الأنثروبولوجيا القبطية.. وعبقرية البقاء.. "فى الحضيض"
ماهر عزيز بدروس
الخميس ١٨ اكتوبر ٢٠١٨
بقلم: دكتور مهندس/ ماهر عزيز
انحدر الأقباط الأرثوذكس المصريون مباشرة من قدماء المصريين فى الحقبة الفرعونية يحملون قيمهم وشجاعتهم وسمو خصالهم.. لكنهم ما فتئوا على الأجيال والسنين يفقدون تميزهم عبر عمليات أنثروبولوجية متعددة ضربت فى تكوينهم الأصلى وأحدثت فيه تشوها حاداً.
فمنذ دخول العرب مصر عَرَفَ القبط وضعهم كذميين.. وتقلبت أحوالهم بتقلب فترات التاريخ وأهواء الحكام ونزعاتهم الظالمة.
أربعة عشر قرناً من الذمية جعلت الأقباط يتسمون بالحذر والترصد والاحتراس والمجاملة على حساب مشاعرهم الحقيقية.. فآثروا الخنوع تجنباً للتعذيب.. وتخفوا فى النفاق العريض اتقاء للغدر وهم يرتجفون.
وقائمة مناحى التفرقة والحط من شأن الأقباط قائمة طويلة مما أصاب الروح القبطية بصنوف من الذل والانكسار والترهيب الدائم والكآبة والجزع الذى لم ينته حتى مع الإغراق فى النفاق هروباً من الإبادة الجماعية المقنعة!!
لقد بلغ انتهاك حقوق الأقباط فى عصور الذمية المتوالية أعلى درجاته.. لكن الأقلية القبطية الضخمة بقيت على العصور - رغم ممارسات الظلم الفادح بجذورها العميقة الضاربة فى الأرض المصرية والتاريخ المصرى - تتشبث بهويتها وسط المعاناة والمصاعب..
هؤلاء الأقباط انطووا على أنفسهم متراجعين منذ وضعت الذمية سيفها الباتر على رقابهم.. واتخذوا موقفاً محافظاً كحراس لإيمان يتهدده الخطر.. وأدت الليتورجيا الأرثوذكسية دورها الخالد فى بقائهم الذى كان لهم بمثابة المعجزة على أى وجه من الوجوه..
معجزة البقاء رغم كل محاولات المحو الضارية..
وهى معجزة ينسب الفضل فيها للوجود الفيزيقى والروحى للكنيسة القبطية التى بمخزونها الإيمانى والاستشهادى الضخم شكلت الهوية العقيدية الحافظة للوجود القبطى على الأرض المصرية، رغم كل العذابات ومحاولات الإبادة.
وفى جُمْلَةِ العصور كلها بقى الأقباط الأرثوذكس يحوزون امتيازاً حزيناً بأنهم قدموا أكبر عدد من المضهدين فى العالم المسيحى بأسره.. لكنهم يبتهجون بأنهم استمروا على الزمان رغم كل القوى التى حاولت إقصائهم والتخلص منهم.
لكن السؤال الجاد الذى يبرز هو: على أى نحوٍ ظلُّوا باقين إلى يومنا هذا؟
لقد درج الكتَّاب والمؤرخون على التأريخ للأقباط الأرثوذكس فى مصر بوصفهم أبناء المعجزة التى احتفظوا خلالها بوجودهم عبر التاريخ رغم صنوف الاضطهاد والترهيب والتدمير والإبادة التى تعرضوا لها على يد الرومان الوثنيين ثم البيزنطيين المسيحيين ثم عصور الذمية الرهيبة الفاتكة المتتالية التى استعبدتهم وروعتهم واقتاتت على دمائهم وأعراضهم وأولادهم وممتلكاتهم وحياتهم كلها إلى اليوم.. ولم يُرحموا من الذل الذى تربص بهم سوى فى أوقات نادرة على مسار العصور.. مما سَلَّمَهم إلى معالم نفسية وفكرية خاصة جعلتهم رغماً عنهم يسلكون فى الواقع.. ومع بعضهم البعض.. مسالك الإفك، مسوقين فى ذلك بالخوف الذى يسرى فى دمائهم من أية مواجهة ، والهروب الذى يقبع فى خلاياهم من الحقيقية، والتخفى فى الزيف الذى يعشش فى أفئدتهم طلباً للتقرب والإيهام بالمحبة.. بينما المشاعر الحقيقية الباطنة قد تنطوى على البغضة والحيلة والجد فى الإيقاع بالشر!!!
هم لطفاء مسالمون محبون فى علاقاتهم الخارجية وظاهرهم الودود.. لكن منهم من هم – على نحو منتشر للأسف – يحتفظون فى داخلهم بمشاعرهم الخاصة التى قد تكون على خلاف ذلك تماماً.. حتى ليظل الكثيرون الخادمون والقادة والموجهون والإكليروس منهم يتشدقون بالمحبة فى كل لحظة إلى أن تأتى ساعة الجد فتنكشف المحبة الظاهرة إلى تلون عجيب قد يبلغ حدَّ البغضة، والتخطيط الدنىء بالشر، واشتهاء زوال النعمة!!!
وزاد فى ترسيخ هذه الطبيعة المتجذرة فى غالبية كبيرة منهم ذاك التداول المهترئ للأدبيات الدينية والتفسيرات المغلوطة لآيات الكتاب المقدس على النحو الذى يكرس المواربة والتخفى والاستسلام والخنوع والتلون على كل أطياف النفاق الممكن.. بينما صوت المسيح المجيد يجلجل فى ثنايا الإنجيل كله بالجسارة والحق والعدل والحب وشجاعة المواجهة والمصير..
هناك فى الواقع للأسف شواهد بلا حصر ولا عدد لعلنى ألقى الضوء هنا على إحداها:
كان صاحبنا أميناً للخدمة فى أحد الفروع الرائدة بمدينة القاهرة، وتم اختياره فى عملية فحص شامل لما يقرب من ستمائة خادم وخادمة، على أعقاب انقسام حاد تسبب فيه الاستقطاب المكير بين كهنة الكنيسة، فضلاً عن النخر فى هيكل الخدمة بواسطة خدام الصغائر والضغائن والغيرة القلبية واللعب على الأوتار المهترئة..
كان اختيار صاحبنا بقوة احتفاظه بمحبة الجميع من زملائه وتلاميذه، وعدم انخراطه فى أية استقطابات أو دسائس البتة.. ومن واقع تاريخه الحافل بالبذل والريادة والتنوير.
لكنه وقد صار أميناً للخدمة إذا بزملاء الصبا ينقلبون عليه.. وإذا بتلامذته يُستَقطَبون للعناد.. وإذا بوجه النفاق الصفيق يغشى المشهد كله حتى باتت الأحضان الظاهرة سيوفاً تغمد فى الظهر لدى أول استدارة.
وقف صاحبنا مشدوهاً يتساءل: أليس أولئك جميعاً هم الذين يبالغون فى رطانات المحبة خلال خدمتهم.. أيتنكرون هكذا لكل محبة حقيقية فى الواقع ونفس الأمر؟
أهكذا يسكبون قول الحق الذى أطلقه يسوع: "الكلام الذى أكلمكم به هو روح وحياة"(يو 6 : 63).. فلا يعيشون ما يُعَلِّمون به؟
أهكذا يدوسون بقلوب غليظة وأفئدة مخادعة ما ينادون ويتشدقون به صباح مساء؟
وقف صاحبنا يقلب الأمر على وجوهه مذهولاً أن يبلغ النفاق بطليعة من المسيحيين الأرثوذكس هذا الحد كله.
ولا يزال يأخذه الذهول من جميع أقطاره حين يصادف قبطياً كريماً فى الظاهر.. يفتح ذراعيه بأحضان المحبة الخديعة فى الوجه، بينما القلب فى الخفاء مملوءاً خصاماً وحسداً.. والنفاق ينشر أجنحته السوداء على المجال كله!!!
لقد درجت التربية الكنسية الكلاسيكية على تلقين المخدومين السيد المسيح على نحو استسلامى خنوعى "انهزامى" يرسخ أخلاق العبيد بدل أن يغرس فى النشء جسارة المسيح وحقانيته، حتى لقد تحولت فكرة التسامح المسيحى عند الكثيرين إلى فكرة خداعية لئيمة تلتحف بالنفاق.
قد يقول لك كثيرون: سامحنى أو سامحتك، لكنهم لو أمكنهم يفتكون بك لفعلوا.. بَيْدَ أنهم يتحصنون بالنفاق فيرائى الواحد منهم كأنه يسالمك بينما قلبه مملوء بالضغينة.. ومن خلف ظهرك ينضح بالكراهية والحقد!!!
لم يستطع المعلمون الكثيرون بمدارس الأحد وهم يسلمون أطفالهم غفران المسيح أن يمنحوهم كذلك شجاعته، ولم يتمكن الإكليروس وهم يخضعون الشعب لإرادتهم ويسلبونهم وعيهم أن يسلحوهم بشموخ المسيح وإبائه وحقانيته..
فتكون النهاية المؤلمة للتعليم المسيحى كله فى القبطية الأرثوذكسية أن يُسَلِّمَ المعلمون والإكليروس الأولاد والشعب فى النهاية انحطاطاً أخلاقياً مدخله الرحيب هو هذا النفاق ذاته.
ونسأل: ما النفاق؟ ذاك الذى صار السمة الجوهرية لكثير من الأقباط الأرثوذكس المصريين؟
جاء فى المعجم الوجيز من أعمال مجمع اللغة العربية بمصر التعريف التالى:
المنافق : من يُظهِر خلاف ما يبطن..
والمنافق : من يخفى الكفر ويُظهر الإيمان..
والمنافق : من يُضْمِر العداوة ويُظهِر الصداقة..
وهكذا يكون المنافق هو من يخفى كراهيتك واشتهاء زوال نعمتك بينما يظهر لك الحب ويتمنى لك الرغد والسعادة بلسان غاش وشفاه كاذبة.. وينتشر أولئك المنافقون بكثرة بين الأقباط الأرثوذكس كالحجارة على السفح أو الديدان على الأوراق المتآكلة فى الحقول المعطوبة.. ويُظْهِرُون لك الطيبة والود.. ويتمنون لك الرفاه والخير.. لكن من لسان كالحية وشفاه كالأفعوان.
المنافق قد يحتضنك ليخفى سم قلبه.. لكنه قد لا يلبث يدير لك ظهره فيذهب لأبشع ساحر يُعِدّ تعويذة نجسة ليلقيها تحت تراب المقابر أملاً أن يوقع بك شراً مستطيراً لا يخطر على بالك ولا يقفز لخيالك أبداً.
النفاق هو أن تكذب على غير الصدق الذى بين يديك..
وأن تُظْهِر غير ما تخفى فى خبيئة قلبك..
ويرتبط هذا النفاق أكثر بتصنع التواضع وتمثيله فى اتقان الكاذبين..
مفهوم التواضع ذاك فى التربية الأرثوذكسية القبطية يبدأ كمفهوم سامى نبيل.. لكنه سرعان ما يستحيل فى الممارسة الواقعية تصرفاً ذميماً مرذولاً حتى ليصير أحد تجليات النفاق الكبرى.
ولم يسلم من ذلك الكذب والنفاق بعض القادة الدينيين أنفسهم، حتى يبلغ النفاق أحياناً فى القضايا الكبرى غاية الفجور.. فتكون الوقائع والأحداث أكثر ذيوعاً من الفضيحة، وأشد اشتعالاً من الحريق.. لكن التعليقات والتصريحات التى تُطْلَق تَنْشُرُ نفاقها العفن فى الأجواء كلها، وتزكم الأنوف بأشد من عفونة الجيفة.
لقد بقى الأقباط الأرثوذكس عبر المحن.. نعم
بقوا على نحو معجزى خارق لأن الاضطهادات المتوالية الفاجعة كانت كفيلة بمحوهم من على وجه البسيطة..
ولكن على أية صورة حفظوا بقاءهم .. هذا هو السؤال؟
لقد أورثت طول الذمية والاضطهاد الروح القبطية فى الكثيرين المكر والدهاء والنفاق الذى يلون المعاملات كافة.
لكن الدهشة سرعان ما تزول حينما نرجع بخيالنا إلى مشاهد الذمية الرهيبة التى فتكت بالأقباط طوال السنين ولازالت تفعل فعلها المسموم فى أفئدة القبط الأرثوذكس.. لا يفلت منهم سوى قلة ضئيلة لا ينسحب أثرها الإيجابى على المجموع كله.
لقد دمرت هذه الذمية الأخلاق القبطية الأرثوذكسية تدميراً مروعاً فمكنت للنفاق فى معاملات الناس منهم تمكيناً بائساً جعل حياتهم كلها تقريباً غارقة فى المجاملات المسمومة دون أن يدروا.
خمسة وسبعون فى المائة من الشعب المصرى على الأقل وبينهم الأقباط - خاصة فى الأرياف - يدسون ليعضهم البعض بالسحر والعهد مع الشيطان ليلاً وهم أنفسهم – الأقباط منهم – أولئك الذين يدمنون الحضور فى القداسات صباحاً ويمدون أيديهم بعضهم للبعض بقبلة المحبة.. ثم يستديرون بعدها ليطعن كل منهم أخاه بالأسحار والتعاويذ وأعمال الخسة والغدر والدناوة..
ومهما يكن رأيك فى وجود السحر من عدمه.. وفى فاعليته من انعدامها.. فإن تجارة السحر الرائجة بالمليارات فى هذا الشعب الفقير – والتى تغطى وجه مصر كلها – تُظْهِر آية النفاق العظيم.. وتبطن سوء الطوية والدس فى الظلام.. والغدر من خلف الظهور.. يتعاهدون مع الشيطان بأسحار وتعاويذ ليلاً بينما يصلون إلى اللـه صباحاً فى الكنائس "ويقبلون بعضهم بقبلة مقدسة"!!!
لم يعصمهم من هذا النفاق المتجذر أية رطانات يتلونها فى الصلوات "المقدسة"، أو أية خداعات يتلقونها من معلمين فسدة وتعليم أفسد!!!
وإكليروس عديدون للأسف يقترفون السحر كل يوم للقصاص ممن يعاندهم، والإيقاع بمن لا يروق لهم، والسيطرة فى النهاية على جميع الذين يفترض دائماً أنهم يخدمونهم بأمانة.. فإذا بهم فى الليل البهيم يحتالون عليهم بعهد الشيطان بينما يمسكون بأيديهم الدنسة فى الصباح الأفخارسيتا المقدسة.
... ...
على أن بصيصاً من الأمل لقهر النفاق الذمى للأقباط الأرثوذكس يضوى الآن على خفر وحياء كجذوة النار من تحت الرماد فى جيل الشباب الجديد.. لعله يقوى ويقوى فيقطع أوصال النفاقية المتأصلة فى القلوب والنفوس ويُحِلّ محلها شجاعة المسيح وجسارته التى أبت أبداً أن تكذب أو تنافق.
يلمع هذا الحق الصُرَاح فى عيون بناتى من الجيل الجديد حين يصفعننى بصراحة خطيرة فى أى موضوع دون رتوش من نفاق أو ظلال من كذب أو ألوان من مداراة الحقيقة التى تتقد فى قلوبهن.. وهن مثال جيد للجيل الجديد.. عندئذ يشرق قلبى بالأمل لعهد الناس الجديد.
الأمل الوحيد الباقى للخلاص من أسر النفاق القبطى المزمن الحضيض هو فى هذا الجيل الجديد.. جيل بناتى اللاتى يصفعننى بصدقهن العظيم فى أى موقف وأى قضية..
لا يعرفن أن يجاملن أبداً على حساب الحق الذى ترتئينه..
ولا يستطعن الكذب أبداً ولو على رقابهن سيف..
يصرحن برأيهن فى شجاعة أدبية بالغة غير عابئين بأى اعتبار سوى الصدق.. والصدق وحده: الصدق للـه.. والصدق للنفس.. والصدق للآخر..
وقد راعيت فى تربيتهن أن أكفل لهن كل أسباب الحماية من النفاق القبطى الكنسى المكين فى التربية الكنسية والحياة القبطية بعامة، الذى يترأى فى المجاملات الفجة وإخفاء الشعور الحقيقى على حساب الحق والصدق والسواء مع الذات.
الأمل الباقى الوحيد لتربية جيل خالى من النفاق ومن الأمراض الخلقية المتوطنة للقبط فى الروح والنفس والإرادة.. هو هذا الجيل الجديد..
جيل بناتى وأولاد المهجريين والأجيال القادمة بعدهم..
هذا الجيل الجديد الذى يشب على رفض النفاق.. واعتماد الصدق والشجاعة الأدبية أسلوباً للبراءة والنقاء والسمو على الحضيض.
استشارى الطاقة والبيئة وتغير المناخ