أماجور» والي الشَّام، رفض ابن طولون ذلك وتوجَّه إلى الشَّام وضمَّها إلى مصر. لم يفكّر ابن طولون بعد استقلاله السياسي عن الخلافة، بالانفصال الديبي عنها لأن الخلافة تمثل له ولجميع المسلمين ضرورة دينية لاستمرار الوحدة الإسلامية، وتشكّل رمزا يربط أجزاء العالم الإسلامي المختلفة، فحرص على أن يستمرَّ الدُعاء للخليفة العبَّاسي على منابر المساجد في مصر والشَّام، واعترف بسُلطته الروحيَّة والدينيَّة فقط.
لما كان أحمد بن طولون مستقلاً عن السلطة المركزية قام بِضرب الدينار الأحمدي رمزًا لِهذا الاستقلا، ولم يعمل على استغلال البلاد بل حرص على تطويرها ونهضتها حتى يعلو اسم أسرته، عمل على تحويل مصر إلى مركز إمبراطورية عظيمة كان يهدف لخلقها، لذا حسّن أحوال الإدارة ورفع مستوى معيشة الأفراد وعمل على الإرتقاء بالمستوي المعماري للبلاد. توقف عن تلقي أوامر تنظيم البلاد من الخليفة، بل أصبح الخليفة على قائمة الأعداء، لذا حرص على كسب ود الشعب والحفاظ على وحدته، بما يتضمنه من أقباط مسيحيين. خلع أحمد بن طولون جباة الضرائب الدخلاء وعين بدلاً منهم مصريين، كما حرص على توجيه عنايته لكل الشعب دون فوارق شاسعة، ومنح حرية العبادة للجميع، وسمح للأقباط المسيحيين بمزاولة شعائرهم الدينية وبناء الكنائس والأديرة دون قيود، وكذلك مباشرة أعمالهم التجارية والزراعية دون مضايقات.
نظراً لقصر فترة الطولونيين لا يمكننا القول بدقة إلى أي مدى وصل تسامحهم مع الأقباط. لكن يمكن القول أن أحمد بن طولون بدأ عهده بإجراءات حازت قبول المسلمين والمسيحيين معاً. قد عدّل نظام الضرائب وأبطل العنف الذي كان مصاحباً لجبايتها. بوجه عام لم يلق أهل الذمة في عهده معاملة سيئة. لكن يظل السؤال لماذا أمر بحرث قبور أهل الذمة ؟ ولماذا كان عنيفاً مع البطريرك الغير خلقدوني خائيل الثالث (880ـ907) ؟
للإجابة على السؤال الأول يقول البلوي الذي كتب سيرة أحمد بن طولون والذي كان معاصراً له: بالرغم من قصر مدة حكم ابن طولون (16 سنة) إلا أنه أقام الكثير من العمائر، ففي عام 870م اسس عاصمتة الجديدة المسُماة بالقطائع، اقام بها قصراً فخماً لنفسه واسس بها مسجده الشهير (جامع بن طولون)، كذلك أقام بها دار الإمارة. ولما كانت هذه المنطقة هي قبور المسيحيين واليهود ، فقد أمر بحرثها لتشييد مدينته مكانها.
أما بخصوص معاملته مع البطريرك الغير خلقوني: فقد سجل البلوي أيضا، أن ابن طولون لم يكن يعامل كل طبقات الشعب على قدم المساواة. كان يفضل الأتراك على بقية المسلمين، والملكانيين الخلقدونيين على بقية المسيحيين. ويذكر هذا المؤرخ أن بن طولون كان يتردد على دير القصير (دير ملكاني قريباً من حلوان) ويعتكف فيه للصلاة. أما عن علاقته بالبطريرك الغير خلقدوني الغير جيدة فقد استدعاه وأمره بدفع عشرين ألف دينار، ولما عجز البطريرك عن دفعها أمر بسجنه وضمنه بعض الكتاب لبضعة أيام حتى يدبر أمره، فاضطر البطريرك إلى بيع بعض ممتلكات الكنيسة لليهود؛ مثل موضع المجمع اليهودي الحالي القريب من الكنيسة المعلقة، وموضع مقابر اليهود الحالية بالبساتين. ويرى البعض أن سوء علاقته بالبطريرك الغير خلقدوني يرجع لكون البطريرك أبى أن يُحرج مركزه بتقديم ولائه الكلي لابن طولون من اللحظة الأولى، حتى لا يعادي الخليفة الذي يرفض الاعتراف به كوالي شرعي لمصر. وجاء في كتاب "تاريخ الأمة القبطية" ليعقوب نخلة روفيلة: أن البطريرك ميخائيل الثالث عزل أسقف سخا بالوجه البحري من منصبه لأمر يستوجب ذلك وعين آخر بدلا منه، وحين يئس المعزول من الرجوع لمنصبه أراد الانتقام من البطريرك، فتوجه للوالي أحمد بن طولون الذي كان يستعد لغزو سوريا وفي حاجة ماسة للأموال لتجهيز الجيش، وأسر إليه أن بطريرك الأقباط لديه من المال والثروة ما يكفي لهذه النفقات وأكثر وهو لا يحتاج غير القوت واللباس ولن يتأخر عن المساعدة لو طلبت منه ذلك. استدعي ابن طولون البطريرك وطلب منه ذلك، أيقن البطريرك أن المعزول قد دبر له مكيدة ونصب له شركا، وحاول أن يدفع عن نفسه هذه التهمة الباطلة فلم يقبل منه ابن طولون اعتذارا وأمر بالقبض عليه وزجه في السجن. وكان في الديوان كاتبان قبطيان مفربان لابن طولون (يوحنا وابراهيم) وهما إبني موسي كاتم سر ابن طولون سعيا لتخليصه فلم ينجحا، وكان لابن طولون وزيرا يدعي أحمد المارديني كان في ديوانه قبطيان (يوحنا وإبنه مقاريوس) توسلا إليه أن يكشف للحاكم الحقيقة ويسعي لإنقاذ البطريرك من السجن، فوافقهما وذهب بهما لابن طولون وألح عليه أن يطلق سبيله فوافق علي شرط أن يضمن كاتباه البطريرك في دفع عشرين ألف دينار علي قسطين، فكتب البطريرط على نفسه صكا بهذا المبلغ وضمنه الكاتبان، لكنه لم يستطع الوفاء بالقسط الأول إلا بعد عناء شديد من الاستقراض وبيع بعض ممتلكات الكنيسة. وحين حلّ ميعاد القسط الثاني ولم يستطع الدفع قبض ابن طولون عليه وزجه في السجن مرة ثانية. وكان له تلميذ شمّاس إسمه ابن المنذر لم يفارقه في محبسه في المرتين الأولى والثانية.
عاشت مصر في العصر الطولوني كدولة مستقلة مزدهر ة قويه ومتحضره. في عهد احمد بن طولون انتشر الرخاء و قلت الضرايب على المصريين وخُصصت الموارد للعمران، و فى عهد ابنه خمارويه (والد قطر الندى) توسع نطاق الدوله الطولونيه و ازدهرت البلاد بالمباني والحدائق والمتنزهات، كما شيد خمارويه حديقة للحيوان تحتوي العديد من الحيوانات النادرة كالوحوش والسباع، وكان لخمارويه سبع مستأنس لا يفارقه أينما ذهب.
استمرت الأسرة الطولونية تحكم مصر والشام حتي عام 904م، بداية من أبو العباس أحمد بن طولون (868-884م)، تلاه إبنه أبو الجيش خمارويه، اعترفت الخلافة بولايته وولده من بعده على المناطق التي سيطر عليها، وتمَّت مُصاهرة بين البيتين العبَّاسي والطولوني، إذ زوَّج خُمارويه ابنته قطر الندى للخليفة المُعتضد. كان له قصرا بسفح جبل قاسيون المشرف علي دمشق يشرب فيه الخمر، قُتل خمارويه في قصره هذا علي يد خدمه في 18 يناير 896م. شكَّل مقتله المُفاجئ بداية نهاية الدولة الطولونيَّة، حيثُ بدا البيت الطولوني وكأنَّهُ فرغ من الرجال القادرين على مُواصلة مسيرة الدولة بِنجاح، وبدت النُظم التي وضعها المُؤسس، والتي صمدت طيلة ستة وعشرين سنة، كأنها بُنيت على الرمال، فسارت الإمارة في خُطىً سريعة نحو الضُعف والانحلال، وتهاوى مُلك بني طولون في نحو عشر سنوات.
اختار بطانة خُمارويه ابنه أبو العساكر جيش لِيكون حاكمًا على مصر والشَّام، ولم يتجاوز عمره الرابعة عشرة، مُتجاوزةً أعمامه أبناء أحمد بن طولون البالغين والقادرين على ملء الفراغ، وذلك للحِفاظ على امتيازاتها، بايعته وهو صبيٌّ لم يُؤدبه الزمان ولم تُحصِّنهُ التجارب، فانصرف إلى اللهو والشراب، وأحاط نفسه بِطبقةٍ فاسدة من الزُنوج والروم، لا وزن لِأفرادها ولا قدرة لهم، دفعوه إلى الانغماس بالملاهي والتجرُّد من الأخلاق. اشتدت الفتنة في مصر ضد حكمه وامتدت إلي حاشيته والمحيطين به، وقام عدد من قادة الجند والموالي بخلعه وسجنه ونهب داره، ثم قتلوه في أواخر يوليو 876م. ثم أسرعوا في تولية أبي موسى هٰرون بن خُمارويه، وكان صغيرًا لم يتجاوز الرابعة عشرة من عُمره، مُتظاهرين بالولاء للبيت الطولوني، لكنَّ الواقع أنهم خشوا أن يتولَّى الحُكم أحد الرجال الطولونيين الكبار فيقف ضدَّ تطلُّعاتهم ويُحاسبهم على أعمالهم. ظهرت الأخطار الكبيرة على مسرح الأحداث السياسيَّة في الشَّام والثُغور، في الوقت الذي انهمك فيه هٰرون باللهو والسُكر. كما ازدادت الأمورفي مصر سوءا، حيث تقاسمت الحاشية السُلطة والوظائف العامَّة مُشكلةً مراكز قوى داخل الدولة، وعلى هذا الشكل تفتَّتت وحدة الدولة والجيش. ورأى الخليفة العبَّاسي أنَّ الفُرصة مؤاتية للتدخّل في الشؤون الطولونيَّة والقضاء على استقلال هذه الإمارة وإعادة المناطق التي سيطرت عليها إلى حظيرة الدولة العبَّاسيَّة، وعيَّن ابن الأخشيد أميرًا على الثُغور الشامية. كما أبرم الخليفة معاهدة مذلة مع الطولونيين أجبرهم فيها على التنازل عن أعمال حلب وقنسرين والعواصم، وأن يدفعوا أربعمائة وخمسين ألف دينار سنويا لبيت المال في بغداد، وأن يوافقوا علي تعيين مندوب يُمثِّل الخليفة في مصر لِيقوم بِالإشراف على أوضاعها. قتل هرون وهو ثمل على يد عماه شيبان وعديّ ليلة الأحد 31 ديسمبر 904م، وخلفه أبو المناقب شيبان بن أحمد بن طولون.
استمر جيش الخليفة المكتفي بالله بقيادة محمد بن سليمان الكاتب في الاستيلاء علي الممتلكات الطولونية في الشام وفلسطين حتي وصل إلي مصر واستطاع هزيمة جيش شيبان، ودخل الجُنود العبَّاسيّون القطائع بِقيادة مُحمَّد بن سُليمان وهدموا وأحرقوا بيوتها وحدائقها وسبوا واغتصبوا نسائها وقتلوا رجالها، وعاملوا الأُسرة الطولونيَّة بِقسوة، وأخرجوها من مصر وأرسلوا أفرادها البالغ عددهم عشرين شخصًا، إلى بغداد مع قادتهم ومواليهم، ونقل معهم آثارهم وتُحفهم، واستصفوا أموالهم، وهكذا سقطت الدولة الطولونيَّة وعادت مصر ولايةً عبَّاسيَّة كما كانت قبل سبعٍ وثلاثين سنة، وتولّاها مُحمَّد بن سُليمان الكاتب بناءً على أمر الخليفة.
الكلمات المتعلقة