بقلم : د. نصير الحمود
لعل أكثر ما يشغل الأوساط الاقتصادية العالمية والإقليمية في الوقت الراهن ذلك الأمر المتصل بالتجاذبات السياسية التي تشهدها واشنطن إزاء كيفية التعامل مع تنامي دين البلاد لمستويات شارفت على السقف المسموح به.كما يلحظ أن الساسة في أكبر اقتصاد بالعالم يتسابقون لإيجاد حل لتلك الأزمة قبل حلول يوم الثلاثاء المقبل، لأن موعدا يلي ذلك اليوم يعني عجز الولايات المتحدة عن الوفاء بديونها فضلا عن إخفاقها في الحفاظ على تصنيفها الائتماني الذي قد يتسبب في انفجار قنبلة موقوتة يزيد صدى صوتها عن الأزمة المالية التي انبعثت في أميركا ذاتها قبل 3 سنوات.لكن ما يعنينا هو السيناريو الاقتصادي الأردني في حال اتساع حلقات هذه الأزمة الأميركية، كما يجب أن ندرك أن إيجاد واشنطن للأزمة ذاتها لا يعني إسدال الستار عن فصولها،
إنما تأجيلها إلى حين كما يترافق ذلك مع تواصل اهتزازات الاقتصادات العالمية نتيجة تردي الثقة بالاقتصاد الأميركي وعملته المعتمدة كأساس للتبادلات التجارية الدولية.يتأثر الأردن بهذه المعادلة المتشابكة في جوانب ذات صلة بالقيمة الشرائية للدينار ويتواكب مع ذلك مستويات التضخم وأسعار الفائدة، كما تتأثر المملكة في جوانب ذات صلة بالسياحة والتحويلات المالية للمغتربين وغير ذلك أمور جمة.على راسمي السياسة الاقتصادية في المملكة وضع السيناريو الأمثل لمواجهة تداعيات استمرار وهن الاقتصاد الأميركي، فيما يعد الدولار العملة التي يلتصق بها الدينار على صعيد الصرف وهو أمر من الصعوبة بمكان تغييره في الأمد القصير في ظل وجود تداعيات اقتصادية محلية لا تقل ارتباطا عما يجري في أوروبا والولايات المتحدة، كما أن الحكومة الحالية ومن سيخلفها مطالبون بوضع خراطة طريق لمواجهة أي أزمة اقتصادية تنشأ عن تطورات قادمة تحملها الرياح من بلاد العم سام.ستواجه الأردن مشكلة حقيقية في كلفة مستورداتها من جراء ارتفاع تكلفة وارداتها من اليابان والمملكة المتحدة فضلا عن أوروبا حال تواصل تردي سعر صرف الدولار وبالتالي الدينار،
بيد أنها تملك القدرة على تعظيم دور قطاعي الصناعة بغرض التصدير والسياحة بغرض اجتذاب زوار أوروبا وآسيا فضلا عن استراليا نتيجة ارتفاع أسعار صرف عملات تلك البلدان والقارات وبالتالي رفد ميزان المدفوعات التي سيلقي عليه عبء تنامي المستوردات وتكلفتها.باعتقادي لا تقوم السفارات الأردنية في أوروبا وآسيا بدور حقيقي في جذب السياح من تلك البلدان، إذ يقتصر الأمر على جهود متفرقة من قبل وكلاء السياحة، ولو رفدت هذه السفارات بكوادر قادرة على مخاطبة عقول الأوروبيين والآسيويين لحققنا خطوات تفوق تونس ولبنان وربما مصر، إذ نحفل بمواقع سياحية وتاريخية لا تحفل بها دول شقيقة ولا داعي لذكر البتراء والبحر الميت فضلا عن المغطس ومواقع السياحة الاستشفائية.وفي المجال الصناعي، فإن تراجع الدينار مع تهاوي الدولار يزيد تنافسية صادراتنا للخارج، لكن عن أي صادرات نتحدث، هل هي المواد الأولية ذات القيمة المضافة المحدودة كالإسمنت والفوسفات والبوتاس والتي تعود لشركات باعتها الحكومات السابقة في لحظة تعجل وطيش.
علينا أن نركز على المعارف التي اكتسبها الجيل الصاعد في مجال الصناعات الصغيرة والمتوسطة فضلا عن تلك المتناهية الصغر التي يمكن أن تعمم الفائدة على أكبر شرائح المجتمع في حال دعمها وتوفير فرص التمويل اللازم لها ناهيك عن الترويج لها من قبل الكوادر ذاتها التي سوقت لسياحتنا في سفاراتنا حول المعمورة.نخشى أن تطال الأزمة الأميركية الحالية والمستقبلية مستويات المعيشة في المملكة التي تعاني ازدياد نسب الفقر والبطالة، إذ أن التضخم سيكون أمرا حتميا في المرحلة المقبلة، وحينها ستعجز آلة السياسة النقدية عن درئه نتيجة تكونه من عوامل مستوردة وليس أمر ناتج عن نمو الطلب على السلع والخدمات.مع ضعف الدينار سيلجأ ذوي القدرات المالية من الأردنيين المقيمين بالمملكة أو أولئك المغتربين للتهافت على الأصول الثابتة من قبيل العقارات والأراضي للتحوط أمام تراجع العملة من جهة وغياب الملاذات الاستثمارية المقنعة أمام التضخم المتنامي من جهة ثانية، فهل تم الإعداد حكوميا لذلك السيناريو.وفي هذا الصدد، فإن علينا دق أبواب أصررنا على تجاهلها منذ سنوات وهي أموال المغتربين التي يجري تحويلها لأغراض استهلاكية أو لرغبة أصحابها في تعزيز أصولهم الثابتة المتمثلة بالعقارات والأراضي والتي تعني بشكل من الأشكال تجميدا لسيولة مالية في مشاريع لا تدر دخلا كما أنها لا تخلق فرص عمل إنما تشكل ملاذا تجاه ضعف القدرات الشرائية للدينار.لم تجد المليارات الثلاثة التي تحول سنويا للمملكة من أبنائها المغتربين وعاء يحتضنها ويعيد توظيفها في مشاريع إنتاجية بإدارات ذات مصداقية تضع نصب أعينها تحقيق العائد وتشغيل أبناء الوطن في آن معاً لتظل تلك الأموال مجمدة في عروق الأصول العقارية غير المنتجة،
وهو ما يفرض علينا التساؤلات التالية، من المسؤول عن إقناع هؤلاء بوجود فرص استثمارية في المملكة تحمل في ثناياها عوائد اقتصادية فضلا عن أخرى اجتماعية؟، وعلى أي أساس مؤسسي وتشريعي سيتم خطبة ود أموال هؤلاء للقيام بمشاريع إنتاجية؟، ومن هي المؤسسة المعنية بذلك؟، وكيف يمكن منح أصحاب المال ضمانات على نزاهة من يديرون روؤس أموالهم؟، وهل يمكن أيجاد صندوق يجتذب تلك الأموال لرفد مشاريع صغيرة ومتوسطة ترفد صادرات المملكة وتعين الأخيرة على تقليص العجز التجاري الناتج عن تنامي الواردات؟نأمل أن تترافق أي من الأزمات العالمية ببروز فرق عمل قادرة على رسم سيناريو مستقبلي لما سيكون عليه شكل اقتصادنا وحركيته، إذ يقتصر الأمر على تصريحات متفرقة غير دقيقة لا تتلق مع المنهجية العلمية والفكر الاستثماري والحاجة الاجتماعية.