كتب : نبيل المقدس
تحديد بداية الزمن الجميل ونهايته .. هي الفترة ما بين منتصف الثلاثينيات ومنتصف الستينيات من القرن السالف أي في عصر الملكية المصرية وجزء من الجمهورية المصرية .. كما كان الزمن الجميل مرتبطا إرتباطا وثيقا بالمسرح و بالسينما المصرية أيام ما كانت أبيض وإسود .... فكانت هذه الأفلام تحكي عن مصر وتعطي الإنطباعات الحقيقية لمصر من نظافة واسلوب عمل الموظفين في الدولة .. وعبرت عن الحب الطاهر البريء .. وإنطلقت في هذه الفترة أجمل وأحلي الأغاني لمطربين ومطربات أثرن الساحة الفنية بمجموعات من الفن الرفيع , لا ننسي ان خلال هذه الفترة كان المجال فبها للأدباء والمثقفين والصحافة الأصولية كبير. كما أنها صورت مناظر الشوارع التي كانت نظيفة طيلة هذه الفترة , زالتي تُعتبر الواجهة الحضارية لمصر أمام الدول .. وفعلا كانت القاهرة والإسكندرية من أعظم دول العالم نظافة وإبداع .. وتم الإعلان عن هذا رسميا.
لم نسمع عن غطاء بلاعة مرفوع عن موضعه لأن مصر كانت أصلا لا تعمل بنظام الصرف في مواسيبر التي تلزم حجرات تحت الأرض ويتم قفلها بغطاء من حديد الزهر. لم أسمع مرة في حياتي في هذه الفترة أم تنادي علي طفلها وهو ذاهب للمدرسة أو وهو يلعب في الشارع لتقول له خذ لبالك وإحترس من غطاء البيارة الموجود علي أول الشارع ...
كان الصرف الصحي أيام الزمن الجميل عبارة عن حجرات تفتيس لكل بيت موجود خلفه ومحاط بسياج ملحق به باب من الحديد ومغلق بقفل يكون تحت مسئولية صاحب البيت . هذه الحجرة بعمق حوالي 5 إلي 6 متر وعرضها حوالي المتر أو المتر والنصف وتزداد مساحة للعمارات .. هذه الحجرة يتجمع فيها ماسورة الصرف الآتية من أدوار البيت , وكذلك ماسورة الراجع للمياه العادية .
كانت هذه الحجرة لها أهمية كبيرة لدي المجالس المحلية .. وكان يتم الإنتهاء منها أولا أو مع البناء .. وكان يتم بنائها تحت إشراف مهندسي الحي بدقة عجيبة .. هكذا كان العمل في الزمن الجميل .. الإهتمام والدقة في كل شئون الحياة .. هذا الإهتمام في عمل البيارات " حجر التفتيش " كان عنصرا هاما في نظافة وشكل المدينة .. كنا لا نجد شارعا من شوارع المدينة تجري فيه مياه الصرف كما يحدث الآن , وعندما تسأل في أيامنا هذه عن سبب هذه المياه ذات الرائحة الكريهه يقولون لك " هناك بلاعة " في وسط الشارع " فيّظِتْ" .. وكلمة فيظت ليست لها معني في القاموس العربي .. ربما تعني " فاضت " وتحولت إلي فاظت ثم إلي " فيّظت " وأنا من رأيى أن حب الشعب المصري للنكتة والضحك والإستهجان عن أمر غير مقبول بالنسبة له فهو صاحب هذا التحوير في تسميتها والتي فرضت نفسها في قاموس اللغة الشعبية والعامة الدارجة فأصبحت فيظت هي بديل كلمة طفحت .
عموما ليست البلاعات لوحدها التي طفحت أو فيظت .. بل نحن المصريون طفحنا من الأعمال غير السليمة التي نصنعها بانفسنا ... فعندما تزداد العقوبة لمخالفتنا للقوانين .. تزداد الرشوة التي نعطيها لبعض من موظفي الدولة الذبن لهم قدرة رفع المخالفة في منتهي السهولة .. لو واحد فقط فينا منع نفسه من هذه العادة القبيحة الكل سوف يلتزم . نحن طفحنا وفيظنا من أسلوب الرشاوي فهي موجودة في كل مؤسسات الدولة .. وتُمارس علنا حتي أصبحت طبيعة في كثير من الشعب المصري .
حتي المؤسسة الصحية أيضا طفحت وفيظت وإنبعثت وما زال ينبعث منها الروائح الكريهة من إهمال عمال النظافة لها وتكاسل بعض هيئات التمريض التي رفعن أيديهن عن الرحمة .. ولا أنسي ممرضي الرجال فهم جماعة من التجار في الأرواح .. ولا أنكر تساهل أغلب الأطباء في وجودهم حسب المواعيد المحددة لهم.
حتي المؤسسة التعليمية فيظت منذ اوائل السبعينات القرن الماضي .. وطبعا السبب شلة من المرتزقة كانت السبب في إنهيارها وأصبحت أخطبوط مٌسيجها من جميع جوانبها لدرجة أن التقويم أو التصحيح في منظومة التعليم في منتهي الصعوبة ويكون علي وشك الإنهيار كما يحدث حاليا في محاربة النظام الجديد الذي وضعه وزير التربية والتعليم .
لا أستطيع سرد عدد الهيئات والمؤسسات التي فيظت أو طفحت بما داخلها من روائح كريهة .. من الصعب معالجتها إلا لو تدخل المصري نفسه الذي ساهم في هذا الخراب أن يخلع ثوب الفوضي والإتكال والتمسح بالدين ويتوجه فورا إلي عملية الإصلاح والتنمية والعمل والتعليم .
علينا أن لا ننكر أن المصري نفسه جعل مصر تفيظ .. ألم يحن الميعاد لكي يعيد أمجاد الزمن الجميل ..!